الريف.. وعبر الذاكرة «المسترجعة» لأهميته في البنيان الاجتماعي يطلق عليه المؤسس ويطلق عليه الحاضنة ويطلق عليه المتضامن مع ذاته ويطلق عليه الضابط لحركة المجتمع، وينظر إليه كمعيار مهم عند موازنة القيم والمثل العليا، والتجرد، والإقدام، والتبني، والمثابرة، والقناعة، والاكتفاء بالقليل، والغنى المعنوي، والمؤازرة، وربما القسوة، والمكر أحيانا؛ فهو الحاضنة الشعبية بامتياز.
وفي مجمل كل هذه الصفات والألقاب تطغى الاجتماعية بشموليتها المعنوية والمادية، وتحتل نصيب الأسد، وفي تقييم أو لحظة ما قد تختزل كل هذه المعززات الإنسانية/ البنائية وينظر إليه بكثير من التسطيح، حيث يوسم بالبساطة «التواضع» وبالجهل، وبالدونية، لذلك تُغَلَّبُ فيه الصورة الـ«كاريكاتورية» حيث الاستهجان، وإنزاله في مستنقع السخرية، وهنا أمثلة للاستدلال فقط -وليس لتأصيل القناعة- يشار إلى الفرد حيث يأتي بسلوك فيه شطط مثلا في مصر: «صعيدي» وفي عمان: «شاوي» وفي الأردن: «صَرِيحي/ طَفِيلي» ويقينا في بلدان عربية أخرى، وربما في بلدان غير عربية توجد هذه الإشارات الضمنية التي تذهب إلى ما يشير إليه معنى: «غض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا».
والصورة أعلاه هي تقييم نظري، غير مبالغ فيه، وإذ تنطلق فإنها تنطلق من قناعات تأصلت عبر ممارسات الريف غير المنكورة إطلاقا في تقييم سلوكيات وممارسات أبناء المجتمع، وأتصور أن هذه الصورة هي حاضرة بقوة في كل المجتمعات، ولذلك يهرول الناس نحو الأرياف لاستنشاق شيئا من عطر البساطة، وما يدفع الناس إلى ذلك حمولة التعقيد التي يعيشها إنسان المدينة، وهي الجاثمة على صدره طوال الأربع والعشرين ساعة، على الرغم من الصور الاحتفالية التي تعيشها المدن بكافة مستوياتها المادية، وقد يستدرك آخر، فيقول: أيضا المدن قوة جاذبة لسكان الريف، حيث الانبهار بمجموعة الصور الاحتفالية الصاخبة، التي تفتقدها القرية حيث الهدوء والسكون القاتل في بعض الأحيان، وأن المدن هي حيوية الشباب، وصخبهم، وتقليعاتهم، وتحقيق الكثير مما يودونه حيث يلبي رغباتهم، ولو في لحظة فارقة من لحظات الزمن المستقطع من حيواتهم اليومية، وعند كلا الطرفين الصواب فيما يتحدثون عنه، وفيما يصلون إليه من قناعات ولو كانت نسبية، وأقول نسبية؛ لأن القناعات لن تكون مطلقة، فهي قابلة للأخذ والرد، وللمراجعة وفقا لظروف كثيرة، وأسباب أكثر، قد تكون متعلقة بالشخص نفسه، وقد تكون متعلقة بظرفي الزمان والمكان، حيث لا وجود للأحكام المطلقة في كل شيء متعلق بحركة الناس اليومية.
وعند تجسير الهوة بين الطرفين فإن كلا الصورتين متحققتان، ولا يمكن إنكار أحدهما على حساب الآخر، ولكن في حسابات الربح والخسارة لكلا كفتي التوازن (المادية/ المعنوية) يبقى الريف ذلك العنصر المرمم لما تستهلكه مادة المدن، ولذلك فالذين استهوتهم المدن دفعوا فيما بعد أثمانا كبيرة، وكان مآلهم (مدن الصفيح) الأقسى على النفس، فلا هي عوضتهم أفق الريف، ولا هي حققت لهم التطاول الرأسي للحياة لكي تظل قناعاتهم ثابتة أكثر، وفي زيارات متعددة لمدن كبرى هناك على الزوايا الخلفية للبنايات الشاهقة توجد تكومات بشرية صغيرة، ومحتقرة، ومتواضعة، تعيش على الكفاف حيث تنزوي عن البعد الترفيهي «المغري» الذي تسوقه المدن، والذي كان واحدا من المحفزات لهؤلاء – الذين أصبحوا غلابة وغرباء - وقد سألت مرة أحد سكان هذه المدن العملاقة بضخامة عمرانها عن سبب وجود مثل هؤلاء في هذه الأماكن المشار إليها بالبساطة، وربما بـ«القذارة» فرد علي: «هؤلاء باعوا كل ما يملكون في قراهم، وجاؤوا إلى المدينة لتحقيق طموحاتهم، فتكسرت هذه الطموحات، فبقوا معلقين ما بين ريف خسروا العودة إليه، وبين مدينة ظلت حلما لن يتحقق لهم، فكانت النتيجة هكذا ضياع في خضم إنسانية «مبتورة» وقلت في نفسي لو أنهم رجعوا إلى قراهم لوجدوا من يحتضنهم، ويؤويهم، وينصرهم، فلا تزال القرية تشع من بين جنباتها معاني الكثير من القيم الإنسانية، وبصورة مباشرة حيث لا تزال المبادئ والقيم تجوب أزقة وحارات الساكنين، قبل قلوب ونفوس الساكنين قراهم.
