من القضايا المهمة أن نلحظ ما أشرنا إليه في المقال السابق من فكرة النماذج الفكرية المرتحلة والتي مارست انتقالا وتحولا من فكرة الى فكرة؛ تصل في بعض صورها الى تحول عقدي ملحوظ، حتى حطت تلك النماذج ورست في النهاية على مرسى الإسلام كمشروع حضاري تعبر عنه كمرجعية تأسيس لرؤيتها، من دون أن يعني أن هؤلاء تحولوا لنمط واحد؛ كلهم حط في تلك المحطة بفهم عميق ونضج عظيم واجتهاد واسع عليم بمكنون هذا المشروع الحضاري، ووضع لبنة فيه اختص بها واختصت به وتشير إلى سعة المرجعية الإسلامية التي انضوى تحتها كل هؤلاء حتى لو دخلوا إليها من أبواب متفرقة؛ سواء في مجال اختصاصه أو اهتمامه أو خبراته المعرفية والفكرية والثقافية والحضارية.



كانت عملية الانتقال الفكري تلك تتسم بسمتين؛ أولاهما تطور الأفكار وثانيتهما انضاج الأفكار في سياق خبرة الاحتكاك الدائم مع خطاب جديد وجمهور جديد؛ أدلى بمعطياته وبقدر من تصوراته ضمن خبرة التفاعل الممتد والمتبادل استقرت الأفكار وتنوعت الإسهامات والأدوار. لو أردنا أن نذكِّر ببعض هذه الخبرات لطال بنا المقام.

ولكن الشاهد في الموضوع فطنة القارئ إلى هذه الخصوصية التي تميز هذه النماذج المرتحلة في فترة الانتقالات المتعددة؛ هذه القراءة التي تربط المفكر بسياقاته التي سبقت والتي لحقت، ضمن قراءة مقام الأقوال والكتابات، بمعلومية اعتبار السياقات في تلك الأحوال المتغيرة منهجا مأمونا ومضمونا في القراءة وعمليات التقييم وما يرتبط بها من أفكار ربما لم تستقر وغالبا لن تستمر؛ ومواقف ربما تبدلت عبر هذه الرحلة والارتحال عبر مسيرته الثقافية والحضارية، وما يترتب على ذلك من منهجيات في النظر والتعامل والتناول.

الأمر إذا مع استصحاب حال الانتقال والتحول والارتحال؛ لا بد أن يقترن بمنهج رصين يلحظ تلك الأحوال والتبدلات التي تطرأ على عالم الأفكار؛ بمنهج نظر بصير ومستبصر، فلا يتورط في الحكم النهائي على هذا المفكر الشخص من ملاحظة عابرة لا متفحصة لحالة الارتحال الفكري. ولهذا ربما يكون هذا هو أحد المعاني التي يمكن تدبرها في القاعدة الذهبية "الأعمال بالخواتيم"، وهو منهج نبوي قويم في الدعوة؛ مسكون بتدبر الأحوال واستثمار طاقات محتملة تسهم في المشروع الحضاري الإسلامي؛ "لعل الله يُخرج من أصلابهم". فإن كان ذلك كذلك في عالم الكفر والإيمان؛ فهو أوجب في عالم الأفكار والأقوال والمواقف الى أن تتم مرحلة الإيمان بعد إعلان الإسلام فينتقل الى حالة الإيمان المستقر: "ما وقر في القلب وصدّقه العمل"، بل إن هذا الأمر وفي حال الإنسان الذي يتقلب بين أحوال وأحوال؛ عليه أن يضع نُصب عينيه قاعدة ذهبية أخرى: "الإيمان يزيد وينقص وترد عليه تبدلات".. اللهم ارزقنا ثباتا على الحق والعدل؛ واجعلنا من الصالحين المصلحين.

