أجدُني للمرة الثالثة مضطرا لإدخال أمر شخصي في مكان مهني، فبعد مقاليْ (عطايا البلاء، ومن ينقذني من الموت)، يجيء هذا المقال كأول الثلاثة، شكرا لمن ساند ودعا، وهذا الدعاء باب الفرج، وأصل رفع البلاء.
تتفاوت أحوال صغيرتي في المرض بين الشدة والاستقرار، ولما اشتدَّ، وهو مرض لا علاج له، لجأت ككل مرة إلى أهل العلم أستجلب منهم بركة الدعاء في مجالس يحبها الله، وهُديت إلى اللجوء إلى كل من أحمل رقمه من سادتنا في فصائل المقاومة في الخارج؛ أستجلب بركة عملهم لدفع البلاء عن ابنتي، قائلا لهم: "وكما نستمطر بكم اللعنات على الصهاينة ومن معهم، فإنا نستجلب بكم الرحمات ببركة فِعالكم"، إذ "لا يرد القدر إلا الدعاء".
كنتُ مترددا للغاية، لثقل الهمِّ على أكتافهم، وعظيم بلائهم أمام بلائي، فشفَّعت طلبي بكلام الله قائلا: "إن الذي أصاب ابنتي بقدرته، قادر على أن يرفع عنها البلاء برحمته، فاذكروها في دعائكم لعل الله يجبر ما أصاب قلبها بمعجزة من عنده، ولا نُضطر إلى تلك العملية (زراعة القلب)، ببركة جهادكم. وأنا والله مستبشر بأن يصيبها الخير ببركة دعائكم ودعاء من توصونهم. أعلم الهم الثقيل الذي على كاهلكم نتيجة العدوان الصهيوني الهمجي، ومع ذلك فقول الله: "أشداء على الكفار رحماء بينهم"، وقوله: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" جرَّأني على اقتحام همومكم العظمى ومشاركتكم همّي الصغير".
جاء الرد من أهل الفضل والخير بالدعاء والدعم، رغم ما هُمْ فيه من همٍّ أوقف العالم بأسره على قدمه، لكنهم كما قال الله عزَّ وجل "أذلة على المؤمنين"، لا ينسون من يشاركهم همَّهم، ولا يغفلون عن طارق بابهم، وهذه آية من آيات الإيمان ومفهوم الجسد الواحد الذي يشد بعضه بعضا.
هؤلاء القوم لم ألقهم مرة واحدة، ولا أعرف وجوه بعضهم، ومَن أعرفه لم أره سوى على الشاشات، وهم لا يعرفونني كذلك، إلا عن طريق التواصل الصحفي بحكم عملي، كما أنهم متفرقون في أقطار الدنيا إقامة وسفرا، ومع ذلك أغاثوا طالب الغوث، وقطعوا انشغالهم ولو للحظات لطالب دعاء لا يعرفون وجهه، ولا وجه ابنته.
ذاب المقاوِم والمهدَّد بخطف الروح في أي لحظة في الإنسان، لكن روح الإنسان تعلو بالإباء كما يفعلون، وبالرحمة كما أبصرتُ بعيْنيَّ، فأُكرمتُ أيما كرم، وسمع الله دعوات من دعا من أهل الجهاد والعلم والمحبين، فتجاوزنا مرحلة الخطر بفضل الله، وقد كنا على شفا هاوية، فالحمد لله من قبل ومن بعدُ.
هذا الجانب الإنساني لا نبصره من سادتنا أهل الفضل، إذ لا نرى منهم سوى ما يردُّ بلاء العدو وصولته، فنرى منهم البأس فقط، وهذه المرة رأيتُ منهم جانب اللين والرفق والتعاضد والتكاتف وشعور الأمة الواحدة، ولا يليق إخفاء هذا الجانب لأستأثر بمعرفته وحدي، فمن حقهم أن يعرف مَن تصله هذه الكلمات ما هُم عليه في ساحِ الوغى وخارجها.
