«نزوح».. ابتسامة على حائط مُهدم !
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
ترددتُ كثيرا في متابعة فيلم «نزوح» في رحلتي الأخيرة بالطائرة، خشية التورط في آلام إضافية فوق ما يقترحه الواقع العربي المثخن بالجراح، فالعنوان يقبضُ على مفردة بالغة القسوة بتنا نسمعها كل يوم وكل لحظة. إذ تتجاوز كلمة «نزوح» الواقع السوري -الذي يتناوله الفيلم- لتلقي بظلالها البشعة على مشهد عربي تطحنه الحروب، لكن المخرجة سؤدد كنعان في فيلمها «نزوح» ٢٠٢٢، الحائز على جائزة الجمهور في الدورة التاسعة والسبعين من مهرجان البندقية السينمائي، تمكنت بفطنة عالية من تجنيبنا رؤية الحرب، لتبني أغلب مشاهد القصّة في البيت.
الصورة النقيضة لفعل النزوح تكمن في البيت الذي أراد الأب أن يتشبث به في ذلك المكان المرعب، حيث يغدو مجرد رؤية أحدهم يعبر في الشارع محض سراب في العقل المسكون بالوحدة.
يظهر الأب كمصدر للحماية، منذ اللقطة الأولى التي يجاهدُ فيها لإعادة الكهرباء، أو عندما يُغامر بحياته تحت أنظار القناصة ليحضر الماء أو القليل من الطعام، فالبيت يجسد صورة الوطن. لكن الأمّ والبنت لم تعودا تحتملان العيش فيه، ترغبان بفرصة عيش سوية كالآخرين، وهنا نقع أمام سؤال جوهري: أنختار البقاء أم النزوح في عنفوان الحرب؟!
تلعبُ المخرجة بذكاء على المعنى ونقيضه في آن، فعندما سقط سقف غرفة البنت -الغرفة التي تظهر بأسِرة كثيرة كانت لأخواتها اللواتي غادرن مع أزواجهن لقصص غير مأمونة تماما- غدت الغرفة مفتوحة على السماء.
يظهر جسد البنت الضئيل على سريرها -في لقطة علوية- ناظرا إلى النجوم وإلى نسمة الهواء الباردة وإلى البعوض الذي يمص دمها. لكن سقوط السقف الذي قلل الحماية من جهة، صار مصدرا لطمأنينة من نوع آخر عندما انكشف على صبي يحلم هو الآخر، الصبي الذي أتاح لها فسحة للأحاديث والأمنيات ومشاهدة فيلم مصور.
عندما تكاثرت ثقوب البيت، وقع الأب في حيرة من أمره، وتوهجت رغبته في صون العائلة، فكان أن وضع الشراشف بكل ألوانها المتباينة، لكيلا ينظر الغرباء إلى نساء بيته، لكيلا ينكشفن، إلا أنّ أقلّ نسمة عابرة كانت كفيلة بهدم مجهود الأب الطويل. لفتني اختيار الشراشف إذ بقدر ما تعكس ألوانا مبهجة فإنها تحمل أيضا دلالة الهشاشة والضعف والتمزق تماما كأحلام الأب غير الواقعية. كما أنّ المبالغة في الخوف من انكشاف نساء البيت إزاء اختفاء الجيران التدريجي، يُحيل أيضا على التشبث المحموم بعادات أهل الشام، ومحاولة تأكيد الوجود والبقاء.
الخيال أنقذ البنت الصغيرة من متاهة خيباتها، كانت تقذف الأحجار في الفراغ، فتصطدم ببحيرة خلابة، وفجوات البيت المغطاة بالشراشف الملونة -التي تعبث بها الرياح- قدّمت لوحة جمالية آسرة لعينيها، والصبي الصغير الذي عرف وجهة النزوح أرانا هو الآخر نظرة متفائلة بجيل مُتسلح بمعرفة مغايرة.. في التصوير والسينما والتعاطي مع الشبكات التقنية الحديثة.
عمّق الفيلم فكرة البيت وإمكانية إصلاحه وترميمه، عمّق الأمل، لكن ما لبث أن أحدث نكوصا مفاجئا نحو النزوح، عندما بدأ وجها الأمّ والابنة يشعان بأمل لقاء البحر والحرية، وكأنّهما أمران لا يتحققان إلا بالمغادرة، حتى الأب آخر المتحصنين بفكرة البيت لحق بالعائلة!