ومن ثم من المهم استصحاب كل تلك المقدمات في تقييم عالم الأفكار والمواقف حينما نتحدث عن مواقف روجيه جارودي (رجاء جارودي)، فلا نتورط في أحكام متسرعة ومتعجلة ضمن المنهج القرآني "فتبينوا"، "فتثبتوا"؛ هذا النداء القرآني منهجيا وحركيا هو المنهج القويم المستقيم.

ولا يظن أحد أننا نحاول أن نبرر لشخص أو موقف أو نلتمس له الأعذار أو المعاذير؛ بل أردنا أن نؤصل معاني الاستقامة القرآنية في الحكم على الأشخاص والمواقف والأفكار: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنا" (النساء: 94). ولا يمكننا أن نتورط مع من تورط؛ فيلقون على مثل جارودي سهام التكفير ووصف الكفر؛ على تفهمنا لرأي بعضهم غيرة على دينهم، والأولى في هذا المقام النصح القويم لا التكفير العميم: "لأن يأتيني أحدكم برجل أهدى خير من يأتيني بحمر النعم".

صحيح أنه من أبرز من دعوا لوحدة الأديان المفكرُ الفرنسيُّ روچيه جارودي قبيل إسلامه حتى بعد إسلامه بقليل، فطرح نوعين من الوحدة أحدهما وحدة صغرى وهي "الإبراهيمية"، ويهدف من ورائها إلى توحيد الأديان التي تُعلن انتماءَها إلى أبي الأنبياء إبراهيم وهي الإسلام والنصرانية واليهودية، والنوع الآخَر وَحدة كبرى تشمل الجميع حتى الوثنية والملحدين، ولكن لم تكن تلك هي الخواتيم في عالم الأفكار والمواقف.

وقد واجهه الأستاذ الدكتور محمد عمارة آنذاك تعقيبا على رأيه ذلك بقوله: "وإذا كانت الغاية من حوارنا هذا مع فيلسوفنا جارودي هي المراجعة للأفكار، وإذا كنا لا يرادونا أدنى شك في إخلاص الرجل لقضيا الأمة الإسلامية، التي يدافع عن العديد من منها بنبل وبسالة، ومنها نقده لهيمنة الغرب والشمال على حضارات الجنوب -وفيها المسلمون وحضارتهم - فإننا نلح على أن الاعتقاد بالوحدة، في المعتقد والحضارة، في ظروف التوازنات الراهنة لموازين القوى -وهي شديدة الاختلال بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى- سيؤدي إلى المزيد من تكريس هيمنة "المركز الغربي" على "الأطراف"، وإلى مزيد من تقليد "الأطراف" للمركز، بدلا من الاجتهاد والإبداع، اللذين لا سبيل لهما ولا طريق إليهما إذا تخلف الإيمان بتميز النموذج الحضاري، الذي يستدعي اجتهادا متميزا وتدافعا".

ويضيف عمارة: "فتح العقول والقلوب والحِمي الفكري لمذاهب الغزاة وخصوصيات الآخرين، بدعوى وحدة العقائد، وانتفاء تفوقنا العقدي، فإنه المقدمة للهزيمة النفسية، المكرسة للهزائم الأخرى.. فالاعتقاد في التفوق العقدي -فضلا عن أنه هو الحق الذي نؤمن به- هو أفعل حوافز الأمة إلى الجهاد والاستشهاد!" وإعمال سنن التدافع الحضاري".

وخيرا فعل أحد طلاب "محمد الحافظ قادري" في جامعة الشهيد حمه لخضر في الجزائر، في رسالته لمتطلبات الماجستير "وحدة الأديان في فكر روجيه جارودي"، فجعل أحد أهم أهداف دراسته هو تجلية حقيقة دعوى جارودي حول وحدة الأديان ومتعلقاتها، وبيان فكرة الديانات الإبراهيمية لديه؛ فكانت أهم النتائج التي توصَّل إليها في دراسته القيمة والضافية "أن جارودي قد فُهمت" تصريحاته ذات البعد الفلسفي الصوفي خطأ؛ حيث كان رافضا رفضا قاطعا للدعوة الى وحدة الأديان واستخدامها كغطاء لمصالح سياسية واقتصادية، وكانت له نظرة مختلفة للدين المسيحي وكذا الأيدولوجية الماركسية، ووجد في الإسلام ما ينقص العقيدة المسيحية والأيديولوجية الماركسية؛ حيث وجد الدين الكامل والذي يسمو بالإنسان إلى أعلى الدرجات من المثالية والحياة الواضحة المعالم والمآلات.

