كان الخوف فى طفولتنا رقيقًا مثل أحلامنا، فأقصى ما كنا نخاف منه عصا سيدنا وفلكته، وما ينتظرنا من العقاب صبيحة يوم غد إذا ساقت الأقدار سيدنا إلى المكان الذى نلعب فيه، فيلمح بطرف عينه تلك الأجسام الضئيلة، وهذه الأقدام الحافية تتسابق وتتصارع خلف كُرة أوشكت معالمها أن تندثر وسط الغبار، ثم يأتينا فجأة صوت المنادى كصافرات إنذار الكوارث: «اجرى.
كنا نخاف من تلك الحكايات التى تمر على أسماعنا بأن فلانًا ابن فلان قد مات غرقًا أو حرقًا، وأنه يظهر ليلًا فى تلك البقعة التى خرجت فيها روحه إلى بارئها، متجسدًا فى صورة قط أسود تخرج من عينيه نار، لتصبح تلك البقع من الأماكن المحرمة، وتصير حدودًا لا يستطيع الاقتراب منها إلا الشجعان، ثم نستمع بإنصات إلى حكايات من تشجع وقرر الذهاب إلى هناك، لينسج لنا بعد هذه الرحلة قصصًا تزيد مخاوفنا وتؤكدها!
كنا نخاف من هتك أسرار شقاوتنا وافتضاح أمرها، تلك الأفعال التى لم تتجاوز محاولات تدخين سيجارة خلسة بعيدًا عن الأنظار، سيجارة قد جمعناها من بقايا أخواتها المتناثرة فى الطرقات هنا وهناك، أو قمنا بشراء عدد منها فى الأعياد لا يتجاوز عدد من قرر الانحراف والإقبال والاشتراك فى تلك الجريمة.. ليتم كشف أمرنا بعد النظرة الأولى من أهالينا، وننال ما نستحق من العقاب.
ثم كبرنا وكبر الخوف معنا عندما رأينا أطفالنا يتحدثون عن «الكراش والإكس»، ويتحدثون بلهجات غريبة على أسماعنا، ويستخدمون ألفاظًا أغرب لا تستوعبها عقولنا، ويسردون قصص الحب الملتهبة بين تلاميذ لم تتجاوز أعمارهم السنوات الأولى من التعليم الأساسي، ويشتعل الخوف فى قلوبنا أكثر فأكثر، عندما نرى فى أعين تلك البراءة ضحكات من السخرية المعلنة، والصرخات المبطنة بالصمت تقول لنا: انظر حولك وتفحص جيدًا، على من تسلط أضواء الكاميرات وتنهال الأموال، انظر حولك وتفحص جيدًا، فقد تغيرت المعانى وتبدلت الأحوال وتحولت المفاهيم، وأصبح العلم فى «الراس مش فى الكراس».. حابب تتأكد خدلك جولة على «انستجرام» و«التيك توك» يابابا!
كبرنا وازداد الخوف فى قلوبنا ونحن نشاهد مقاطع فيديو لشاب يطعن فتاة بسكين فى وضح النهار لرفضها الزواج منه أو الارتباط به، طعنة وراء أخرى، لتسقط تلك المسكينة غارقة فى دمائها تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام الناس، ثم يزداد الخوف عندما ترى أن هذه الحادثة أصبحت مسلسلًا يتكرر بالسيناريو نفسه مع تغير الأبطال وأماكن التصوير.
كبرنا وكبر الخوف معنا كلما رأينا حادثة هنا أو حريقًا هناك، دون أن تجد له تفسيرًا يدخل فى نطاق العقل والمنطق، ودون أن تجد إجابة عن السؤال: كيف يحدث هذا، ولماذا يحدث، ومن المسئول عن ذلك كله؟!
فى طفولتنا كنا نسير بين مخاوفنا وأحلامنا فى شوارع من السكينة والأمان، لا نخاف جوعًا ولا نخشى عطشًا، ولا نحمل همَّ رزق، وعندما كبرنا أدركنا ما كان يحمله الآباء عنا، فتبدلت الأحلام وتغيرت الهموم، وبقيت كراكيب الخوف تلاحقنا وتكبر فى نفوسنا، وبقيت أقصى أمانينا أن نهرب من عقاب سيدنا وفلكته!
>> يقول نيلسون مانديلا :
تعلمت أن الشجاعة ليست غياب الخوف، ولكن القدرة على التغلب عليه.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الأسلحة الثقيلة
إقرأ أيضاً:
غزة تحت المقصلة.. عندما تحول إسرائيل التجويع إلى عقيدة حرب علنية
الثورة / متابعات
في مشهد يعيد إلى الأذهان أكثر صفحات التاريخ ظلمةً، يجد الفلسطينيون في قطاع غزة أنفسهم منذ أشهر طويلة في قلب مأساة إنسانية مركبة، يتصدرها هذه المرة سلاح ليس من الحديد والنار، بل من الخبز والماء والدواء.
