شهدت الساحة الفنية في السنوات الأخيرة تحوّلًا عميقًا في طريقة تفكير الفنانين وصنّاع الدراما.

 

و لم يعد الخوف نابعًا من الرقابة الرسمية أو لوائح المؤسسات، كما كان الوضع في الماضي، بل أصبح الخوف ينبع من مصدر جديد أشد تأثيرًا وأسرع بطشًا: الجمهور. أو بالأحرى، الرأي الجمعي الذي تصنعه السوشيال ميديا في لحظات، وتحوّله إلى محكمة طارئة يمكنها إدانة أو تبرئة أي شخص بضغطة زر.

هذا المناخ الجديد خلق طبقة كثيفة من الرقابة الذاتية، رقابة تجبر الفنان على وزن كل كلمة، والمخرج على حساب كل لقطة، والكاتب على تجنب كل فكرة قد تُغضب فئة ما. وهكذا تحوّل الإبداع إلى حقل ألغام، يتحرك فيه الجميع ببطء وحذر، حتى لا تنفجر تحت أقدامهم موجة غضب رقمية تعصف بما تبقى من سمعتهم.

في قلب هذه الأزمة يقف الممثل، الذي لم يعد يتحدث بعفويته المعهودة أصبحت التصريحات مدروسة مثل النصوص، والجمل محسوبة كما لو كانت جزءًا من عمل تمثيلي كلمة واحدة قد تُجتزأ، تعليق بسيط قد يتحول إلى أزمة، ونبرة صوت مختلفة قد تُحمَّل بما لا تحتمل. هذه الحساسية المفرطة دفعت الكثير من الفنانين إلى الصمت، ليس احترامًا للصمت، بل خوفًا من العاصفة. فالممثل الذي كان يومًا ما يتحدث بثقة عن رأيه، أصبح الآن يفضّل الغموض، لأن الوضوح قد يُفهم ضدّه.

أما المخرج، فقد تحوّل من قائد للعمل الفني إلى مدير أزمة قبل حتى أن يبدأ التصوير. المشاهد الجريئة ليست بالضرورة تلك التي تتناول التابوهات، بل حتى أكثر المشاهد اليومية أصبحت تمثل مخاطرة. فكرة جديدة قد تُعتبر إزعاجًا لمجموعة معينة، ومعالجة مختلفة قد تُتهم بأنها إساءة، وتقديم شخصية خارج القوالب التقليدية قد يفتح بابًا لنقاشات لا نهاية لها. هذه الحسابات دفعت البعض إلى إنتاج أعمال آمنة، أعمال يسهل مرورها دون اعتراضات، لكنها تمر أيضًا دون بصمة فنية حقيقية.

وبين هذا وذاك، يعيش النقد الفني مرحلة غير مسبوقة من الضعف. لم يعد الناقد قادرًا على ممارسة دوره الأصلي: التقييم الموضوعي. فهناك من يخشى غضب الجماهير، وهناك من يحاول الحفاظ على علاقته بالفنان، وهناك من اختار الصمت لأن الصراحة لم تعد مستحبة. وبهذا اختفى الصوت الذي كان يوجّه الصناعة من الداخل، ويكشف نقاط القوة والضعف، ويصنع توازنًا بين المبدع والجمهور. ومع غياب النقد، أصبحت الساحة مفتوحة للتجارب المتشابهة والأفكار المكررة، لأن أحدًا لم يعد لديه الجرأة ليقول: هذا لا يصلح.

السوشيال ميديا لعبت الدور الأكبر في هذا المشهد. هي ليست مجرد منصة للتعبير، بل ساحة قتال. الحكم فيها يصدر بسرعة، وأحكام الإعدام الفنية قد تأتي من حسابات مجهولة أو حملات جماعية لا تعرف سياقًا ولا تاريخًا. كل خطأ  حتى لو كان شخصيًا أو عفويًا قد يتحول إلى قضية رأي عام، وكل رأي قد يُحمّل ما لا يحتمل. أصبح الخوف من الهجوم جزءًا أساسيًا من حسابات الفنان قبل أي خطوة.

لكن خطورة الخوف ليست على الفنان فقط، بل على الجمهور نفسه. الجمهور يخسر الإبداع الحقيقي، يخسر التجارب الجريئة، يخسر الأصوات التي كانت تملك القدرة على فتح ملفات غير تقليدية. الفن الذي يُنتَج تحت وطأة الخوف يكون بلا روح، بلا مخاطرة، بلا عمق. يصبح مجرد تكرار آمن، يُرضي الجميع لكنه لا يحرّك أحدًا.

الصناعة تحتاج اليوم إلى شجاعة. تحتاج إلى فنان يستعيد صوته، ومخرج لا يخشى التجربة، وناقد يعود إلى موقعه الحقيقي، وجمهور يفهم أن الاختلاف جزء من الإبداع وليس تهديدًا له. الفن الحقيقي يقوم على الحرية، والحرية لا تزدهر في بيئة تخاف من الكلام.

