"6 أغسطس" في تاريخ أمريكا واليابان
تاريخ النشر: 7th, August 2023 GMT
صادق بن محمد سعيد اللواتي
كلنا سمعنا عن قصف الولايات المُتحدة لمدينة هيروشيما بأول قنبلة ذرية وما أحدثت من المجازر للبشر والحيوان والدمار الذي لحق بالبنية التحتية لتلك المدينة. تصادف اليوم ذكرى هذا الحدث 6 أغسطس 1945؛ حيث ألقت الولايات المتحدة في الساعة 8.15 قنبلة ذرية فوق مدينة هيروشيما.
وقصفت بعد ثلاثة أيام بقنبلة ثانية مدينة ناجازاكي.
في وقت متأخر من مساء يوم 8 أغسطس 1945، قام الاتحاد السوفييتي (سابقًا) بغزو الأراضي اليابانية، بعد سيطرته على أجزاء واسعة من ألمانيا، وسيطرت قواته على عدة جزر تابعة لليابان؟ بعد هذه الأحداث، تدخل الإمبراطور هيروهيتو وأمر المجلس الأعلى لتوجيه الحرب بقبول الاستسلام، أذاع الإمبراطور خطابًا إذاعيًا مسجلًا في 15 أغسطس مُعلنا استسلام اليابان للحلفاء. رفض العديد من قادة الضباط فكرة الاستسلام وكانوا مصرين على مواصلة الحرب، فقام بعض المتطرفين بانقلاب فاشل وانتحر عدد كبير منهم بدلًا من الاستسلام. وقد تم إعدام هؤلاء الضباط مع مسؤولين آخرين في الدولة وعددهم 28 ، بينهم رئيس الوزراء السابق (إيديكي توهو) بذريعة ارتكاب جرائم حرب وتم شنقهم، اختار العديد من الضباط والجنود والمدنيين الانتحار على الاستسلام داخل اليابان وفي البلدان الأخرى الواقعة تحت سيطرتها.
أصرَّت أمريكا على استسلام اليابان بقوة السلاح. كان خيار المُواجهة النهائية بحرًا وجوًا مكلفًا للغاية للحلفاء، لذلك اختاروا قصفها بالقنابل الذرية دون توقف، مدينة تلو الأخرى، كما أشار إليه الرئيس ترومان عندما قال "توقعوا هطول أمطار خراب من الجو لم ير مثلها على الإطلاق على هذه الأرض". وهنا نُشير إلى أن الرئيس هاري ترومان لم يكن الرئيس المنتخب للولايات المتحدة وقت استسلام ألمانيا واليابان، لكنه ارتقى إلى هذا المنصب بصفته نائب الرئيس عندما توفي الرئيس روز فيلت في 12 أبريل، قبل أقل من شهر من نهاية الحرب في أوروبا. مات الرئيس روز فيلت جراء نزيف في المخ.
كانت اليابان مستعدة للدخول في سلام مع الحلفاء وإنهاء الحرب على غرار ما حدث في نهاية الحرب العالمية الأولى، لا ناصر ولا مهزوم. ولكن الولايات المتحدة خشيت من أن تحتل اليابان فيما بعد قارتي آسيا وأستراليا إذا خرجت من الحرب عن طريق المصالحة وأن هزيمة اليابان تعني إبقاءها تحت نفوذ الولايات المتحدة إلى الأبد. وحتى قبل أن تدخل الولايات المتحدة الحرب، طالبت اليابان من خلال مذكرة "هال" بالانسحاب من الصين والهند الصينية، لذلك، كانت هزيمة اليابان أو استسلامها أمرًا لا مفر منه. ترددت شائعات في ذلك الوقت أن الولايات المتحدة لديها هدف آخر مستتر، وهو قصف الاتحاد السوفييتي بالقنابل الذرية بغرض إنهاء وجود دولة اشتراكية، لكن الولايات المتحدة تقول إن هذا الإجراء لم يكن في نيتها.
