#غزة: جرحٌ نابض وشموخٌ لا ينكسر
#احمد_ايهاب_سلامة
بلا شك، لا يوجد ما هو أكثر فخرًا من أن تكون غزاويًا فلسطينيًا في هذا الزمن البغيض، الذي فقدنا فيه أبسط مقومات العز والكرامة، في زمن الانحطاط العربي والخسة، وغياب الأخلاق والمروءة، سيتعلم الطلاب في المدارس العسكرية أن هناك مقاومة صامدة في بقعة صغيرة، أرض العزة والكرامة، غزة.
سيدرسون كيف كان هناك مقاومون يواجهون دباباتٍ تساوي الملايين، مثل الميركافا والنمر وغيرها، وهم جالسون حفاة الأقدام، بينما يقزقزون البزر أو يتأرجحون، يستغفرون ويهللون ويكبرون، وهم على وجبة طعام، ويرسلون برقيات تعزية لأهاليهم، ويرتسم على وجوههم مزيج من الابتسامات والدموع.
مقالات ذات صلة الأحزمة الأمنية لإسرائيل 2024/10/05سيسجل التاريخ بفخر أن بقعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 300 كم² أوقفت العالم الظالم بجوره وظلمه في حالة من الترقب والذهول. سيتذكر الغرب الكاذب، الذي افتخر بتطوراته العسكرية وأسلحته التي تكلف المليارات، أنه تم هزيمته بقذيفة “الياسين 105” من صنع القسام، وأن قذيفة هاون أسقطت آليات تقدر ثمنها بملايين الدولارات، وأن صاروخ عياش وصل إلى عمق تل أبيب المحتلة، ليترك أثره في أعماق قلوبهم.
ستتجلى أخلاق المسلمات في غزة، حيث كنّ أول من واجه التحديات، متشبثات بالحجاب كرمزٍ لشرفهن وكرامتهن، ليصبحن قدوةً لكل امرأة مسلمة في كل بقاع الأرض. إنهن يجسدن معاني القوة والثبات، في زمن تُعصف فيه القيم.
سيتعلم الكون المليء بالحماقات والكذب وادعاء الحريات الزائفة أن حقوق الإنسان والحريات في غزة تُعطى على أكمل وجه، وأنهم لم يقدّروا هذا الشعب العظيم كما يستحق. سيقولون لاحقًا: “هنا الأرض التي أنجبت مئة ألف شهيد، هنا الأرض التي حطمت أقنعة الزعماء المزيفين، هنا أرض العز والجبروت، هنا الكبرياء يمشي بتواضع، لاهب غزة يرفع صوته ويقول: انحني لكم، كم أنتم جبارون!”
سيتعلم هذا الكون المزري أن غزة العزة لا مثيل لها، وأنها صمدت في وجه أعتى قوى العالم رغم الحصار والجوع والعطش وقلة الموارد. ما زال أهلها يكبرون ويستغفرون ومرابطون، ويدعون الله أن يحفظ هذا الوطن العظيم، الذي يزخر بالشجاعة والإيمان.
بعد ما رأيناه وما كشفته غزة، تبين لنا حقًا أن فلسطين هي أم الشهداء، وكراسة للعلم والمروءة والكرامة والعدالة، وأنها الدولة الوحيدة المحاصرة منذ ما يقارب القرن، ما زالت تقاوم حتى تظفر بالنصر وتعيد أرضها.
حمى الله فلسطين وغزة ومقاومتها العظيمة، وحفظها من كل مكروه.
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
الأغنية اليمنية.. نبض الأرض وصوت الذاكرة
يمن مونيتور/ وليد سند
ما بين جبلٍ شامخ ونافذةٍ مطلة على الوادي، ينحني الزمن ليصغي ويسمع أغنية يمنية تُغنّى، تعرف طريقها وحدها إلى الروح. تدخل كأنها صلاة الأجداد ووعد الحياة. من شقوق الجدران الطينية، من صوت الجدّة وهي تهمس بالحكايات، من صوت ضربات المِعول في الحقل، ومن خطو العاشق على دروب الانتظار. في الحب والحنين والمقاومة، كانت الأغنية اليمنية هويةٌ تمشي على أوتار القلب.