في النهاية، السؤال الحقيقي ليس: لماذا الفنانون يخافون؟ بل: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وكيف نستعيد مساحة الإبداع التي فقدناها؟ الإجابة تبدأ حين يدرك الجميع  فنانين وجمهورًا وصنّاع قرار  أن الخوف يُنتج فنًا ضعيفًا، وأن المواجهة وحدها هي التي تعيد للفن مكانته، وللمبدع شجاعته، وللجمهور ثقته في أن الفن ليس نسخة واحدة تُصنع لإرضاء الجميع، بل مساحة رحبة تتحمل التعدد والاختلاف والجرأة.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: الفجر الفني مني زكي أحمد مراد

إقرأ أيضاً:

بيت خالتك حكاية لا يعرفها إلا أبناء سوريا فما قصتها؟

في 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري وخلال احتفالات الذكرى الأولى لسقوط نظام بشار الأسد وتحرير سوريا فاجأت إدارة مطار دمشق الدولي المسافرين العائدين إلى البلاد بتوزيع بطاقات تذكارية تحمل عبارة مثيرة للدهشة "اطمئن.. نقلوا بيت خالتك لخارج الخدمة".

بدت العبارة غامضة، لكن بالنسبة للسوريين تحمل تاريخا طويلا من الخوف والمرارة وذكريات حقبة سوداء انتهت بسقوط حكم آل الأسد.

مش فاهمة

— تُقى قايتْباي (@tuqa7_10) December 7, 2025

ففي زمن نظام آل الأسد كان التعبير الشعبي "أخدوه إلى بيت خالته" تعبيرا ملطفا يشير إلى اعتقال الشخص على يد أفرع المخابرات، وغالبا دون مذكرة قضائية أو إبلاغ العائلة، ليختفي فجأة من محيطه، فيغيب قسريا لسنوات أو إلى الأبد.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2جنود القاعدة الأميركية في التنف يشاركون السوريين فرحة عيد التحريرlist 2 of 2هروب رئيس الموساد الجديد من اشتباك مع القسام خلال طوفان الأقصى يشعل المنصاتend of list

هذا المصطلح الذي نشأ من رحم الخوف أصبح جزءا من السخرية السوداء التي استعان بها السوريون لتخفيف وطأة الرعب، في محاولة لتمرير أقسى الأخبار بلغة تجمع بين الدعابة المرة والواقع المؤلم.

كانت قصص "بيت الخالة" ترتبط بالمطارات والمعابر الحدودية، حيث يختفي بعض العائدين أو المسافرين ويُقتادون مباشرة إلى مراكز التحقيق.

ومن أشهر هذه الحالات الكاتب مصطفى خليفة مؤلف رواية "القوقعة"، والذي اعتقل في مطار دمشق الدولي فور عودته من فرنسا بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، هذا الاتهام قاده إلى سجن تدمر الصحراوي سيئ الصيت، حيث قضى 13 عاما من عمره خلف جدرانه.

واليوم، وبعد عام على تحرير سوريا أصبح هذا المصطلح جزءا من ذاكرة الخوف التي يود السوريون طي صفحتها.

رسالة رمزية

توزيع إدارة مطار دمشق هذه العبارة على شكل بطاقة تذكارية لم يكن صدفة، بل كان رسالة رمزية تحمل معنى مزدوجا: الأول أن زمن "بيت خالتك" انتهى، وأن الاعتقالات التعسفية و"التشبيح" الأمني وقرارات المنع من دخول البلاد أصبحت طي الماضي.

إعلان

وثانيا أن السوريين قادرون على مواجهة تاريخهم المظلم بروح من الدعابة التي تحول الألم إلى ذكرى للتغلب عليه.

وعلى مواقع التواصل عبر مغردون عن تفاعلهم مع هذه المبادرة، فقال أحدهم "كلمة لا يعرف معناها إلا السوريون، مصطلح ارتبط بسجون ومعتقلات المخابرات الأسدية السابقة، واليوم نراها تُستخدم لتبشير العائدين بالطمأنينة".

وكتب آخرون أن العبارة -رغم أنها تُضحك اليوم- فإنها تخفي وراءها دموعا وألما، فهي كانت رمزا لـ"الثقب الأسود" الذي من يدخله قد لا يعود أبدا، وإن عاد عاد بجرح داخلي لا يلتئم.

وهكذا، تحولت عبارة كانت ذات يوم مرعبة إلى بطاقة تحمل مزيجا من الدعابة والحرية، في مشهد يختصر انتقال سوريا من زمن الاعتقال والخوف إلى زمن الاحتفال بالتحرر وانتهاء حقبة آل الأسد وأجهزتهم الأمنية القمعية.

يذكر أن رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني قال إنه رغم إفراغ سجون الأسد من نزلائها فإنه ما زال هناك أكثر من 112 ألف مختف قسريا في سوريا.

وشدد عبد الغني على ضرورة العمل على كشف مصير المختفين.

مقالات مشابهة

  • من همس متقطع إلى صوت يصل إلى الجميع.. رحلة شفاء من التأتأة بالكتابة
  • الوجوه المتعددة للبذاءة (2)
  • "التعليم" و"نزاهة" تفتحان ملفات حماية المبلغين والرقابة الذاتية
  • لا خوف على الوحدة الخوف على الانفصال
  • بيت خالتك حكاية لا يعرفها إلا أبناء سوريا فما قصتها؟
  • "سر الحديث الغاضب".. مدرب السعودية يكشف ما حدث مع الحمدان
  • القومي للإتصالات: التكنولوجيا أصبحت ضرورة وديجيتوبيا تمثل أكبر منصة لاكتشاف المواهب في الإبداع الرقمي
  • من الفقر والطرد إلى قمة الشهرة.. أحمد سعد يكشف عن أسرار مشواره الفني
  • ما الخطوة التالية لصلاح وليفربول بعد انفجاره الغاضب؟