اضطرت اليابان إلى الاستسلام خشية قصفها بمزيد من القنابل الذرية وانقراض العنصر الياباني من على وجه الأرض وتقسيمها بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. ما نسمعه من كل ساسة الولايات المتحدة السابقين والحاليين وربما القادمين مستقبلًا أنهم قصفوا اليابان بقنابل ذرية لغرض إيقاف الحرب وتجنب مزيد من الضحايا هو كلام غير صحيح.
واليابان منذ استسلامها تابعة للولايات المتحدة تقريبًا، وإضافة إلى وجود قاعدة عسكرية أمريكية كبيرة في أوكيناوا، تنفذ اليابان كل ما تطلبه الولايات المتحدة منها. لقد انضمت إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مُعاقبة روسيا.
أتساءل ما هو القاسم المشترك بين اليابان وأوكرانيا؟ كان هذا هو الهدف الأساسي لقصف اليابان بالقنابل الذرية، لتفادي نشر اليابان نفوذها في قارتي آسيا وأستراليا وإخضاعها لسيطرة الولايات المتحدة. إن وجود قاعدة عسكرية أمريكية كبيرة في اليابان وتنفيذ إملاءاتها منذ استسلامها حتى اليوم خير دليل على ما أقوله.
إذن أنا وأنتم سمعنا عن عدد الضحايا وشاهدنا الدمار الشامل نتيجة هاتين القنبلتين في الفضائيات بعد عشرات السنين من حدوثها، لكن لم يكن هناك سبيل في ذلك الوقت لمشاهدة الكارثة التي سببتها القنابل وسماع تداعياتها. عرفنا فقط بالضبط ما حدث بعد فترة طويلة من الحدث. أرفق طيه شريط فيديو لأحد الناجين الذي كان شاهدًا على بعض تفاصيل الحدث، فقد والدته وشقيقته بسبب الإشعاع. قد لا يكون على قيد الحياة اليوم بسبب مرور الوقت، لمن يريد أن يقف على السلوك الوحشي للولايات المتحدة كيف كان في الماضي وكذلك اليوم مستعدة أن تقتل وتدمر كل أخضر ويابس لحفظ مصالحها وقوتها ونفوذها وعلى أمن ومصالح جميع الدول التي تتبع المسيحية كدين لها حتى لو لم يكن ذلك مكتوبًا في دستورها.
ما ورد علنًا في أوراق نقدها أن أمريكا تؤمن بالله. أما إسرائيل فهم يدافعون عنها بكل قوة لأن كتابهم واحد حتى لو لم يؤمن اليهود بالجزء الثاني من الكتاب المتعلق بالمسيحيين. لا قيمة عند الولايات المتحدة للبشر والحجر. يجب أن يرتبط العالم بهذه المأساة كل عام. لا يكفي أن تذكر بعض الصحف ذكرى الحادث فقط.
أحداث ما قبل استسلام اليابان
استسلمت ألمانيا يوم 5 مايو 1945 وقبلها بأيام في 30/4/1945 انتحر الزعيم الألماني أدولف هتلر مع زوجته التي تزوجها قبل 24 ساعة من انتحارهما. وفي أول مايو 1945 أعلن قارئ أخبار ألماني رسميًا أن أدولف هتلر "سقط في موقع قيادته في مستشارية الرايخ وهو يقاتل حتى آخر نفس ضد البلشفية ومن أجل ألمانيا"، وفي اليوم نفسه أمر ستالين برفع العلم السوفييتي فوق مستشارية الرايخ.
كل من قرأ الأيام الأخيرة من حياة هتلر سيفهم أنَّه كان يعرف جيدًا ما الذي ستفعله به الجيوش المنتصرة إذا تمَّ أسره حيًا. لم ينتحر بالمسدس فحسب؛ بل طلب حرق جسده على الفور وتناثر الرماد بطريقة لا يُمكن استردادها. كان يعلم أن الجيوش الغازية ستعاقب حتى رماده.
لولا الحرب العالمية الأولى، لما حدثت الحرب العالمية الثانية، حيث قسم الحلفاء أراضي ألمانيا مع جاراتها، لكن الغرب لا يريد إعلان ذلك. كل ما أراد هتلر فعله هو استعادة الأراضي المفقودة من ألمانيا ومُعاقبة المسؤولين عن تقسيم أراضي ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ونهب خزائنها من قبل اليهود. يجب تسجيل هذه الحقيقة في التاريخ، حتى على يد شخص عُماني.
