لجريدة عمان:
2025-12-12@23:05:45 GMT

كيف نقرأ واقع المجتمعات الإنسانية؟

تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT

لا نجد بدًا من الإقرار أن الجنوحَ إلى عمقِ الكينونةِ الإنسانية -الذي يشكّل العقلُ عمقها الرئيس ولبّ مركزيتها وشريان أفكارها ومشاعرها- يعيد تشكيل صورة وجودية تتماهى معها فكرة المجتمعات البشرية وسلوكها في الحياة، وكذلك لا نجد بدًا أن نحاول عبر هذه السردية المتعلقة بالعلوم الإنسانية من المضارعة -من حيث الأهمية- بين ركامات المعرفة التقنية -التي نالت حظها الأفر في مقالات سابقة- مع علوم إنسانية تنساب بشرياناتها النفسية والأنثروبولوجية والبيولوجية في اكتشاف المجتمعات البشرية وفك لغز حضارتها المبنية على أسس عقلانية تتجلّى فيها ضوابط الأخلاق والقيم والدين والفن والأدب والثقافة بشموليّتها الواسعة.

الحديث عن قضايا الإنسان مهمة شاقة تتفاعل فيها عقلانية العقل وعاطفة الضمير الذي يقف العقلُ المفكّرُ في زواياها المعقّدة حائرًا، مضطربَ الفكرِ خصوصًا مع معضلة المجتمعات الإنسانية المعاصرة التي تأتي فلسطين ومعاناة شعبها في قائمة القضايا الأكثر تعقيدا من حيث سنوات الظلم الجاثم عليهم من قبل الصهيونية وأعوانها المساندين، وتظل جلّ النقاشات وحلولها المقترحة لهذه القضية وما يماثلها ذا زاوية تاريخية -سياسية ودينية- دون تطرقٍ كافٍ للزوايا النفسية والفلسفية الخاصة بالإنسان ومجتمعاته؛ كون هذه الزوايا الأخيرة تملك قدرة عالية -حال اندماجها مع زوايا التاريخ والسياسة والدين- في تتبع جذور معضلة المجتمعات الإنسانية وتحليل أنماطها مثل نمط الأخلاق والمعنى التي تساهم في صناعة العقل الفردي ووعيه والعقل الجمعي ومؤثراته الحديثة، وصناعة الثقافة التي يمكنها -في المقابل- أن ترفدَ الوعي -كما سنرى- وتنقل المجتمعات من مستويات العقل الجمعي إلى حالة «اللامنتمي» الذي يتحرر من قيود العقل الجمعي التي تعوق مساق التفكير وإبداعه وتحرر السلوك الأخلاقي من محبسه الجمعي.

سبق في أحاديث سابقة كتبتها في كتابي «هكذا نتطور» أن تناولنا شيئا من حضارة الإنسان ولغاته ودياناته وأفكاره، ويتماثل في الداخل بعض آخر من هذا الحديث الذي نشتاق إلى وروده وارتياده حتى نشفي غليلَ العقلِ وشغفه في فهم المزيد عن عمق الإنسان ومكامنه المجهولة التي تصنع الفرد والمجتمع، وهنا يتبادر إلى الذهن كتاب «الإنسان ذلك المجهول» لـ«كاريل» الذي قرأته قبل سنوات طويلة وعلق الكثيرُ من سطوره في ذاكرتي، وفي مسار آخر يمكن أن نذهب إلى محاولة لفهم مسوقات الإرادة عند الإنسان وسلوكه وشغفه؛ فكان «المعنى» الذي يبحث عنه كلُ واحدٍ منا هو السر الذي يأتي في أشكال مغايرة؛ فيمكن أن يكون المعنى في الإيمان الذي يصلنا بالله، ويكون عند آخرين في فلسفة أو مبدأ لا يُحاد عنه ولا يُتنازل، وأستدعي في هذا الخصوص ما سطّره «فيكتور فرانكل» في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» الذي خاض فيه حديثًا مُسهبًا في النفس الإنسانية ومآلاتها وصراعاتها الطامحة إلى إيجاد المعنى. تخالج في خاطري مشاهد المجتمعات وصراعاتها المبنية على التنافس الذي لا يُلتزم فيها -إلا في قليل من ظواهرها- بأسس الأخلاق التي نعتقد أنها عُمدُ المجتمعات وأركانه؛ فنجد هذه الصورة -لتوضيح مثالها الحالي- في واقع بعض المجتمعات الغربية خصوصا عند ساساتها عبر ظاهرة الانفصال بين النظرية والتطبيق؛ إذ يتبنّى أمثال هؤلاء الساسة نظريات توجب العدالة والمساواة وحرية التعبير لتوهم الأعمى بفيض الأخلاق إلا أن القطيعة بين النظرية والتطبيق جليّةٌ على أرض الواقع؛ فيكفي أن نشهدَ دعم بعض ساسة الغرب للكيان الصهيوني ومساندته في ممارسة الإبادة الجماعية لأهل غزة وقمعهم العنيف لكل أبجديات حرية التعبير التي تحاول مجتمعاتهم الإنسانية أن تناهض بواسطتها مجازر الصهيونية ووقف إمدادها، وهنا تتجلّى معضلة غياب «الأخلاق» وضوابطه التي تحقق العدالة وحقوق المجتمعات والإنسان.

