المدارس في غزة بُنـِيت للتعليم وليس للموت
تاريخ النشر: 9th, October 2024 GMT
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
قبل اندلاع الحرب في غزة، أمضيت خمس سنوات في تدريس اللغة الإنجليزية لطلاب المدارس الإعدادية هناك. والآن لا أستطيع أن أتخيل نفسي أعود للتدريس في مدارس قضى طلابها العام الماضي جالسين أو نائمين على أرضيات الفصول الدراسية مع عائلاتهم، باحثين عن ملاذ آمن من هجوم لا هوادة فيه.
لم يقضِ هؤلاء الأطفال أوقاتهم وهم يتعلمون الرياضيات أو اللغة، بل كانوا يتعلمون أسماء الأحياء في غزة التي تعرضت للقصف.
وفي مختلف أنحاء غزة، تحولت مئات المدارس إلى ملاجئ، وتعرض العديد منها لهجمات من جانب القوات الإسرائيلية، التي تقول إن مقاتلي حماس يستخدمونها كمراكز قيادة. وقد أسفرت هذه الهجمات عن مقتل مئات الأشخاص، وفقًا للسلطات الصحية المحلية. كما أصابت غارة جوية إسرائيلية مدرسة في مخيم النصيرات للاجئين، الذي يقطنه حوالي 12 ألف نازح، للمرة الخامسة في سبتمبر، مما أسفر عن مقتل 18 شخصًا.
علمت صباح يوم السبت من خلال مجموعة الواتس آب الخاصة بمدرستي أن طالبي الأكثر موهبة، حاتم الزعانين، قد قُتل في بيت حانون، حيث نفذت إسرائيل غارات في ذلك اليوم.
كيف يمكن للمعلم، أنا أو أي شخص آخر، أن يعود لتعليم الأطفال ويتظاهر بأن هذه الأماكن نفسها لم تكن مناطق موت ومعاناة؟ خلال الصراعات العسكرية السابقة في غزة، كان الطلاب هم الذين يتلقون الدعم النفسي في المقام الأول، ونادراً ما أثيرت مسألة تقديم الدعم للمعلمين. ولكن بعد ما يقرب من عام من الحرب، كيف يمكن للمعلمين الذين أصيبوا بصدمات نفسية، أو ربما فقدوا أفراداً من أسرهم المقربين وأصدقاء لهم أو حتى أصيبوا بجروح، أن يتعاملوا مع الطلاب المصابين بصدمات نفسية؟
كيف يمكن علاج الصدمة عندما لا تنتهي أبدًا؟ في غزة لا يوجد اضطراب ما بعد الصدمة، لأنه لا يوجد وقت بدون صدمة. كانت البيئة بالفعل مليئة باضطرابات ضغوط الصدمة المزمنة قبل هذه الحرب. بعد هذا العام، ستظل الصدمة تسيطر على الأجيال القادمة. فقد الآلاف من الأطفال حياتهم منذ بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة في 8 أكتوبر 2023، وفقد آخرون أجزاء من أجسادهم، وفقد آخرون والديهم، وفقد آخرون الجميع. على مدار العام الماضي، بدأ الأطباء العاملون في غزة في استخدام اختصار طبي (WCNSF)، والذي يعني "طفل جريح، لا عائلة على قيد الحياة".
آخر مرة كنت فيها في إحدى فصول المدرسة كانت في شهر نوفمبر، حيث كنت ألجأ إلى إحدى الفصول في مخيم جباليا شمال غزة. كنت هناك مع زوجتي مرام وأطفالنا يزن (8 أعوام)، ويافا (7 أعوام)، ومصطفى (4 أعوام).
اثنان من أعمام مرام، بالإضافة إلى والديها وإخوتها، يتقاسمون فصلًا دراسيًا مع أربع عائلات أخرى. كانت الغرفة مقسمة إلى خمسة أجزاء، وكان أعمام مرام ووالداها يتقاسمون قسمًا أكبر إلى حد ما. اعتدنا على تناول الطعام في قسمهم الذي لم تكن مساحته تزيد عن 27 قدمًا مربعًا. كما احتوت المساحة أيضًا على خزان مياه سعة 66 جالونًا ومراتب وأدوات مطبخ.
كانت المكاتب المدرسية بمثابة حواجز لتقسيم الغرف الصغيرة، وكانت السبورة السوداء تؤدي نفس الوظيفة في الفصول الدراسية الأخرى. وإذا لم تكن هناك سبورة سوداء، فربما كان ذلك بسبب استخدام أجزاء منها لإشعال النيران في الطهي. وكانت آخر مرة دخلت فيها شاحنات غاز الطهي إلى الشمال في أكتوبر 2023.