فضل العديد من المدنيين والمسؤولين الحكوميين والعسكريين في جميع أنحاء ألمانيا الانتحار على قبول هزيمة ألمانيا. وإلى جانب هتلر، انتحر مسؤولون نازيون آخرون رفيعو المستوى، مثل: جوزيف جويتس وهاينريش هيملو وفيليب باوتشر ومارتن برومان. وبعد هتلر، في مايو 1945، قَتل ما يصل إلى 1000 شخص أنفسهم قبل وبعد دخول الجيش الأحمر إلى برلين. وتم الإبلاغ عن أكثر من 7000 حالة انتحار في برلين وحدها عام 1945. ما فعله الحلفاء الغربيون المنتصرون ضد ألمانيا، وهم أفراد الجيشين الأمريكي والبريطاني، من مذابح واغتصاب جنسي ضد النساء الألمانيات مخز للإنسانية، وكل هذه الأحداث بتفاصيلها مسجلة في كتب التاريخ المعاصر.
يوم 19/ 3/ 1945 أصدر هتلر أوامره بتدمير كل المنشآت العسكرية وسلاحها والمصانع والمصافي النفطية والمواصلات البرية والبحرية وكل شيء له قيمة عسكرية حتى لا تقع سالمة في يد الحلفاء. استسلمت إيطاليا يوم 25/ 4 / 1945 للحلفاء وقتل رئيسها "موسوليني" في 28/ 4/ 1945، لكن الحليف الوحيد المتبقي اليابان واصل الحرب. ألقت الولايات المتحدة أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما، قتلت آثار القصف الذري ما بين 90,000 و146,000 شخص في هيروشيما، 30% من سكان المدينة وجرح 70,000 آخرين و69% من مباني هيروشيما قد دمرت و7% أخرى تضررت.
وبعد ثلاثة أيام القت قنبلة آخرى على مدينة ناجازاكي، قتل 80,000 شخص فيها. استمر وفاة الكثير من الناس من آثار الحروق والأمراض الإشعاعية في كلتا المدينتين. ونتيجة للدمار الهائل والقتل الرهيب، علمت القيادة اليابانية عن نية الولايات المتحدة بقصف كل مدنها، استسلمت اليابان تجنبًا لمزيد من القتل لأبناء شعبها وتدمير مدنها. كان لطوكيو العاصمة نصيبها، ففي 4/ 4/ 1945 ألقت الولايات المتحدة قنابل حرارية مشابهة للقنابل الذرية، كان عدد ضحاياها يعادل القنبلتين الذريتين معًا. ربما قصف طوكيو كان رسالة لألمانيا بأن تستسلم لأن وضعها سيكون وضع اليابان نفسه.