قد يعترض بعضُ من يستصعِب التعامل مع الغيب على مفهوم الدعاء ورفع البلاء به، خاصة أن كارثة عظمى حاقت بفلسطين، ونسمع من بعضهم قوله: "لو كان هناك صالحون لارتفع بلاء الأمة كلها".
وما تعلمناه في محاضن العلم في الأزهر الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألتُ ربي ثلاثا فأعطاني ثِنْتَيْن ومنعني واحدة، سألتُ ربي ألَّا يهلك أمتي بالسَّنَة (أي الجدب والقحط والمجاعة) فأعطانيها، وسألته ألَّا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألَّا يجعل بأسهم بينهم فمَنَعَنِيهَا". والحديث في مسلم، ولا أكرم على الله من نبيه، ومع ذلك لم يستجب له الدعاء في بعض المسائل، وانهزم في معركة أحد.
والأصل في هذا الباب؛ أن ما يخص سنن الكون والتغيرات الكبرى ومسائل تربية الأمم وتهذيب سلوكها، فإنها تجري بمقادير الله، لا يسيِّرها إلا هو، وفق ما عَلِمَ من قَبْل خلق الكائنات، ولا تغيرات أكبر مما نراه اليوم في القضية الفلسطينية على الموازنات الدولية والإقليمية، وهناك تفصيل طويل في المسألة لا يتناسب في هذا المقام المخصوص بشكر الفضلاء.
في خضم معركة طوفان الأقصى تبدَّت همجية ودموية الاحتلال الصهيوني، وانكشف الوجه الغربي تماما وازدواجيته، بل تكشَّف أثر العامل الديني في النزاع مع المنطقة وثقافتها، وهو الجانب الذي حاول الغرب تغييبه دوما منذ الوقوف على قبر الملك الناصِر صلاح الدين الأيوبي، من قِبَل الجنرال الفرنسي هنري غورو، وقوله "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، أو "صلاح الدين.. ها نحن". وأصبحت محاولة تغييب مفهوم الدين عن الصراع مستترة عبر نقل مفاهيم الصراع ومنطلقاته إلى مفاهيم أخرى مثل "الحضارة مقابل الهمجية" أو "الحرب العادلة مقابل الإرهاب".
كما تكشَّفت أزمة النخب العربية في مواجهة استبداد الحكام، ومنعهم التعاطف مع فلسطين والانتفاض لها في الشوارع، وترسَّخت صورة الحكام العرب المنبطحين أمام الغرب، والانهزام التام أمام التعليمات والإملاءات الغربية، ما يقرِّبهم أكثر من أوصاف العمالة، وكذلك انكشف للفقير وجه التراحم من أهل البأس.
في النهاية، ما أردتُّ بثَّه في هذا المقام، الشكر لأصحاب الفضل، وإبراز جانب لا يبدو منهم أبدا بسبب الظروف التي هم فيها طوال الوقت، وستظل مفاهيم "الأمة الواحدة" و"الجسد الواحد" تؤرق مضاجع كل من يرتِّب لهذه المنطقة ترتيبات تنزِعها من تراثها وثقافتها، وَلْيضعوا الحدود السياسية كما شاءوا، ولْينشروا المفاهيم التي تقسِّم، وبمجرد أن يأتي حَدَثٌ فإننا ننفضُ الترابَ في لحظات عما انهمكوا فيه لسنوات، نتيجة وجود من يسعى للحفاظ على أصالتنا وتاريخنا وثقافتنا من التشويه والتزييف، وتبقى هذه المفاهيم هي المنصورة، كما ستصير فلسطين يوما حرة بسواعد أبنائها، وأبناء الأمة الواحدة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الدعاء المرض بركة الفلسطينية فلسطين بركة المرض الدعاء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
حقيقة العلاج بالقرآن وتحديد عددٍ للقراءة.. عالم أزهري يوضح
قال الدكتور يسري جبر، من علماء الأزهر الشريف، إن العلاج بالقرآن الكريم أمرٌ ثابت من حيث الجواز، باعتباره دعاءً وتوسلًا بكلام الله عز وجل، موضحًا أن الشفاء في حقيقته بيد الله وحده، وأن العلاج – سواء كان بالدواء أو بالقرآن – إنما هو سبب لتحصيل الشفاء وليس هو الشفاء ذاته، مؤكدًا أن الله سبحانه وتعالى هو الشافي، وأن العبد مأمور بالأخذ بالأسباب مع تمام التوكل واليقين.