في جباليا، أتذكر أنني كنت أبحث في الشوارع والأزقة المحطمة في السوق عن صناديق من الورق المقوى، عادة ما تكون متسخة، أو أعوادًا لإشعال النار في الطهي. كنت أعود إلى المدرسة حاملاً شيئًا ما، وأشعر بأنني حققت إنجازًا كبيرًا، ليس كطالب أو معلم، بل كجامع للأشياء المفيدة لبقاء الأسرة.
في التاسع عشر من نوفمبر، قبل أن نتوجه أنا وعائلتي إلى الولايات المتحدة، قمنا برحلة نحو الجزء الجنوبي من قطاع غزة، على أمل الوصول إلى معبر رفح للمغادرة إلى مصر. وعندما وصلنا إلى نقطة تفتيش على طريق صلاح الدين، احتجزني الجيش الإسرائيلي ووضعني في مركز احتجاز مع عشرات الفلسطينيين الآخرين لمدة ثلاثة أيام. كنت معصوب العينين ومقيد اليدين وأجبرت على البقاء على ركبتي. لم يُسمح لي بالتحدث أو السؤال عن عائلتي. بعد إطلاق سراحي، قمت برحلة أخرى، هذه المرة للبحث عن زوجتي وأطفالي. لم أكن متأكدًا مما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
أي شخص يتحرك شمالا كان ليتعرض لإطلاق النار في تلك الفترة، لذلك اتجهت جنوبا ووجدتهم. وجدتهم يحتمون في مدرسة أخرى قريبة من مستشفى الأقصى في دير البلح. انضممت إليهم وبقينا مع اثنين من أعمام زوجتي في خيمة أقيمت في حرم المدرسة. كانت مياه الأمطار تغمر خيمتنا في بعض الأحيان.
إن الانتقال من مدرسة إلى أخرى كلاجئ ليس مثل الانتقال من مدرسة ابتدائية إلى مدرسة متوسطة. فالعيش في منزلك في غزة يشبه العيش في قصر، رغم أنه قد يكون خطيراً. والعيش في فصل دراسي يشبه العيش في غرفة فندق. والعيش في خيام في حرم مدرسة يشبه العيش في بهو فندق.
وصلنا في النهاية إلى القاهرة، حيث شاهدت في أوائل ديسمبر مقطع فيديو للمدرسة التي لجأنا إليها في جباليا وهي محاصرة من قبل الدبابات والجنود الإسرائيليين. وفي ذلك الوقت تقريبًا، قتل قناص أحد أعمام مرام، الذي كان أصمًا وأبكمًا، عند بوابة مدرسة أخرى في بيت لاهيا، حيث كان يحتمي مع زوجته وطفليهما. ثم احترقت تلك المدرسة فيما بعد. كانت المدرسة ذاتها التي التحق بها يزن ويافا بالصفين الثالث والأول قبل 7 أكتوبر 2023.
لقد حرم نحو 625 ألف طفل في غزة من عام دراسي كامل بسبب الحرب، ناهيك عن الصدمة التي تعرضوا لها. ورغم أن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) حاولت في الأسابيع الأخيرة بدء العام الدراسي الجديد داخل الملاجئ، فإن هذه الجهود أصبحت بلا جدوى تقريباً في ظل استمرار قصف المدارس واستمرار أوامر الإخلاء الإسرائيلية في إجبار الناس على النزوح.
في حين أن إزالة الأنقاض في غزة سوف تستغرق سنوات طويلة، ناهيك عن إعادة بنائها، فإنني أخشى أن يستغرق الأمر عمراً كاملاً لإعادة بناء الشعور بالأمل لدى الأطفال في عالم خذلهم. لقد عجزت الحكومات عن إنقاذ أطفال غزة وأسرهم، على الرغم من سيل لا ينتهي من مقاطع الفيديو والصور والتقارير الإخبارية التي تظهر بوضوح معاناتهم يوماً بعد يوم.
أختي الكبرى آية تشتكي لي عبر الهاتف في الآونة الأخيرة. فليس من السهل أبداً التواصل مع عائلتي في غزة من منزلي المؤقت في سيراكيوز، نيويورك، حيث حصلت على موعد كباحث زائر في جامعة سيراكيوز. وخلال المكالمات القصيرة، يختلط صوت الطائرات بدون طيار والقصف البعيد بالسعال.