كان الغرض من قصف اليابان هو كما ذكرت عدم السماح لليابان بالسيطرة على قارتي أسيا وأستراليا وإبقاء اليابان تحت نفوذها، وفي الوقت نفسه أرادت أمريكا معرفة تأثير القنابل على الطبيعة لأن مثل هذه القنابل يتم استخدامها لأول مرة، لذلك قد تستخدم الأسلحة نفسها ضد منافسها الاتحاد السوفييتي لاحقا، لكن ما منع الولايات المتحدة عن قصف الاتحاد السوفييتي الشيوعي هو أن روسيا تمكنت هي الأخرى من صنع القنبلة الذرية. ولولا امتلاك روسيا لهذا النوع من السلاح الذري، لأقدمت الولايات المتحدة على العمل نفسه الذي قامت به مع اليابان حتى إنهاء وجود الدولة التي تتبع النظام الاشتراكي، وربما تكهن مخططو السياسة الأمريكية بأن النظام الاشتراكي الشيوعي سوف يتوسع في العالم بوجود الاتحاد السوفييتي المنتصر في الحرب العالمية الثانية، وهذا ما حدث بالفعل. وتنفي الولايات المتحدة أنه كان لديها نية لمواجهة الاتحاد السوفييتي بالقنابل الذرية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أمريكا ترامب: سلامٌ بالقُوّة (القوّة الذّكيّة[1])
يعتبر جوزيف ناي أن الاستراتيجيّات الأكثر فاعليّة في السياسة الخارجيّة اليوم تتطلّب مزيجا من موارد القوّة الصلبة والقوة الناعمة، وتوظيف القوة الصلبة فقط أو القوة النّاعمة فقط في موقف معيّن عادة ما يكون غير كافٍ. ويرى أنه لا بد من تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي من خلال القوّة الذّكيّة. ويقول تشستر آرثر كروكر إن القوّة الذّكيّة تشمل الاستخدام الاستراتيجي للدبلوماسيّة، والإقناع، وبناء القدرات، وفرض القوة والنفوذ بطرائق فعّالة من ناحية التّكلفة ولها مشروعيّة سياسيّة واجتماعية، لا سيّما في اشتراك القوّة العسكريّة وجميع أشكال الدّبلوماسيّة الأخرى.[2]
فمنذ بدء الحرب على غزّة بعد عمليّة طوفان الأقصى، مارست إسرائيل بدعم أمريكي وغربي كل أنواع القوة وأشكالها، ولم تستطع تحقيق الأهداف الكبرى التي أعلنتها مثل، تحرير الرهائن، وإنهاء حماس، واحتلال غزة وتشكيل سلطة تابعة لأوامر الكيان الصّهيوني، وجل ما حقّقته خلال قرابة العامين من الحرب، على غّزّة، ولبنان، وإيران، واليمن، هو التّدمير، والاغتيال، والمجازر، بدعم أمريكي، وباكتفاء الغرب بالتّهديد النّاعم لإسرائيل، دون خطوات حقيقيّة فعّالة وناجزة.
وعند عجز القوّة الصّلبة عن تحقيق الأهداف المنشودة من الحرب، عادة ما تقوم أمريكا بمحاولة ترجمة مفاعيل القوّة الصّلبة باستخدام القوة النّاعمة مثل اللّجوء إلى الدّبلوماسيّة المَرِنَة والمفاوضات، والخداع والغموض الاستراتيجي، أو ما أسماه دونالد ترامب "السّلام بالقُوّة"، وهو مصداق القُوّة الذّّكيّة التي تدمج بين القوة الصّلبة والقوّة النّاعمة.
والخداع الاستراتيجي يتشابك مع القوة النّاعمة أحيانا، لكنهما أيضا يستخدمان في سياقات مختلفة، ويمكن أن يكون الخداع الاستراتيجي أداة في يد القوّة النّاعمة، إذ يمكن استخدام التضليل والتّلاعب بالمعلومات للتأثير على الرّأي العام الدّولي وتعزيز صورة الدّولة.
فبالمفاوضات أو الحوارات، كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تحاول ترجمة ما أنجزته على مستوى العسكر لتحقيق مكاسب سياسيّة.
ومن خلال قناع الدّبلوماسيّة، وممارسة الخداع الاستراتيجي قام ترامب الذي رفع شعار السّلام في المنطقة، بالبدء بعقد جلسات تفاوض مع كلّ من روسيا وإيران، الأولى لوقف الحرب في أوكرانيا، والثّانية للتوصل لاتفاق حول ملّفها النّووي.
ومن ضمن استراتيجية دونالد ترامب الرئيس الأمريكي أيضا الغموض الاستراتيجي، إذ ذكر في كتابه "فنّ الصّفقة" الذي يقول فيه: "يمكنك أن تكون غير مُتَوقّع قدر الإمكان، وعندما لا يعلم أحدٌ ما هي خطوتك التّالية، تكون لك اليد العليا".