لا يتعجل الريف في تقصي تحقق عناصر التضامن بين الأفراد، فهي حاضرة بحكم الممارسة اليومية بين أفراده، وبحكم مجموعة من الضوابط الاجتماعية الممتزجة بقناعات الناس، بمعنى لا تحتاج إلى فعل ميكانيكي يذكر الناس بأن عليهم فعل كذا وكذا، أو صحيفة معلقة على مداخل القرية ترشد الناس على كيفية توظيف مشاعرهم، ومبادئهم والحرص على قناعاتهم المتأصلة، فكل الممارسات والاتفاقات تمارس تلقائيا دون تكلف، ففلان من الناس عنده مناسبة ما، ليس شرطا أن يسعى لكل أفراد القرية فردا فردا، فالجار مع الجار الآخر، والنسب مع النسب الآخر، والمسجد، والسبلة العامة كلها نداءات تعلن عن ذاتية الأفراد، وإن بقي شيء من التنبيه، فذلك للتذكير فقط، وليس لتأسيس دعوات مستقلة للمشاركة، فهذه الصورة في تجلياتها الاجتماعية/ الإنسانية، ليس يسيرا تحققها في المجتمع الحضري المتضخم بكثير من التعقيدات، أقلها تعقيدات العمارات الضخمة التي تفصل بين أفراد المجتمع، والشوارع المخيفة التي لا تأمن حتى على طفلك أن يتجاوزها دون أن تمسكه بكلتا يديك، أن تنقله بمركبتك إلى الضفة الأخرى، فهذه التقاطعات أرخت في النفوس الكثير من الحواجز، حيث لا تستطيع أن تزور أحدا دون أن تعقد معه صفقة من زمن قصير جدا، فهو مشغول، ليس عنده فراغ الـ«بسطة» التي تنشئها تحت شجرة نخلة، أو ليمونة، أو سدرة، أو حتى تحت ظل جدار بيتك في ريفك، ففي المدينة تلزمك مجموعة من التعاقدات، والتنظيمات، التي لا بد منها في كيفية مجموعة التعاملات مع الآخر، فعلى سبيل المثال: تقام اليوم مناسبات الأعراس «عقد القران» ومناسبات المواساة «العزاء» فقد أصبح من النادر أن تجد أبناء الأسرة الواحدة – على امتداد أفرادها – وهم كثر، هم من يقومون بخدمة الضيوف، فإذن عليك أن تتفق مع مؤسسة خدمية تقدم لك الضيافة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، بينما القرية تعفيك من كل ذلك، حيث تجد كل أبنائها بلا استثناء يقومون بخدمة الآخر.
فهل المجتمع المدني أصبح مستعمرا من قبل «النخبوية»؟ والجواب وبكل ثقة نعم، ولأن الصورة الاجتماعية كذلك، فأنت كفرد لا يمكنك التحرر من هذه النخبوية، وإلا ستجد نفسك معزولا، منفصلا تطبق عليك الألقاب الـ «كاريكاتورية» (شاوي، أو صعيدي، أوصَرِيحي/ طَفِيلي) كما جاء في الشرح أعلاه، وغيرها مما يعرفه الناس، هل تقتنع بذلك، أو لم تقتنع فتلك مشكلتك، وعليك أن ترجح المساحة لتي يطمئن إليها قلبك، وهذه المساحة المرتقبة، لا بد أن تكون موصولة هويتها لأحد طرفي «النزاع» إن يجوز الوصف «القرية/ المدينة) فالقرية بتجريديتها تكتفي بتحقيق الحاجات، ولا تذهب بعيدا أكثر من ذلك، بينما المدينة تتجاوز إلى الرغبات، وكما هو معلوم بالضرورة أن الحاجات مكفولة بالاكتفاء، بينما الرغبات متحققة بالشراهة، وما أدراك ما الشراهة، حيث المزيد والمزيد، لذلك وهذه نتيجة:-
أولا: المجتمعات المدنية مجتمعات مركبة، بالرغبات وبالصور الاحتفالية، كما أشرت، وهذه ماضية بضرورة استحقاقاتها المادية الصرفة، وفق كل التقييمات، فإن تملك عشرة ريالات في جيبك، فأنت قيمتك لا تتجاوز هذا المبلغ، وإن تملك عشرة آلاف فأنت كذلك، وبالتالي ينزلك الآخرون وفق هذه القيم المادية.
