لجريدة عمان:
2025-06-27@16:38:47 GMT

هل بقي الريف.. كما يزعمون؟

تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT

الريف.. وعبر الذاكرة «المسترجعة» لأهميته في البنيان الاجتماعي يطلق عليه المؤسس ويطلق عليه الحاضنة ويطلق عليه المتضامن مع ذاته ويطلق عليه الضابط لحركة المجتمع، وينظر إليه كمعيار مهم عند موازنة القيم والمثل العليا، والتجرد، والإقدام، والتبني، والمثابرة، والقناعة، والاكتفاء بالقليل، والغنى المعنوي، والمؤازرة، وربما القسوة، والمكر أحيانا؛ فهو الحاضنة الشعبية بامتياز.

وفي مجمل كل هذه الصفات والألقاب تطغى الاجتماعية بشموليتها المعنوية والمادية، وتحتل نصيب الأسد، وفي تقييم أو لحظة ما قد تختزل كل هذه المعززات الإنسانية/ البنائية وينظر إليه بكثير من التسطيح، حيث يوسم بالبساطة «التواضع» وبالجهل، وبالدونية، لذلك تُغَلَّبُ فيه الصورة الـ«كاريكاتورية» حيث الاستهجان، وإنزاله في مستنقع السخرية، وهنا أمثلة للاستدلال فقط -وليس لتأصيل القناعة- يشار إلى الفرد حيث يأتي بسلوك فيه شطط مثلا في مصر: «صعيدي» وفي عمان: «شاوي» وفي الأردن: «صَرِيحي/ طَفِيلي» ويقينا في بلدان عربية أخرى، وربما في بلدان غير عربية توجد هذه الإشارات الضمنية التي تذهب إلى ما يشير إليه معنى: «غض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا».

والصورة أعلاه هي تقييم نظري، غير مبالغ فيه، وإذ تنطلق فإنها تنطلق من قناعات تأصلت عبر ممارسات الريف غير المنكورة إطلاقا في تقييم سلوكيات وممارسات أبناء المجتمع، وأتصور أن هذه الصورة هي حاضرة بقوة في كل المجتمعات، ولذلك يهرول الناس نحو الأرياف لاستنشاق شيئا من عطر البساطة، وما يدفع الناس إلى ذلك حمولة التعقيد التي يعيشها إنسان المدينة، وهي الجاثمة على صدره طوال الأربع والعشرين ساعة، على الرغم من الصور الاحتفالية التي تعيشها المدن بكافة مستوياتها المادية، وقد يستدرك آخر، فيقول: أيضا المدن قوة جاذبة لسكان الريف، حيث الانبهار بمجموعة الصور الاحتفالية الصاخبة، التي تفتقدها القرية حيث الهدوء والسكون القاتل في بعض الأحيان، وأن المدن هي حيوية الشباب، وصخبهم، وتقليعاتهم، وتحقيق الكثير مما يودونه حيث يلبي رغباتهم، ولو في لحظة فارقة من لحظات الزمن المستقطع من حيواتهم اليومية، وعند كلا الطرفين الصواب فيما يتحدثون عنه، وفيما يصلون إليه من قناعات ولو كانت نسبية، وأقول نسبية؛ لأن القناعات لن تكون مطلقة، فهي قابلة للأخذ والرد، وللمراجعة وفقا لظروف كثيرة، وأسباب أكثر، قد تكون متعلقة بالشخص نفسه، وقد تكون متعلقة بظرفي الزمان والمكان، حيث لا وجود للأحكام المطلقة في كل شيء متعلق بحركة الناس اليومية.

وعند تجسير الهوة بين الطرفين فإن كلا الصورتين متحققتان، ولا يمكن إنكار أحدهما على حساب الآخر، ولكن في حسابات الربح والخسارة لكلا كفتي التوازن (المادية/ المعنوية) يبقى الريف ذلك العنصر المرمم لما تستهلكه مادة المدن، ولذلك فالذين استهوتهم المدن دفعوا فيما بعد أثمانا كبيرة، وكان مآلهم (مدن الصفيح) الأقسى على النفس، فلا هي عوضتهم أفق الريف، ولا هي حققت لهم التطاول الرأسي للحياة لكي تظل قناعاتهم ثابتة أكثر، وفي زيارات متعددة لمدن كبرى هناك على الزوايا الخلفية للبنايات الشاهقة توجد تكومات بشرية صغيرة، ومحتقرة، ومتواضعة، تعيش على الكفاف حيث تنزوي عن البعد الترفيهي «المغري» الذي تسوقه المدن، والذي كان واحدا من المحفزات لهؤلاء – الذين أصبحوا غلابة وغرباء - وقد سألت مرة أحد سكان هذه المدن العملاقة بضخامة عمرانها عن سبب وجود مثل هؤلاء في هذه الأماكن المشار إليها بالبساطة، وربما بـ«القذارة» فرد علي: «هؤلاء باعوا كل ما يملكون في قراهم، وجاؤوا إلى المدينة لتحقيق طموحاتهم، فتكسرت هذه الطموحات، فبقوا معلقين ما بين ريف خسروا العودة إليه، وبين مدينة ظلت حلما لن يتحقق لهم، فكانت النتيجة هكذا ضياع في خضم إنسانية «مبتورة» وقلت في نفسي لو أنهم رجعوا إلى قراهم لوجدوا من يحتضنهم، ويؤويهم، وينصرهم، فلا تزال القرية تشع من بين جنباتها معاني الكثير من القيم الإنسانية، وبصورة مباشرة حيث لا تزال المبادئ والقيم تجوب أزقة وحارات الساكنين، قبل قلوب ونفوس الساكنين قراهم.