يؤكد جارودي أن من واجبنا "أن نوقظ الإسلام في نفوس المسلمين، حتى يستعيد فعاليته كأول عهده، ونكرر أنه في العالم المعاصر لا يزال هذا الإيمان هو الوحيد القادر على تحريك الناس، وليس هذا الأمل فقط من أجل أن يستعيد المسلمون دورهم كعنصر "فعال" في التاريخ، وليس كعضو خامل ومهين كما كان في عصر الاستعمار، ولكن هذا الأمل أيضا من أجل حضارتنا التي تتنازعها الوضعية والفردية، وبذلك أصبحت غير قادرة على طرح السؤال "لماذا" لم نجعل للحياة والموت والتاريخ معنى. وقد وقعت هذه الحضارة في براثن الزيادة من أجل الزيادة، والقوة من أجل القوة مما قادها إلى تدمير نفسها. يجب أن يكون عندنا هذا الأمل من أجل بقاء العالم".

وفق قواعد كيف نقرأ النماذج الفكرية المرتحلة؛ لا بد من التمييز بين جارودي القائل بوحدة الأديان والإبراهيمية في أول عهده وبين جارودي في كتابه "الإسلام دين المستقبل"، حيث يقول: "أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، وكان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد، وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم. والمثير للدهشة أنه في إطار توجهات الإسلام استطاع العرب آنذاك ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش نماذج لهذه الحضارات، بل أيضا إعطاء زخم قوى للإيمان الجديد: الإسلام. فقد تمكن المسلمون في ذلك الوقت من تقبل معظم الحضارات والثقافات الكبرى في الشرق وأفريقيا والغرب، وكانت هذه قوة كبيرة وعظيمة له. وأعتقد أن هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويا ومنيعا".

وكذلك كتابه "الإسلام يقطن مستقبلنا"، كما كشف في عدد من كتبه حقيقة الحروب التي خاضها ويخوضها الغرب بقيادة أمريكا، ومنها كتاب "أمريكا طليعة الانحطاط"، كما ألف كتابه القيم منتقد حضارة الغرب "حفارو القبور: نداء جديد للأحياء".

وناصر قضايا عربية وإسلامية كالقضية الفلسطينية، وواجه الصهيونية بشراسة خاصة بعد مجزرة صابرا وشاتيلا في عام 1982، حيث أصدر بيان إدانة لها وقعه معه الأب ميشيل لولون، والقس إيتان ماتيو، ونشر في جريدة لوموند الفرنسية يوم 17 حزيران/ يونيو من العام نفسه بعنوان "معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان". وشن عليه الإعلام الموالي لإسرائيل والصهيونية حملة شعواء، وصوره على أنه عنصري ومعاد للسامية، وقاطعته صحف بلاده. إلا أنه لم يتراجع عن مواقفه، وفي مرحلة هامة من تاريخه أصدر الرجل كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" عام 1995.. "اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: 8).

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفكرية جارودي الأديان الاسلام أديان الفكر الابراهيمية جارودي مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من أجل

إقرأ أيضاً:

متحدث سابق باسم جيش الإسلام يكشف سعيه لتحرك قضائي ضد الفصيل السوري

قدم مجدي نعمة المتحدث السابق باسم "جيش الإسلام"، نفسه أمام المحكمة الفرنسية على أنه "مبلّغ"، مشيرا إلى أنه حاول سابقا تحريك دعوى قضائية ضد الفصيل السوري في تركيا.