وبقدر خشيتي من تناول قضية «النزوح» من منظور كئيب، إلا أنّه من الصعب أيضا أن ينتهي الأمر بحالة رومانسية، فرفض النزوح هو رفض لحالة الطمس والتشويه، رفض الاغتراب خارج حدود البيت، لا سيما وأنّ المخرجة اعتمدت على قصص واقعية لأناس حقيقيين عاشوا التجربة، ثمّ جعلتنا ننظرُ بأعينهم لما تُحدثه الحروب من مشقة وآلام.
أعطت المخرجة النزوح طابعا من الانفتاح على أماكن جديدة، فلم يتكثف حزن الرحيل وأوجاعه في وجوههم، بل عبروا إليه جميعا بشيء من التسليم المباغت، وهو ما قد جعل المتفرج يشعر بأنّه مخدوع!
ولعلي أتذكر ما قاله بطل الفيلم سامر المصري «معتز» حول طريقة المخرجة في تناول فعل النزوح: «تتناولُ موضوعا مأساويا بطريقة لطيفة وقريبة من القلب، وكأنّها ترسمُ ابتسامة على حائط مهدم»، فلم يظهر وجه السياسة القبيح وأدواتها القذرة وإنّما ترددات خافتة في حياة شخصيات ترغب في العيش.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
"البيت العود" في مطرح
أنور الخنجري
كان صباحًا من تلك الصباحات التي تنبض بالحياة في المناطق الساحلية، حيث تعانق أشعة الشمس صفحة الماء الصافية، فتبدو كمرآة شفافة تمتد في الأفق، متجاوزة اليخوت السلطانية والسفن السياحية الفاخرة وقوارب الصيادين التي تتناثر على ساحل سوق الأسماك في مطرح.
هناك، في تلك البقعة المعروفة بـ"الشارع البحري" أو "الكورنيش"، وفي هذه المدينة العريقة التي كانت في زمن ما مرسى لأساطيل البرتغاليين، والإسبان، والعثمانيين، والفرنسيين، والهولنديين، والبريطانيين، تستعرض قواها أمام صمود الأسطول العُماني الفذ، إلى جانب تلك السفن التجارية القادمة من شرق المعمورة وغربها، وما تحمله في خاناتها من سلع وبضائع خاصة بالتجار العمانيين، وجلها كانت ترد عن طريق وكلاء الشحن المحليين ومنهم الحاج علي بن عبداللطيف فاضل، التاجر والوجيه المطرحي البارز، الذي يعود إليه الفضل -بعد الله سبحانه وتعالى- في بناء هذا الصرح المعروف بـ"البيت العود" أو "بيت الحاج علي" كما يسميه عامة الناس، و"البيت العود" بالمصطلح العماني هو البيت الكبير أو بيت كبير العائلة، ويعود تاريخ تشييده لأكثر من 100 عام.
يصعب على الزائر أن يخطئ رؤية هذه الأيقونة المعمارية المطلة على شاطئ مطرح، بواجهتها البحرية الخلابة، وشرفاتها الواسعة، وأقواسها الضخمة، ونوافذها الخشبية المطلية باللون الأزرق، ومشربياتها المتقنة، التي تثير الحيرة والتأمل؛ حيث يقف الزائر أمامها متأملًا حائرًا بين ماضٍ يبدو كأنه خرج من صفحات التاريخ، وحاضر لا يخلو من ملامح تجربة فريدة في هندسة البناء، مما يثير تساؤلات عدة؛ هل هي عمارة عُمانية؟ أم هندو - أوروبية؟ أم مستلهمة من طراز البيوت الشاطئية الانجلو - فرنسية، أو تلك المطلة على مضيق البوسفور؟
كثيرة هي التساؤلات، لكن هذه التفاصيل الدقيقة هي التي تمنح مطرح نكهتها الخاصة، ولولاها لكان الشاطئ كبقية الشواطئ، بمياهه الفيروزية ورماله الناعمة. لكنه لم يكن كذلك؛ لقد كان مسرحًا لتجربة حضارية فريدة، انصهرت فيه ثقافات وخلفيات وأعراق متعددة، لتشكل أول مدينة اقتصادية في البلاد، لها قوانينها وتعاملاتها التجارية الخاصة.
