اعتاد العالم أن يوجه أصابع الاتهام إلى المتطرفين بوصفهم استثناء عن القاعدة. لكن ماذا لو لم يعد التطرف استثناء؟ ماذا لو بات قاعدة في تفكير المجتمعات، وسلوك الأفراد، وخيارات الدول؟ بل ماذا لو أصبح التطرف ـ دينيا كان أم سياسيا، ثقافيا أم طائفيا ـ هو النَفَس اليومي الذي نتنفسه، دون أن ندرك أننا نختنق به؟
لم يعد التطرف اليوم مقصورا على الجماعات المسلحة أو الحركات الدينية المتشددة، بل تسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، تسلل إلى نقاشاتنا، وإلى انحيازنا واختياراتنا، وإلى نظرتنا للآخر، وحتى إلى طريقة قراءة الأخبار وتفسيرها.
وساعدت التحولات التكنولوجية الهائلة، وثورة وسائل التواصل الاجتماعي، في تكريس منطق «الاصطفاف» المتطرف.. إما أن تكون معي، أو فأنت ضدي. إما أن تتبنى موقفي بالكامل، أو فأنت خائن. لا منطقة وسطى أبدا، ولا احتمال للتعدد في وجهات النظر. وهذا النوع من التفكير الثنائي هو الوجه الجديد للتطرف، وهو أكثر تعقيدا من مجرد خطاب كراهية، وأشد تأثيرا لأنه يتخفى في شعارات الفضيلة والمبادئ والخطاب الشعبوي الذي يدغدغ المشاعر الدينية والوطنية.
لا يولد هذا الغلو من فراغ، فثمة أسباب عميقة تتضافر لصناعته تتمثل في ما يمكن أن نسميه بالفقر الثقافي، وهشاشة الهوية، والخوف من التغيير، والعجز عن قبول التعدد الفكري. لكن هذا النوع من الغلو، وفي الحقيقة كل أنواعه، إنما هو نتيجة منطقية للمجتمعات لم تُربَّ على فكرة النقد، وعاشت حياتها على فكرة التلقين، ومجتمعات لم تعتد أن تعيش مع المختلف عنها ثقافيا وفكريا، واعتادت أن تهاجمه وتخوّنه، وتسخر منه. ويتأسس هذا المستوى من التفكير من داخل الأسرة، ومن المدرسة وحتى من المؤسسات التي لا يسودها التفكير المشترك إنما «الصواب الأوحد» الذي لا يأتيه الباطل من أي مكان.
ويبدو أن الكثير من الموازين باتت مقلوبة، فحتى الاعتدال لم يعد ينظر له باعتباره قيمة نبيلة لا بد أن نكرسها في حياتنا وحياة مجتمعاتنا. وتحول المعتدل في هذه البيئة الجديدة إلى «متخاذل» أو «جبان».
والأزمة هنا لا تكمن في التطرف بوصفه ظاهرة، ولكن في تحوله إلى معيار جديد للحكم على المواقف، فالغلو لم يعد دخيلا، ولكنه هو الطبيعي، وبديله يُستقبل بالريبة. بل إن بعض التيارات الدينية والثقافية باتت تقدّم الغلو بوصفه دليلا على الالتزام الحقيقي، وكأن الوسطية ضعف، والرحمة تواطؤ، والانفتاح تفريط.
ومع هذا كله، فإن الخطورة الأكبر لا تكمن في الأفكار المتطرفة بحد ذاتها، بل في البنية الثقافية التي تتقبل التطرف بوصفه أسلوب حياة، كأن تصبح لغتنا التي نتعامل بها في حياتنا وفي بناء أفكارنا لغة متطرفة، وذوقنا متطرف، ونقاشاتنا اليومية متطرفة، واحتفالاتنا متطرفة، وغضبنا متطرف، فإننا حينها نكون أمام حالة مجتمعية كاملة لا مجرد أفعال هامشية.
لا يسود هذا الأمر في المجتمعات العربية فقط، ولعل مشاهد الاصطفاف العنيف في السياسات الغربية، وتصاعد الشعبويات القومية، والحروب الثقافية في الجامعات الغربية، تؤكد أن التطرف لم يعد مشكلة شرق أوسطية فقط، بل هو أزمة إنسانية عالمية.
نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة بناء الثقافة الوسطية باعتبارها موقفا معرفيا وأخلاقيا وسلوكيا بدءا من العتبات الأولى للتربية وليس انتهاء إلى الأطروحات الفكرية والفلسفية الكبرى التي ينتجها المفكرون والفلاسفة. كما نحتاج إلى تفكيك البنى النفسية والثقافية في مجتمعاتنا لفهم أسس بناء التطرف والغلو فيها، وهذا وحده الذي يستطيع أن يحمي المجتمعات من نفسها ومن خطر التحلل الداخلي، حتى لو كانت هذه المجتمعات ترفع شعارات النهضة والتقدم؛ فالمجتمع المتطرف لا يحتاج إلى أعداء خارجيين كي يسقط؛ يكفيه أن يظل غارقا في صراعاته الداخلية حتى يتحلل من داخله، بصمت، وعلى مرأى من الجميع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لم یعد
إقرأ أيضاً:
شروط عقود هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة تضفي عليها الصفة الإدارية
قضت المحكمة الدستورية العليا بجلستها اليوم السبت، برئاسة المستشار بولس فهمي إسكندر، رئيس المحكمة، بالاعتداد بحكم صادر من المحكمة الإدارية العليا دون حكم صادر من جهة القضاء العادي في شأن تقدير قيمة أرض تم بيعها من هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.
وقالت المحكمة في أسباب حكمها، إن العقود التي تعتبر الإدارة طرفًا فيها لا تعتبر جميعها من العقود الإدارية، ولاهي من العقود المدنية بالضرورة، وإنما مرد الأمر في تكييفها إلى مقوماتها، وبوجه خاص إلى ما إذا كانت شروطها تدل عليها انتهاجها وسائل القانون الخاص أو العام، ولما كانت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة هي شخص اعتباري عام بمقتضى نص المادة 27 من القانون رقم 59 لسنة 1979ـ وكان البين من محاضر تسليم الأرض محل التداعي أنها تضمنت شروطًا استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص، فإن النزاع بين الهيئة المذكورة والمدعى عليهم حول تقدير قيمتها، يعتبر منازعة إدارية ينعقد الاختصاص بنظرها والفصل فيها إلى محاكم مجلس الدولة، دون القضاء العادي، عملًا بالمادة (190) من الدستور.
ومن المقرر نشر تلك الأحكام على موقع المحكمة Sccourt.gov.eg، بعد نشرها في الجريدة الرسمية.
اقرأ أيضاًبعد قليل.. الفصل في دعوى عدم دستورية نقابة مهنة التمريض
بعد قليل.. الدستورية تفصل في دعوى بطلان تحصيل الرسوم القضائية