لا يتعجل الريف في تقصي تحقق عناصر التضامن بين الأفراد، فهي حاضرة بحكم الممارسة اليومية بين أفراده، وبحكم مجموعة من الضوابط الاجتماعية الممتزجة بقناعات الناس، بمعنى لا تحتاج إلى فعل ميكانيكي يذكر الناس بأن عليهم فعل كذا وكذا، أو صحيفة معلقة على مداخل القرية ترشد الناس على كيفية توظيف مشاعرهم، ومبادئهم والحرص على قناعاتهم المتأصلة، فكل الممارسات والاتفاقات تمارس تلقائيا دون تكلف، ففلان من الناس عنده مناسبة ما، ليس شرطا أن يسعى لكل أفراد القرية فردا فردا، فالجار مع الجار الآخر، والنسب مع النسب الآخر، والمسجد، والسبلة العامة كلها نداءات تعلن عن ذاتية الأفراد، وإن بقي شيء من التنبيه، فذلك للتذكير فقط، وليس لتأسيس دعوات مستقلة للمشاركة، فهذه الصورة في تجلياتها الاجتماعية/ الإنسانية، ليس يسيرا تحققها في المجتمع الحضري المتضخم بكثير من التعقيدات، أقلها تعقيدات العمارات الضخمة التي تفصل بين أفراد المجتمع، والشوارع المخيفة التي لا تأمن حتى على طفلك أن يتجاوزها دون أن تمسكه بكلتا يديك، أن تنقله بمركبتك إلى الضفة الأخرى، فهذه التقاطعات أرخت في النفوس الكثير من الحواجز، حيث لا تستطيع أن تزور أحدا دون أن تعقد معه صفقة من زمن قصير جدا، فهو مشغول، ليس عنده فراغ الـ«بسطة» التي تنشئها تحت شجرة نخلة، أو ليمونة، أو سدرة، أو حتى تحت ظل جدار بيتك في ريفك، ففي المدينة تلزمك مجموعة من التعاقدات، والتنظيمات، التي لا بد منها في كيفية مجموعة التعاملات مع الآخر، فعلى سبيل المثال: تقام اليوم مناسبات الأعراس «عقد القران» ومناسبات المواساة «العزاء» فقد أصبح من النادر أن تجد أبناء الأسرة الواحدة – على امتداد أفرادها – وهم كثر، هم من يقومون بخدمة الضيوف، فإذن عليك أن تتفق مع مؤسسة خدمية تقدم لك الضيافة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، بينما القرية تعفيك من كل ذلك، حيث تجد كل أبنائها بلا استثناء يقومون بخدمة الآخر.

فهل المجتمع المدني أصبح مستعمرا من قبل «النخبوية»؟ والجواب وبكل ثقة نعم، ولأن الصورة الاجتماعية كذلك، فأنت كفرد لا يمكنك التحرر من هذه النخبوية، وإلا ستجد نفسك معزولا، منفصلا تطبق عليك الألقاب الـ «كاريكاتورية» (شاوي، أو صعيدي، أوصَرِيحي/ طَفِيلي) كما جاء في الشرح أعلاه، وغيرها مما يعرفه الناس، هل تقتنع بذلك، أو لم تقتنع فتلك مشكلتك، وعليك أن ترجح المساحة لتي يطمئن إليها قلبك، وهذه المساحة المرتقبة، لا بد أن تكون موصولة هويتها لأحد طرفي «النزاع» إن يجوز الوصف «القرية/ المدينة) فالقرية بتجريديتها تكتفي بتحقيق الحاجات، ولا تذهب بعيدا أكثر من ذلك، بينما المدينة تتجاوز إلى الرغبات، وكما هو معلوم بالضرورة أن الحاجات مكفولة بالاكتفاء، بينما الرغبات متحققة بالشراهة، وما أدراك ما الشراهة، حيث المزيد والمزيد، لذلك وهذه نتيجة:-

أولا: المجتمعات المدنية مجتمعات مركبة، بالرغبات وبالصور الاحتفالية، كما أشرت، وهذه ماضية بضرورة استحقاقاتها المادية الصرفة، وفق كل التقييمات، فإن تملك عشرة ريالات في جيبك، فأنت قيمتك لا تتجاوز هذا المبلغ، وإن تملك عشرة آلاف فأنت كذلك، وبالتالي ينزلك الآخرون وفق هذه القيم المادية.