وأوضح الدكتور يسري جبر، خلال لقاء تلفزيوني السبت، أن الأصل في التداوي أن يأخذ الإنسان بالأسباب المعروفة والمجربة، استنادًا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء»، مبينًا أن المسلم يتداوى بالأدوية المادية، ويجعل الدعاء ملازمًا له في كل أحواله، لأن حياة المسلم كلها دعاء، وصلاته كلها دعاء، فإذا وجد الدواء المعروف والمجرب، أخذه مع الدعاء، أما إذا كان المرض لا يُعرف له علاج، أو عجز الطب عن مداواته، ففي هذه الحال يكون اللجوء المباشر إلى القرآن وآيات الشفاء وسورة الفاتحة مشروعًا، ويأخذ الإنسان من القرآن ما شاء، ومتى شاء.
وأشار إلى أن قراءة القرآن على الماء والشرب منه، وقراءة آيات الشفاء أو الفاتحة بعددٍ معين، لم يرد فيها تحديدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدد مخصوص، لكن هذا لا يمنع الأخذ بتجارب الصالحين والعباد عبر القرون، حيث نشأت عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا تجارب بشرية واسعة لأهل القرآن وأهل الصلاح في قضاء الحوائج والاستشفاء، فصار لديهم تجريب في آيات معينة تُقرأ بعدد معين، ونُقلت هذه التجارب لمن بعدهم، ولا حرج في الأخذ بها من باب التجربة لا من باب التعبد الملزم، مع التأكيد على أن الإنسان قد يأخذ بهذه الأسباب ولا يُشفى، كما قد يأخذ الدواء الطبي ولا يُشفى، ومع ذلك فهو مأجور، لأن الشفاء ليس متعلقًا بفعل العبد وإنما بمشيئة الله.
وشدد على ضرورة التفريق بين السبب والمسبب، فقراءة القرآن، وتناول الدواء، والذهاب إلى الطبيب، كلها أسباب، أما النتيجة فيخلقها الله عز وجل، فقد يخلق الشفاء مع الأخذ بالسبب، وقد لا يخلقه، وقد يخلقه حتى من غير سبب، فالأمر كله راجع إلى إرادة الله وحكمته، والعبد يتعبد لله بالأخذ بالأسباب وقلبه موقن بأن الله هو الشافي يفعل ما يشاء.
وبيّن الدكتور يسري جبر أن استمرار المرض مع الدعاء لا يعني عدم الاستجابة، فقد تكون الاستجابة على غير ما يتوقع الإنسان، مستشهدًا بقصة أحد الصالحين الواردة في «الرسالة القشيرية»، الذي كان مستجاب الدعاء للناس مع كونه مبتلى بالأمراض، حتى جاءه خاطر رحماني يُفهمه أن مرضه هو عين العافية له، وأن بقاء المرض سبب لقبول دعائه، وأن رفع البلاء عنه قد يكون سببًا لفساد حاله، موضحًا أن من عباد الله من لا يصلحه إلا المرض، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر، ولو عوفي أو أُغني لفسد حاله.
وأكد على أن على المسلم أن يُسلِّم أمره لله تعالى، وأن يأخذ بالأسباب المباحة والمتاحة، سواء كانت على أيدي الأطباء أو أهل القرآن والصلاح، مع اعتماد القلب الكامل على الله، واليقين بأن الله قد استجاب، ولكن استجاب كما يريد هو سبحانه لا كما يتصور العبد، والله تعالى أعلم.