إن البُعد الأمني والمستوى التكتيكي لمفهوم الخداع والذي يمكن تعريفه على أنَّه "المعلومات التي تُبث عبر بيان أو فعل لدفع الآخرين لقبول تصور مزيف للواقع بهدف التأثير على سلوكهم"، وهو تعريف المؤرخ العسكري والضابط السابق بوحدة استخبارات الحرب النفسية بالجيش الأمريكي بارتون وايلي. التعريف السابق للخداع يضع المفهوم في قالب إجراءات التزوير والتضليل وهو المعنى اللغوي للمرادف الإنجليزي"Deceptio"، بينما تشير تصورات أخرى -تتبنى المعنى العملي والفني- إلى تضمنه لممارسات أشمل تنطوي على توظيف الحقائق ضمن أدوات أخرى لنسج واقع أو صورة محددة، حيث يقوم الخداع -كما يعرفه بعض خبراء علوم الأمن- على أربعة مبادئ أساسية وهي: الحقيقة، والتعمية، والتمويه، والتضليل. وتعتمد المبادئ الثلاثة الأولى على عرض معلومات حقيقية بشكل معين يحول دون تكوين الخصم لتصورات دقيقة، في حين يخدم المبدأ الأخير (التضليل) هدف توجيه الخصم إلى بديل أكثر جاذبية.
فمثلا تضخيم حقيقة معينة والترويج لها بشكل مكثف يساهم في إسقاط حقائق أخرى من الاعتبار ما يعزز صورة خاطئة للواقع، وهو ما يلخصه كبير محللي سي آي إيه الأسبق (1970-1984م) ومؤلف مجموعة كتب في علوم الأمن والاستخبارات، روبر م. كلارك، حيث يجادل بأنَّ "كل أنواع الخداع تعمل في إطار ما هو حقيقي، فالحقائق تضع اللبنة الأولى للتصورات والمعتقدات؛ ثم تُوظف تلك الحقائق لخداع الخصم".[3]
لكن ممارسة الخداع خصوصا في السياق الاستراتيجي كثيرا ما يتطلب إقحام الدبلوماسية والاتصال السياسي كقنوات لبث الرسائل ونسج الوهم، ويشير التعريف الساخر للدبلوماسي الإنجليزي هنري ووتن للسفير أو الدبلوماسي باعتباره "رجل صادق يرسل للخارج ليمارس الكذب لصالح دولته" إلى تأصل المفهوم والممارسة في العلاقات الدولية والتفكير الغربي.
تتميز طبيعة العمل الدبلوماسي بحساسية عالية تجاه التصريحات والمعلومات المتناقلة، وذلك لأنَّ أسس العلاقة في المجال السياسي وحقل العلاقات الدبلوماسية لا تقوم على الخداع وإنما على "المصداقية والثقة"، ما يجعل من ممارسة الخداع مهمة خطيرة وحرجة لما لها من تداعيات مباشرة على سمعة الدولة وعلاقتها الخارجية؛ ليس بالطرف الممارس عليه الخداع فقط، وإنما مع الأطراف الدولية الأخرى، وهو ما يحد من نطاق تطبيق المفهوم في هذا المجال ويميز طريقة تنفيذه عن المجالات الأخرى التي تتسم بسرية أكبر، كما يضفي عليه طبيعة نوعية، إذ غالبا لا يُمارس الخداع إلا في سياق استراتيجي أو في بيئات ذات طبيعة عدائية. وبالرّغم من ذلك مارست الولايات المتحدّة الأمريكيّة الخداع بالدّبلوماسي مع الجهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، في مفاوضاتها الأخيرة 2025م، وهو ما دفع نخبا سياسيّة في أمريكا وغيرها من الدّول باعتبار أمريكا طرفا غير موثوق دوليّا، بسبب استخدامها الخداع في دبلوماسيّتها الدوليّة.[4]
ويمكننا ذكر كثير من النماذج التّطبيقيّة بعد طوفان الأقصى حول الخداع الاستراتيجي وأهمها:
1- من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي كانت تعطي إشارات إيجابية للطّرف المقابل، وترفع بذلك سقف توقّعات المُفاوِض الآخر حول نتيجة المفاوضات، وتدفعه لمنطقة الرّاحة السيّاسيّة في تقييم الوضع مع الطرف الآخر المُفاوِض، وتبقيه خارج احتمالات الحاجة إلـى التّأهّب العسكري، كما حدث بين أمريكا وإيران في المفاوضات، حيث تأرجح الموقف الأمريكي بين مدّ وجزر، فتارة ترتفع التّوقعات بإمكانيّة توقيع اتفاق قريب حول الملف النّووي، وتارة أخرى تتراجع الاحتمالات كثيرا حول إمكانية التّوصّل لهذا لاتفاق، وتصبح المسافة بعيدة.