سلاح التجويع، الذي كان يُمارس لسنوات بغطاء دبلوماسي أو مبررات أمنية، أصبح اليوم يُنفّذ بصورة علنية وممنهجة، وفق ما كشفته صحيفة نيويورك تايمز في تقرير صادم.
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أعاد تفعيل سياسة “التجويع الجماعي” ضد سكان غزة، هذه المرة دون مواربة، وبدعم مباشر من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
الاستراتيجية، التي تُصنّف دوليًا ضمن جرائم الحرب، تُنفّذ الآن بجرأة، دون اكتراث لقوانين دولية أو لنداءات إنسانية.
من الحصار إلى الجوع المُمنهج
منذ بدء اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025، شهدت غزة انفراجة محدودة في إدخال المساعدات، سرعان ما تبخرت مطلع مارس عندما أغلقت إسرائيل المعابر كافة. لم يكن الإغلاق قرارًا عابرًا، بل جزء من تكتيك سياسي لليّ ذراع فصائل المقاومة في مفاوضات التهدئة، حسبما نقلت الصحيفة.
نتيجة ذلك، عادت الطوابير أمام المخابز التي سرعان ما توقفت عن العمل، وعاد السكان للشرب من مياه مالحة ملوثة، فيما بدأ مخزون الوقود والإمدادات الطبية ينفد بشكل ينذر بانهيار كامل للمنظومة الإنسانية في القطاع المحاصر.
صيام الجسد والكرامة
حلّ شهر رمضان هذا العام على الغزيين وهم يبحثون عن أدنى مقومات الإفطار.
الخبز بات عملة نادرة، ومياه الشرب النظيفة لم تعد متاحة لأكثر من 600 ألف مواطن، بعد أن أوقفت إسرائيل الكهرباء عن محطات التحلية.
القطاع الصحي، المنهك أصلًا، يئن تحت وطأة نقص الإمدادات.
فقد سُجّلت وفاة ستة أطفال رضع في فبراير الماضي بسبب انخفاض حرارة أجسادهم، وسط نقص حاد في البطانيات والرعاية الطبية.
فيما تعجز المستشفيات عن استقبال حالات جديدة بسبب شح الوقود اللازم لتشغيل المولدات.
المواد الغذائية الطازجة اختفت تقريبًا، ومعها بدأت الأسعار في التحليق إلى مستويات غير مسبوقة، لتجعل وجبة بسيطة حلمًا بعيد المنال لعائلات فقدت مصادر دخلها ومدخراتها.
⭕️ المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل:
▪️في غزة أطفال ينامون بلا طعام وأمهات يخفين دموع الجوع خلف ابتسامة مُرهقة وآباء يعودون بلا شيء إلا الحزن.
▪️الجوع في غزة ليس فقرا بل عقوبة ليس حالة إنسانية بل جريمة ترتكب بحق شعب أعزل.
صمت دولي.. وتواطؤ ناعم
ما يثير القلق أكثر من الجريمة نفسها، هو الصمت الصارخ للمجتمع الدولي. فبينما تحذر الأمم المتحدة من كارثة إنسانية وشيكة، تكتفي الدول الكبرى بالتصريحات “القلقة”، فيما تتعامل بعض العواصم الغربية مع المساعدات الإنسانية كأوراق تفاوض سياسية.
منظمات الإغاثة والأمم المتحدة وصفت هذا التجويع العلني بأنه “انتهاك جسيم للقانون الدولي الإنساني”، لكن دون تحرك فعلي أو مساءلة. أما إسرائيل، فتمضي قدمًا في خطتها مستندة إلى واقع سياسي يسمح لها باستخدام الغذاء كسلاح دون مساءلة.
إعاقة ممنهجة لجهود الإعمار
حتى المبادرات الرامية لبناء مستقبل أفضل لغزة تُواجه بالمنع، منظمات حاولت توزيع بذور زراعية، وأخرى شرعت في إعادة تأهيل شبكات المياه أو إزالة الأنقاض، اصطدمت بقرارات إسرائيلية تمنع دخول المعدات الثقيلة والمولدات وحتى الأنابيب البلاستيكية.
ما يجري في غزة لا يُمكن اختصاره في عنوان إخباري أو تقرير إنساني، بل هو نموذج مكتمل لعقيدة عقاب جماعي، تُمارس بوعي وبغطاء سياسي دولي، وتجعل من الحصار أداة حرب ومن المساعدات ورقة مساومة.