وفي هذا السياق، مارسَ الحاج علي بن عبداللطيف فاضل وذريته دورًا محوريًا في تاريخ المدينة، إذ كانت لهم وكالات تجارية واسعة مع تجار الأسواق المحلية والعالمية، ومع شركات ما وراء البحار في آسيا وإفريقيا وحتى أوروبا وأمريكا. فقد شملت وارداته وصادراته سلعا مختلفة من كل تلك المناطق، وكان شهبندر التجار هذا محل تقدير ومكانة من الحكام والأعيان، ومنهم السلطان سعيد بن تيمور، الذي حل ضيفًا مرحبًا به في "البيت العود" في أواخر أربعينيات القرن الماضي وبصحبته عدد من أصحاب السمو والأعيان والتجار، في مناسبة لا تزال حاضرة في ذاكرة بعض أبناء مطرح الذين غمرهم الفخر والغبطة بمقدم السلطان. كما استقبل "البيت العود" في العهود السابقة شخصيات ورموزا سياسية واقتصادية وتجارية في المجتمع المحلي والخليجي، منهم على سبيل المثال الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي حل ضيفًا على وليمة أقامها على شرفة الحاج علي في عام 1950؛ أي قبل أن يصبح الشيخ أميرًا على دولة الكويت، إضافة إلى خطّار آخرين من مختلف الأجناس والجنسيات. كما شهدت جدران البيت العديد من اجتماعات أهل الحل والعقد في مطرح، وجرت في قاعاته الواسعة العديد من الصفقات والعقود التجارية والعائلية.
لكن الزمن لم يعد هو الزمن؛ فالمدن قد تبدلت، والوجوه تغيّرت، وبقي الحنين إلى الماضي حلمًا طويلًا، إلى أن بدأ يتجلى واقعًا ملموسًا. ففي قلب مدينة مطرح؛ حيث تتعانق طموحات المال والأعمال مع تحديات الواقع، بزغ اسم "البيت العود" من جديد، برؤية لا تنتمي إلى الماضي ولا تحاكي الحاضر، بل ترسم ملامح مستقبل ما يزال يتشكل.
ويقف "البيت العود" اليوم على ذلك الشريط الساحلي الممتد بين مسقط ومطرح، مبنى من طابقين، بمدخل جانبي يعلوه باب خشبي أنيق بنقوش إسلامية جميلة، وجدران بيضاء تتخللها نوافذ زرقاء، كأنها تعلن عن لونٍ في لوحةٍ قديمة. أما في الداخل، فثَمّ مساحات رحبة، مؤثثة بذوق رفيع، تتوسطها صالات فاخرة بأبواب طويلة يكسوها الزجاج الملون. فإذا خرجت إلى الخارج، ألفيتَ شُرفات ظليلة لا متناهية، يُخيّل للناظر أنها تندمج مع الأفق وكأنها رأس بر ممتد داخل البحر الفسيح. يتكوّن البيت في الأصل من بيتين متراصين، تغطي مساحة بنيانه حوالي 1100 متر مربع، قام ورثة الحاج علي بترميمها وتجديدها بما يتلاءم مع متطلبات العصر، ليصبح "البيت العود" وجهة نادرة، تحاكي المتاحف الخاصة في كبرى مدن العالم.
وهناك، تحت سقف ذلك البيت الكبير، التقيت بالرجل الذي يقف خلف هذا المشروع الطموح رضا ابن الحاج علي العبد اللطيف، رجل تجاوز منتصف العمر، يحمل في ملامحه صلابة واضحة، وقد خاض تجارب عديدة في الحياة والأسفار. بدا هادئًا، واقعيًا، يتحدث بلغة بسيطة واضحة، بعيدة عن الزخرف والتكلف. شرح لنا، نحن الضيوف، عن تاريخ البيت وتفاصيل إحيائه، بلغة يميزها الاتزان والدقة، في تعبير صادق عن رؤية حقيقية لإحياء "البيت العود" مع فريق عمل آمن بفكرته حتى تحققت.
وهكذا، بعد مرور حوالي مائة عام على تشييده، يعود "البيت العود" إلى الحياة من جديد، تحفة معمارية تستعيد أمجادها بهدوء وأناقة، شاهدة على عراقة مطرح وعبقرية الإنسان العُماني حين يتلاقى الوفاء بالتاريخ مع طموح المستقبل. وفي هذا المقام لا يسعني إلا الاستشهاد بالأبيات الشعرية المحفورة على باب المدخل الرئيسي للبيت والتي تقول:
هذه الدار ما تزال سعيدة
لا تراها العيون إلا مشيدة
كلما رمّها العدو بليلٍ
ردّها الله فاستقامت جديدة