ويُحاكم نعمة المعروف بالاسم الحركي "إسلام علوش"، أمام محكمة في باريس بتهم التواطؤ في ارتكاب جرائم حرب في سوريا بين عامي 2013 و2016، خلال فترة عمله متحدثا باسم "جيش الإسلام"، أحد أبرز الفصائل المسلحة التي قاتلت نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.

وتشمل التهم الموجهة إلى نعمة المساعدة في تجنيد أطفال ومراهقين للقتال في صفوف الفصيل، وهي جريمة تعرضه في حال الإدانة لعقوبة تصل إلى عشرين عاما في السجن، حسب وكالة "فرانس برس".


والاثنين، قال نعمة للقضاة ومحامي الدفاع خلال جلسة المحكمة في باريس: "عملت على هذه القضية لمدة عام ونصف العام ولكن للأسف رفضت تركيا" إطلاق تحرك قضائي.

وأوضح أنه كان يسعى للتبليغ عن تجنيد القصّر بعدما ترك الفصيل، مشيرا إلى أنه كان يستعد مع آخرين لرفع قضية من تركيا، حيث كان يقيم عندما كان ناطقا باسم المجموعة، ضد "جيش الإسلام" بتهم ارتكاب جرائم حرب.

وتجدر الإشارة إلى أن نعمة دخل فرنسا أواخر عام 2019 ضمن برنامج تبادل طلابي جامعي، قبل أن يتم توقيفه في مدينة مرسيليا في كانون الثاني /يناير عام 2020.

وتُجري فرنسا هذه المحاكمة في إطار مبدأ "الولاية القضائية العالمية"، الذي يتيح لها منذ عام 2010 ملاحقة مرتكبي الجرائم الجسيمة، كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، حتى وإن ارتُكبت خارج أراضيها.


ويشار إلى أن الصرع السوري، الذي اندلع عام 2011 إثر قمع نظام الأسد للحراك الثوري، أودى بحياة أكثر من نصف مليون شخص وتسبب في نزوح وتشريد ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها.

وفجر الأحد 8 كانون الأول/ ديسمبر، دخلت فصائل المعارضة السورية إلى العاصمة دمشق، وسيطرت عليها مع انسحاب قوات النظام من المؤسسات العامة والشوارع، لينتهي بذلك عهد دام 61 عاما من حكم نظام حزب البعث، و53 عاما من حكم عائلة الأسد.

وفي 29 كانون الثاني/ يناير، أعلنت الإدارة السورية الجديدة عن تعيين قائد قوات التحرير أحمد الشرع رئيسا للبلاد في المرحلة الانتقالية، بجانب العديد من القرارات الثورية التي قضت بحل فصائل المعارضة المسلحة وتوحيد السلاح بيد الدولة، بالإضافة إلى حل حزب البعث العربي الاشتراكي والبرلمان التابع للنظام المخلوع.

مقالات مشابهة

  • خطيب الجامع الأزهر: اجتمع كل دين الإسلام في هذا الحديث النبوي
  • القاعدة تتبنّى الهجمات في بوركينا فاسو وتعلن مقتل 60 حنديا
  • أبوزريبة: من يعبث بأمن طرابلس يهدد استقرار الزاوية وسائر الغرب.. وتأخر لم الشمل يخدم مشروع التقسيم
  • 90 بالمائة نسبة إنجاز الأعمال الإنشائية بمستشفى محوت
  • بلدية الفجيرة: 40% من الأفكار ترجمت إلى مشاريع
  • ينتمي لوطنه فقط.. طارق حجي يكشف عن سر قوة ووحدة الجيش المصري|شاهد
  • علي جمعة: الإسلام ليس دين حرب ولم ينتشر بالسيف
  • علي جمعة: الإسلام علّم الإنسانية مبادئ الحرب الرحيمة
  • متحدث سابق باسم جيش الإسلام يكشف سعيه لتحرك قضائي ضد الفصيل السوري
  • حاملات الهيمنة الأمريكية.. سقوط الغرب الإمبريالي