وقبل موعد انعقاد المفاوضات الأخير يوم الأحد الموافق 15 حزيران/ يونيو 2025م، سرّب البيت الأبيض عن وجود خلافات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو تتعلق بطبيعة المفاوضات مع إيران، فأعطت هذه التّصريحات إيحاءات لإيران بوجود خلاف فعلي مردّه المفاوضات بينها وبين أمريكا. وهذا لا ينفي عدم قراءة إيران الحذرة للتّصريحات، إلا أن طبيعة التّصريحات، وتوقيتها، إضافة إلى السيّاق التاريخي للسّلوك الأمريكي مع إيران، قد يكون دفعها مبدئيّا لاستبعاد الخيار العسكري من قبل إسرائيل، باعتبار أن هناك خلافا حول مطلب نتنياهو للقيام بعمل عسكري ضد إيران، وأنه كان يلح على أمريكا لإعطائه الضّوء الأخضر، بل ومشاركة أمريكا في الحرب مع إسرائيل لضرب مفاعلات إيران النوويّة، لأن أمريكا هي من تملك القذائف الخارقة للتّحصينات، وكان نتنياهو يحاول بشتّى السّبل لاستدراج أمريكا إلى حرب عسكرية ضد إيران لضرب مفاعلاتها النّوويّة. لكن إيران ونتيجة التصريحات الأمريكية حول وجود خلاف بين نتنياهو ودونالد ترامب قد تكون استبعدت الخيار العسكري.
واستخدام أمريكا للقوّة النّاعمة، وسلاح المفاوضات والدّبلوماسيّة الخدّاعة، دفع لانخفاض مستوى توقّعات إيران بوقوع الحرب، ثم فاجأ الكيان الصّهيوني إيران بضربة مباغتة في فجر يوم الجمعة 13 حزيران/ يونيو 2025م، أي قبل انعقاد المفاوضات بين أمريكا وإيران بيومين، وصرّح ترامب أنه أعطى مدّة 60 يوما للتوَصّل لاتفاق، وأن هذا اليوم الذي اندلعت فيه الحرب علـى إيران هو اليوم الواحد والسّتون، وأنه يقول ولا يتراجع عن كلامه، ثم صرّح دونالد ترامب خلال الحرب، بأنهم استخدموا الخديعة من خلال تسريب تصريحات تفيد بوجود خلاف بين ترامب ونتنياهو لخداع إيران، ثم مباغتتها بالحرب.
2- تأخير ضربة إيران للكيان الصّهيوني الانتقاميّة لاغتيال رئيس المكتب السّياسي لحركة إسماعيل هنيّة على أرضها، هذا التّأخير أيضا جاء تحت تأثير الخداع الأمريكي والمماطلة الأمريكيّة، التي عطلت مفاعيل الرّد بحجة قرب التّوصل لاتفاق بين حماس والكيان الصهيوني لوقف الحرب، وتبادل الأسرى، وهو ما جعل إيران تتريّث حتى لا تفوّت الفرصة على حماس، ولأنها تهدف من هذه الضّربة الضّغط لوقف الحرب على غزة، فإن كانت ستتوقّف الحرب دون الحاجة للرّد الإيراني، فلن تقف إيران حجر عثرة في طريق ذلك، ومارست أيضا أمريكا في هذا الوقت خداعا استراتيجيّا، عطّلت فيه ردّة الفعل الإيرانيّة لخدمة الصهّاينة وحمايتهم.