ثانيا: بدأت المجتمعات الريفية «القرية» تزحف نحو المجتمعات المدنية المركبة، ولو بنسب أقل، ولكنها في طريقها إلى التحقق، وما يؤصل هذا التقييم هو وجود ولو بصور خجولة شيء من الصور الاحتفالية في القرى، حيث تلعب بما يوصف بـ«عدالة التنمية» دورا محوريا في نقل المجتمعات الريفية إلى مجتمعات مركبة.
ثالثا: سيظل الذي يصنع الفارق النسبي في كلا المجتمعين حاضرا ومستقبلا هو مجموعة القيم الضابطة لحركة الأفراد في كليهما، وعلى الرغم من تعقيدات المجتمع المدني المركب، إلا أنه لن يستغني عن كثير من هذه القيم، لكي يحافظ على وجهه الإنساني، ويقينا لن يسمح بأدوات التغريب لأن تحيده عن منبعه الأصل، لأن أفراده غير انتقائيين، ويعودون سريعا إلى حيث منابعهم الريفية الآمنة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل ينشر الإنترنت الجهل؟
بعد دخول الانترنت، أصبحت المواقع والصفحات المختلفة هي المصدر الأول للمعلومات،
وأصبحت مقاطع الفيديو التى تصل إلى هاتفك هي أسرع وسيلة لنقل الأحداث. والمقاطع المختلفة منها الحقيقية، ومنها المركبة بالذكاء الاصطناعي.
وأصبح الكثير يستقى الأخبار من مواقع التواصل الاجتماعي، ويعيد إرسالها في أغلب الأحيان دون التأكد من صحة ما يرسله.
وقد يدخل في مناقشات حادة ليدافع عن الخبر الذي أرسله. أصبح البعض يصدق أن من أرسل الخبر مختصًا فيما يكتب. فهناك من يدعي أنه طبيب ويحذر من تناول هذا الدواء أو ذاك. ومن يقول إنه خبير كمبيوتر ويحذر من مواقع بعينها. وهناك من يعلن أنه يستطيع توفير وظائف لجميع التخصصات. وأغلب هؤلاء يسعون للحصول على البيانات الشخصية لاستغلالها في عمليات نصب واحتيال. بل إنه ثبت مؤخرًا أن هناك من كان يعلن عن توفر الوظائف، يقيم في دولة أخرى.
أحد الاصدقاء دائمًا ما يردد بأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف حقيقة الشخص الذي يجلس خلف لوحة المفاتيح، أو يدير هذه المواقع، ولا حتى اسم البلد التي يرسل منها في الحقيقة، وليس البلد التي يدعي أنه منها.
وكم من فيديو لحادثة قديمة أرسل على أنه حادث وقع منذ ساعات.
الإنترنت سلاح ذو حدين، فإما ان يستخدم لنشر الحقيقة والكلمة المفيدة، أو أن يتحول إلى منصة لنشر الجهل والأكاذيب. وكم من جاهل وجد نفسه يملك الوقت والطريقة التى ينشر بها كلامه الغث.
كثير من الناس يكتب ويعرض أفكاره، أو ثرثرته على الملأ دون أي رقيب أو مراجعة من مختص.
كانت الصحف تفتح أبوابها لنشر مشاركات القراء المختلفة في الأدب والرياضة، وتختار ما ترى أنه مفيد، وتعمل على تشجيع من يملك الموهبة، وتعطى نصائح للبعض؛ حتى يطور ملكة الكتابة لديه. وكم تخرج من هذه الصفحات من صحفيين وكتاب تولوا مناصب في أكبر المؤسسات الإعلامية. أما اليوم فيظن أحدهم أنه إذا ما عمل مقاطع على إحدى المنصات،
وعمل على زيادة أرقام المشاهدات بطريقة غير شرعية، فإنه يستحق أن يضع اسمه مسبوقًا بكلمة إعلامي.
نحتاج إلى دراسة علمية حول ما إذا أصبح الناس أكثر إلمامًا بالحقائق، أم أكثر جهلًا في وجود هذه المنصات المفتوحة للجميع؟