في خضم ما نشاهده من صراعات في المجتمعات البشرية -الذي يعكس وجود القطيعة بين الغريزة الأخلاقية عند الإنسان ودوافع السعي إلى البقاء عبر أساليب الصراع- تتبادر إلى أذهان البعض مسألةُ الفوضى الوجودية التي أوهمت البعضَ بفكرة غياب الخالق، وأن الحياة برمتها مبنية على نمط العشوائية والفوضى التي تسلب إرادة الوجود وأشياءه، وكم تتنازع مثلُ هذه المسائل المربكة في أذهان البعض؛ فتثير حوارا يَؤُول إلى حدوث القطيعة المقصودة - المشار إليها آنفا-، ولعلّ هذا ما يمكن أن يفسرَ نزعة الإنسان إلى تجاوز حدود الأخلاق بممارسة الظلم وفقدان المسؤولية، وهنا لا تردد في القول أن هذه الفوضى متحققة في غالب واقعها التي لا تتوافق مع مصوغات المبادئ الأخلاقية، و يعود مآل ذلك إلى غلبة الفئة الصاعدة بقهر الإنسان الآخر عبر تسخير المجموعات من البشر في ظل غياب الوعي والسمو الأخلاقي؛ فجزء من المجموعات البشرية أسير تأثيرات العقل الجمعي وإرادة المتنفذين من البشر القاهرين بواسطة وسائل تتغاير مع تغيّر الزمان وتقدمه؛ فالإعلام ووسائله التقليدية والرقمية -في زمننا- مثل وسائل التواصل الاجتماعي هي من تقود عملية صناعة العقل الجمعي الذي -في كثير من مظاهره- يعمل على تفكيك البِنية الإنسانية المتمثلة في القيم الأخلاقية ويهشّم أبجديات إنسانيته؛ فيصنع منه الإنسان الضار والمجرم والمدمن، ولا غَرْوَ أن نعيدَ مشهدَ الصهيونية وأساليبها التي تهدف إلى الإضرار بالإنسان وحضارته؛ لتضمن بقاء وجودها ولو على حساب المجتمعات الإنسانية وحياتها، ونحن هنا بحاجة إلى مراجعة شاملة للمنهجية التدميرية التي تستهدف الإنسان ونظامه الأخلاقي والمجتمعي عبر وسائل شتّى تضاعفت مع دخول العصر الرقمي.

في خضم مشهد مغاير يُظهر محاولة إعادة نصاب الإنسانية وأسسها الأخلاقية إلى كينونتها الوجودية التي تتموضع في الوعي الإنساني، وبذلك تكون هناك مقاومة مضادة لفوضى المجتمعات الإنسانية وصراعاتها، ويتجسّد هذا المشهد في تنامي الوعي الإنساني العالمي دون أنْ يحدَّ بدينٍ أو جنسٍ أو عِرقٍ؛ فتتسع رقعة الوعي الأخلاقي في أفراد المجتمعات، وتنتفي بذلك أيقونة «اللامنتمي» التي أطلقها «كولن ويلسون» التي حملت معنى أن توجدَ فردا في مجتمع بشري تتقاذفه الصراعات والتفاهات، وأن تكتشف أنك لا تنتمي لهذا المجتمع الذي لا يتماشى مع أسس أخلاقية؛ فيطغى عليه الظلمُ والقهرُ، وأسوأ من ذلك غياب الوعي الإنساني الواسع الذي يملك حقَ مناهضة هذا الظلم، ولعلّ ما سطّره «كولن ولسون» في عام 1956 يعكس تجربةً قاسيةً خاضتها المجتمعات الغربية إبّان الحرب العالمية الأولى والثانية؛ فتركت أثرها الذي يعكس اليأس في قلب الإنسان «اللامنتمي» إلا أن صحوة الضمير الإنساني أعادت سد فجوة الأخلاق ومعضلتها المزمنة التي نخرت المجتمعات البشرية وأوشكت على الإجهاز على ما تبقى من أشكال الحياة وأخلاقها، وهذا ما نراه من مشاهدِ التحرر العالمي من قيود العقل التي تعوق فيض نزعته الأخلاقية؛ فتعبر عن رفضها للقطيعة بين هذه النزعة -المغيّبة قسرا- وبين الواقع المأمول.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المجتمعات الإنسانیة المجتمعات البشریة العقل الجمعی

إقرأ أيضاً:

كايسيد يحتفل بمرور 10 أعوام على برنامج الزمالة الدولية

صراحة نيوز- احتفل مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، في العاصمة البرتغالية لشبونة، بالذكرى العاشرة لإطلاق برنامج كايسيد للزمالة الدولية، أحد أبرز برامجه الرائدة في بناء قدرات القيادات الدينية والتربوية والمجتمعية حول العالم.