ميلاد الأغنية اليمنية.. بين الغربة والحقل
ولدت الأغنية اليمنية كما ينبت القمح في السهول وكما يتكوّن الندى على نوافذ الصباح. نشأت عفوية.. قادمة من وجدان الناس، تنطق بما لا تستطيع الحياة أن تصرّح به، وترافق الإنسان كما يرافقه ظلّه: في فرحه وعمله وفي حزنه وانتظاره الطويل للحصاد والمطر والحبيب.
وأنت تتصفح تاريخ الأغنية اليمنية ستجد أن أغنية ولدت تحت شجرةٍ تطل على الوادي، وأخرى على صخرةٍ بجوار ساقية أو بين سطور رسالة مطوية سافرت إلى الغربة أو العكس.
من رحم التراب والماء.. لا يمكن تحديد ميلاد دقيق للأغنية اليمنية، لأن بداياتها أقدم من المدونات. سبقت الكتابة ورافقت الزراعة الأولى والرحيل الأول والحكاية الأولى. في الجبال الشاهقة وفي الوديان المنبسطة، كان الإنسان اليمني يغني ليعبر عن ذاته في الحقول وفي مزارع البن في ليالي القمر وفي وجه الجوع. كانت الأغنية طريقته في قول: “هذه أرضي وهذي تربتي ” ويعيد بطربه وغنائه التوازن إلى أرض السعيدة.
الأغنية اليمنية وإثراء الفن العربي
رغم بعدها الجغرافي عن عواصم الفن التقليدية، لعبت الأغنية اليمنية دورًا محوريًا في إثراء المشهد الموسيقي العربي. جاءت بثقافتها الخاصة كإضافة نوعية، بإيقاعاتها المتنوعة بين تهامة وحضرموت وصنعاء وعدن، بلحنٍ يسبح في العمق، وكلمات تحمل الفطرة والجمال.
ولعل تأثّر بعض المدارس الموسيقية العربية بالأغنية اليمنية، خصوصًا في الخليج، يُعد شاهدًا حيًا على غِناها وفرادتها كصوتٍ أصيل ومنبع أساسي للفن الحديث.
الأغنية اليمنية.. رفيقة الزرع والحصاد
ما من أغنية يمنية خالصة إلا وتحمل تراب الأرض في نغمتها. لقد رافقت الإنسان في كل مراحل الزراعة: في الفلاحة والسقي، في القطاف وانتظار المواسم، وفي وجع العطش. كان الفلاح يغني ليطرب كل شيء من حوله ويُخفف عن نفسه فينسى التعب حين يثمر تعبه وتبتهج الحياة بكدّه المروى بألحانه الشجية وأهازيجه المغردة.
لا تزال بعض الأهازيج الشعبية تُتلى في القرى حتى اليوم، تُردّدها النساء أثناء إعداد الخبز أو نقل الحطب والماء، ويهمس بها الرجال في الحقول قُبيل القهوة.
وجوه مشرقة من سماء الأغنية اليمنية
لا يمكن الحديث عن الأغنية اليمنية دون أن نذكر من رفعوا صوتها عاليًا، وجعلوها تحلّق خارج حدود البلاد.
أيوب طارش، صوته مثل صلاة الوطن. غناؤه يحمل همّ الأرض وحنينها.يفتتح دوام الفلاحين والشقاة والطلبة والموظفين ويبدأ صباحهم بأغنية:
صباح الخير.. صباح الخير دائم
ثم يرافقهم في أعمالهم وحقولهم حتى تبدأ الشمس بالغروب رويدًا رويدًا فيختم نهارهم ويدعوهم للعودة إلى حبيباتهم ومساكنهم بأغنية:
قد دنا الليل.. قد دنا
فاترك الكون خلفنا
يا حبيبي وخلّنا
نحن والحب وحدنا.
بأغنية ” ارجع لحولك..” يجلب الوعود من صعدة حتى سقطرى. يحيي لحظات الانتظار ويحققها بصوته واحدة..واحدة عند كل حقل وفي بداية كل موسم.
علي بن علي الآنسي، الذي جعل من الشجن فنًّا، ومن الحنين مقامًا موسيقيًا، ومن تفاصيل الحياة العادية لوحاتٍ من الجمال.
حمود الحارثي وأحمد السنيدار وعلي عبدالله السمة، بأصواتهم التي تسير على خيوط الضوء، قدّما تراثًا غنيًا بالألحان والأغاني التي ربطت بين الماضي والحاضر.
ومثالاً على ذلك: كان لأغاني السنيدار فلسفة خاصة وكاملة في العشق، والانتماء، والوفاء، والانتظار.