3- أما لبنان فقد تعَرّض لخديعة كبرى نتجت عنها خسائر فادحة، حيث توصّلت أمريكا مع لبنان لعمل اتفاق لوقف حرب مساندة غزة التي قامت بها المقاومة في لبنان لدعم غزة في حرب طوفان الأقصى، حيث اتفق بنيامين نتنياهو مع الولايات المتحدة على وقف إطلاق نار مؤقت في لبنان إبان حرب المساندة لمدة 21 يوما، وأُبلغت الحكومة اللّبنانيّة بالاتفاق، ووافق عليه الأمين العام لحزب الله، السّيد حسن نصر الله، على أن يتم الإعلان عن الاتفاق وتفاصيله بعد عودة نتنياهو من الأمم المتحدة، إلا أن نتنياهو استبق هذا الإعلان بضوء أخضر أمريكي بإعطاء الأمر من مبنى الأمم المتحدة باغتيال السيد حسن نصر الله في يوم الجمعة، عند الساعة السادسة مساء 27 أيلول/ سبتمبر 2024م، وأشرف نتنياهو بنفسه على عملية الاغتيال من ذات المبنى وبحضور قيادات أمريكية، وأنجزت عمليّة الاغتيال بعد أن تم قصف الموقع المتواجد فيه السيد حسن نصر الله بما يقارب ثمانين طنّا من المتفجرّات، ثم شُنّت حرب على لبنان بعد ذلك.
وكانت هذه بمثابة خديعة تكتيكية بأدوات ناعمة سياسيّة مثل عقد اتفاقيّات وهدنة، تجعل الطّرف المخدوع يخفف من حذره، ثم يقوم الطّرف الآخر باللجوء مباشرة إلى القوّة الصّلبة لتحقيق خطّته العسكريّة، والانقضاض على الطرف الآخر. وما زالت اليوم تبعات عملية الهدنة التي أقرت لوقف الأعمال العدائية في لبنان تتوالى، إذ إن ما عجز الصهيوني عن تحقيقه بالحرب، يخوض اليوم معركة تحقيقه بالدبلوماسية، إلا أن الدبلوماسية هي مجرد محاولة تمهيدية لحرب المفاجآت التي أقرها الكيان الصهيوني، والتي يسمح من خلالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمناورات دبلوماسية ناعمة علّها تحدث خرقا في جدار الرفض اللبناني الهش، فتحقق المطالب الصلبة الصهيونية المتمثلة في منطقة عازلة اقتصادية على حدود لبنان وفلسطين المحتلة، ومنطقة منزوعة السّلاح في جنوب الليطاني، وأما شمال نهر الليطاني فوجود الجيش اللبناني بأسلحة خفيفة ليس للدفاع عن لبنان بل لحماية الكيان الصهيوني، وقبل كل هذه الشروط نزع سلاح المقاومة في لبنان.
4- أما غزة فإن الاتفاقية بعنوان السلام ووقف الحرب ما هي إلا توسيع مساحة الاحتلال داخل غزة، وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة لإجبار أهلها على مغادرتها، ومن ثم البدء بمشروع دونالد ترامب الاقتصادي.
ويبقى السؤال المهم:
هل ستنجح استراتيجية أمريكا في الخداع الاستراتيجي أمام صمود المقاومة، وصمود حواضنها الرافضة لأي تسويات لا ترتقي إلى مستوى التضحيات؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
__________
[1] هو مصطلح يشير إلى مزيج من استراتيجيّات القوة الصّلبة واستراتيجيّات القوّة النّاعمة. ويعرّفه مركز الدّراسات الاستراتيجيّة والدّوليّة بأنه " منهج يؤكد ضرورة وجود جيش قوي، لكنّه يستثمر بكثافة في أيضا في التحالفات والشراكات والمؤسسات من جميع المستويات، لتوسيع نفوذ الأطراف وإثبات شرعيّة فعلها".
[2] Crocker, Chester A؛ Hampson, Fen Osler؛ Aall, Pamela R. (2007). Leashing the Dogs of War: Conflict Management in a Divided World. US Institute of Peace Press. ص. 13. ISBN:978-1-929223-97-8. مؤرشف من الأصل في 2016-06-03.
[3] Deception: counter deception and counterintelligence, William L. Mitchell, Robert Clark
[4] December 1941: 31 Days that Changed America and Saved the World, CRAIG SHIRLEY (بتصرّف).