وشهدت الفعالية مشاركة واسعة من شخصيات دينية ودبلوماسية وأكاديمية تمثل دولًا وثقافات متعددة.

وفي كلمته الافتتاحية، أكد الأمين العام بالإنابة السفير أنطونيو ريبيرو دي ألميدا، أن إطلاق البرنامج قبل عقد جاء انطلاقًا من قناعة بأن السلام المستدام لا يتحقق دون إشراك الفاعلين الأقرب إلى المجتمعات. وقال:

“آمنا منذ البداية بأن الحوار يجب أن يُبنى على الثقة المتبادلة، وأن تكون أصوات المجتمعات المحلية جزءًا من صناعة القرارات الوطنية والدولية، فالسياسات والمؤسسات مهمة، لكن السلام يظل ناقصًا ما لم يكن شاملًا للجميع.”

وأشار إلى أن البرنامج أثبت خلال عشر سنوات قوته التحويلية حين يتحول الحوار من مفهوم نظري إلى ممارسة واقعية تقودها المجتمعات نفسها، موضحًا أن شبكة الزملاء تضم اليوم قيادات من نحو 100 دولة تمثل مدارس دينية وثقافية متعددة.

من جهته، أوضح عضو مجلس إدارة المركز وممثل الكرسي الرسولي للفاتيكان لوران بسانيت، أن نهج كايسيد يقوم على تعزيز التعاون بين القادة الدينيين وصناع القرار لمعالجة تحديات عالم اليوم، مبينًا أن المركز يزود القيادات بمهارات في حقوق الإنسان ويفتح أمام صناع القرار آفاقًا لفهم أعمق للثقافات الدينية.

وأكد الأمين العام السابق للمركز فيصل بن معمر، أن البرنامج يستند إلى رؤية تأسيسية ترى أن السلام الحقيقي يصنعه أفراد ومجتمعات تلتقي على أرضية الثقة، وأن الحوار يجب أن يتحول إلى ممارسة يومية تتجسد في مبادرات واقعية على الأرض.

وفي السياق ذاته، أوضح مدير برنامج الزمالة أندرو ج. بويد، أن الحوار بين أتباع الأديان والثقافات هو لقاء يقوم على الإصغاء الفعّال والمتعاطف وغير المتحيز، بهدف تعزيز الفهم المشترك والتعاون لتحقيق الأخوة الإنسانية والسلام.

وتضمّنت فعالية الذكرى العاشرة عروضًا وشهادات مؤثرة لخريجي البرنامج حول أثر مبادراتهم في مجتمعاتهم، إضافة إلى جلسة نقاشية تناولت مستقبل الحوار عالميًا.

ويُشار إلى أن البرنامج أُطلق عام 2015 ضمن مبادرات المركز الرامية إلى تطوير كفاءات القيادات الدينية والتربوية والمجتمعية. ويمتد على مدار عام كامل يجمع بين التدريب الحضوري والافتراضي، ويُختتم بمنحة صغيرة لدعم تنفيذ مشروع حواري يخدم المجتمع المحلي للزملاء

مقالات مشابهة

  • المحللون الحزبيون على الشاشات… من يمثل من؟ واقع إعلامي بلا اسمنت مهني
  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • المجتمعات العمرانية توقف تعاملات خليج الغرام .. والزمالك يرد على القرار
  • كايسيد يحتفل بمرور 10 أعوام على برنامج الزمالة الدولية
  • رحلة العمر
  • مصر: كثفنا جهودنا على مدار عامين لدعم الأوضاع الإنسانية في غزة
  • حرب وانتهاكات جسيمة: السودان.. واقع مظلم في يوم حقوق الإنسان
  • المشرف على الرواق الأزهري: الاجتهاد فريضة إسلامية والحرية الفكرية منهج علماء هذه الأمة
  • قومي حقوق الإنسان: الكرامة الإنسانية هي الأساس الذي يُبنى عليه أي نظام ديمقراطي
  • لماذا تحتاج المؤسسات المالية إلى الأخلاق؟