ثانيا: بدأت المجتمعات الريفية «القرية» تزحف نحو المجتمعات المدنية المركبة، ولو بنسب أقل، ولكنها في طريقها إلى التحقق، وما يؤصل هذا التقييم هو وجود ولو بصور خجولة شيء من الصور الاحتفالية في القرى، حيث تلعب بما يوصف بـ«عدالة التنمية» دورا محوريا في نقل المجتمعات الريفية إلى مجتمعات مركبة.

ثالثا: سيظل الذي يصنع الفارق النسبي في كلا المجتمعين حاضرا ومستقبلا هو مجموعة القيم الضابطة لحركة الأفراد في كليهما، وعلى الرغم من تعقيدات المجتمع المدني المركب، إلا أنه لن يستغني عن كثير من هذه القيم، لكي يحافظ على وجهه الإنساني، ويقينا لن يسمح بأدوات التغريب لأن تحيده عن منبعه الأصل، لأن أفراده غير انتقائيين، ويعودون سريعا إلى حيث منابعهم الريفية الآمنة.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الشارقة تدعم الكويت للانضمام إلى الشبكة العالمية للمدن المراعية للسن

الشارقة: «الخليج»


نظمت دائرة الخدمات الاجتماعية في الشارقة، ممثلةً بمكتب الجودة والخدمات الصحية المراعية للسن، وبدعوة من وزارة الصحة الكويتية، ورشة تعريفية عن بُعد استعرضت تجربة الإمارة في مجال المدن المراعية للسن، وذلك لدعم جهود الكويت في سعيها للانضمام إلى الشبكة العالمية للمدن المراعية للسن التابعة لمنظمة اليونيسكو، والتي انضمت لها الشارقة كأول مدينة عربية منذ عام 2017.


وتأتي هذه المبادرة في إطار التزام دائرة الخدمات الاجتماعية بنشر ثقافة المدن الصديقة لكبار السن، ومشاركة خبراتها مع الجهات الإقليمية والدولية المعنية، حيث حرصت الدائرة على تنظيم هذا اللقاء التدريبي لتعزيز التعاون العربي وتقديم الدعم الفني والمعرفي اللازم لتمكين الدول الشقيقة من تبني المعايير العالمية في رعاية كبار السن.


وأوضحت أسماء الخضري، مدير مكتب الجودة والخدمات الصحية المراعية للسن بالدائرة، أن وزارة الصحة الكويتية أبدت اهتماماً بالغاً بالانضمام إلى الشبكة، انطلاقاً من جهودها الكبيرة في خدمة كبار السن من خلال مشاريع وبرامج متفرقة، وتسعى حالياً إلى توحيد تلك الجهود ضمن إطار شمولي يراعي متطلبات الشبكة الدولية.


وأضافت: «هذا اللقاء هو الثاني من نوعه الذي ننظمه بناء على طلب رسمي من الوزارة، وجاء بهدف مساعدتهم على تطبيق معايير المدن المراعية للسن، ونقل تجربة الشارقة الرائدة في هذا المجال».


وأشارت إلى أن تنظيم هذه الورش جزء من استراتيجية الدائرة في تعزيز المعرفة وتبادل الخبرات، وتكريس دور الشارقة كمركز معرفي ومصدر إلهام للمدن العربية الساعية للارتقاء بخدمات كبار السن.


وقالت: «نأمل بأن نرى دولة الكويت قريباً ضمن قائمة المدن الأعضاء في الشبكة العالمية، إلى جانب دول عربية أخرى تتبنى هذه الرؤية الإنسانية المشتركة».


وقد شارك في الورشة عدد من مسؤولي وزارة الصحة الكويتية، من بينهم الدكتورة فاطمة بن ظفاري، مدير إدارة الخدمات الصحية لكبار السن، والدكتورة آمال اليحيى، مدير مكتب المدن الصحية، إلى جانب عدد من منسقي العمل من مؤسسات حكومية وخاصة معنية بخدمة كبار السن، إضافة إلى حضور نوعي من كبار السن الكويتيين، ما يعكس حرص الوزارة على الاستماع لملاحظاتهم وأخذها في الاعتبار عند تطوير السياسات والبرامج المستقبلية.

مقالات مشابهة

  • الشارقة تدعم الكويت للانضمام إلى الشبكة العالمية للمدن المراعية للسن
  • مدينة جزائرية ضمن “TOP 10 ” للمدن الأشد حرًّا في  العالم
  • في ذكرى رحيله.. عبدالبديع العربي من الريف إلى قمة الدراما المصرية (تقرير)
  • وزير الكهرباء يرأس اجتماعاً لمناقشة خطة كهرباء الريف
  • حرب.. وحُب!
  • استعرض خدماته المقدمة للمواطنين والمقيمين.. محافظ الطائف يستقبل مدير برنامج المدن الصحية بالمحافظة
  • متظاهرو البندقية يزعمون انتصارهم في تغيير مكان حفل زفاف جيف بيزوس
  • كيف نستطيع أن نكتب المدن؟
  • الزعاق للطلاب: استمتعوا بالأشياء التي تمتلكونها ولو كانت بسيطة..فيديو
  • «غاف يام نيغيف».. القرية الذكية في بئر السبع تتحول إلى ساحة نيران