قُل لمن مالَ عنّا واختفى واحْتَجَب:
ما جرى؟ ما جَنينا؟، ليش هذا الغضَـب!!
غِبْت يا بدر عنّـا دون ما بهْ سبب
كيف تهجُر مُعنـى دمع عينه سكب؟!!
#أسئلة_وجودية، تظهر استعطاف الحبيب والتودد له.. تحفظ مكانة الحب وتعلي قداسته..
يظهر هذا التودد في مقطع آخر من أغنية أخرى، فيها محاولة لتفسير غضب المحبوب وسبب اختفائه واحتجابه عنه، وانقطاع التواصل.. بنفس تلك الطريقة اللطيفة والراقية والذوق العالي، في كل طلب يطلبه ممن يحب، مع ضرورة تقديم الحب وتغليبه على كل الأمور الأخرى التي تتسبب في القطيعة ..
إنْ كان لهذا الحَنَقْ أسباب
أرجوك تشرح لي اسبابه
أمّا التجنّي فما له باب
من غير سبب نغلق ابوابه
لا تسمع الواشي الكذاب
كل الوشايات كذابه
الحب صادق وهو غلّاب
ودولة الحب غلّابه!
أما الحارثي، فقد سبق الجميع ليغني بفرادة وتلقائية وتأمل وجودي عظيم.
وَالخَدُّ ما أَنعمه
فيهِ الندى وَالشرر!!
صورة شعرية بتقنية ال3D فعند سماعك لهذا البيت وهذه الأغنية المعتقة ( خلي صقيل الترائب) تستطيع تخيل وجه فاتنة الشاعر بالخدود الناعمة الندية شديدة الحُمرة، وتتوقف عند هذا الحد ولن تستطيع أن تزيد على ما قاله شيئا..
ـ حسب تذوقي ورأيي الشخصي ، أعتقد أن قصيدة ” خِلّي صقيل الترائب الغنائية.. ” للشاعر محمد بن عبدالله الكوكباني من أروع ما كُتب في الشعر الحُمَيني شعراً ولحنًا وغناء.. لتكون بذلك أيقونة الفن الصنعاني والحميني.
وبنفس الفلسفة الفنية والغناء الأصيل يأتي الأخفش في أغنية خالدة يشرح أصل ارتباط الجمال بالحب وتأثيره على النفس والعقل، ليبين هذا العمق الفلسفي للأغنية اليمنية ونوع طرازها العال.
محلا بياضَك مِن شَفَاف السواد!
غزال مِن مسْك امتزج بالزباد
إنْ هِمْت بعدك أو عدمْت الرشاد،
ما افعل بعقلي دون مَا احيا معك؟!
تبهرك الكلمات وعمقها، ويسحرك تناغمها مع اللحن ثم تأتي لحظة الطرب مع الأداء المتقن للفنان عبد الرحمن الأخفش.. تكتمل الصورة لديك تسمعه والجمال يتسلسل.. ولا تملك إلا أن تقول: اللللله.. الللله!
أما من النساء، فقد برزت أصوات استثنائية كـتقية الطويلية، التي حملت وجع الأنثى اليمنية وأملها في آن، ومنى علي التي شكّلت حضورًا أنثويًا شعبيًا له نكهته الخاصة. ونباتة أحمد بصوتها الريفي، وأمل كعدل التي غنّت لعدن كما لا يغني أحد، وجعلت من الأغنية اليمنية سفيرةً عاطفية إلى قلوب المستمعين في كل مكان.
وفي مسار بناء الحضارة، لم تكن الأغنية خلف الحدث، بل في قلبه. كانت تُعبّر عن الثورة بقدر ما تُعبّر عن الفرح. أغاني المقاومة، وأغاني الأرض، وأغاني الهوية، كلها شواهد على أن الغناء كان – وما يزال – شكلًا من أشكال الفعل الحضاري، وليس مجرد زينة وترفيه على هامش الزمن.
كل هذا يقودونا للحقيقة الشاملة، وهي أن الأغنية اليمنية حياة كاملة تُعاش وهي المرآة التي رأى فيها اليمني نفسه، والعكّاز الذي استعان به في طريقه الطويل. وإذا كان الزمن ينسى كثيرًا، فإن الأغنية اليمنية تعرف كيف تُذكّر. تعرف كيف تحفر حضورها في القلب، لا نها وطنٌ صغير يسكن بين ضلوعنا، كلّما ضاقت الحياة… غنّيناه.