أقول لها: "هذا أمر سيئ بالنسبة لطفلك". إنها حامل في شهرها التاسع. وبالكاد حصلت آية على طعام طازج طوال فترة حملها. وهي، مثل أغلب سكان غزة، تعتمد على الأطعمة المعلبة وبعض المواد الغذائية النادرة والباهظة الثمن.
وفي الوقت نفسه، كنت أنا وزوجتي نعد أطفالنا لأيامهم الأولى في مدرستهم الأمريكية الجديدة. جلسنا جميعًا على الأريكة مع جهاز آي باد الخاص بي، وتصفحنا حقائبنا وزجاجات المياه، وفي غضون دقائق قليلة قدمنا طلبًا.
إذا كان هناك أي أمل في المستقبل، فإن أطفال غزة يحتاجون إلى واقع أفضل، واقع أقرب إلى ما أراه يتمتع به الأطفال الأميركيون. إنهم يحتاجون إلى طعام صحي ومياه نظيفة ومكان آمن للنوم ليلاً. وهم بحاجة إلى فصول دراسية حيث يمكنهم التعلم.
• مصعب أبو توهه شاعر وكاتب قصة قصيرة ومقالات. ومؤسس مكتبة إدوارد سعيد في غزة. كتابه الشعري القادم بعنوان "غابة الضجيج".
** خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
فينجر: مستقبل كرة القدم يُبنى من الأكاديميات وليس بالنتائج السريعة
أبوظبي (وام)
أكد أرسين فينجر، رئيس قسم تطوير كرة القدم العالمية في الفيفا، والمدرب السابق لنادي أرسنال، أهمية تطوير الأكاديميات والشباب، معتبراً أن كل مؤسسة لكرة القدم تحتاج إلى خطة طويلة الأمد للوصول إلى كامل إمكانياتها، وأن التركيز على المدى القصير فقط لا يؤدي إلى التطور والنمو.
جاء ذلك في جلسة حوارية بعنوان «الإرث الذي يروي حكايتنا»، والتي استضافتها قمة بريدج 2025، حيث استرجع فيها فينجر محطات متنوعة من حكايته مع كرة القدم، وشارك جمهور القمة التحولات التي عاشها لاعباً ومدرباً ومحللاً رياضياً، وأدار الجلسة الإعلامي روبي لايل، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة RL Media.
وأشار فينجر إلى أنه لطالما اعتبر أن مهمته الأولى كانت تقديم النادي ككيان منظّم يمتلك خطة واضحة، وسعى لأن يكون جزءاً من هذه الخطة التي تؤثر في طريقة لعب كرة القدم على مستوى أوروبا، مشيراً إلى أن تركيزه كان دائماً منصباً على مصلحة النادي، ولم ينظر يوماً إلى الفرد أو المسار المهني للاعبين بمعزل عن المؤسسة ككل، مضيفاً أن الالتزام تجاه النادي كان أكبر منه شخصياً، وأن هذا الشعور كان يدفعه دائماً للتصرف وفق تلك الرؤية.
وتطرق فينجر للحديث عن الضغط الذي يرافق مهنة التدريب، مشيراً إلى أنه يأتي من عدم القدرة على التنبؤ بكل شيء، ومن الشعور الدائم بعدم السيطرة، خاصة عند مواجهة الصعوبات.
وقال: «توقعات الجماهير تجعل كل هزيمة نوعاً من الإهانة، وفي ظل الضجيج والنقد يصبح الثبات أمراً صعباً، ولذلك كنت ألجأ دائماً لاستخلاص أفضل ما لدى الفريق، مع استحضار كافة قدرتي على التركيز وسط الضغوط».
وأشار فينجر إلى تأثير المال في كرة القدم الحديثة، خصوصاً في الدوري الإنجليزي الممتاز، حيث تصرف بعض الأندية مبالغ كبيرة على اللاعبين.
وحول إدارة الأزمات داخل الفرق، أوضح أن على المدير أن يتعامل بسرعة مع المشكلات.
وقال: «أكثر ما كان يثير دهشتي هو أن اللاعبين غالباً ما يعرفون مكامن الخلل دون أن يخبروني، وهذا علمني أن التواصل الجيد أمر أساسي»، مشيراً إلى أنه خلال 22 عاماً في التدريب لم يخسر أكثر من ثلاث مباريات متتالية، وأن كل خسارة كانت تدفعه إلى التفكير في الفوز بالمباراة التالية، رغم إيمانه بأن الرغبة الكبيرة في الفوز قد تؤدي أحياناً إلى التسرع وزيادة الإحباط.
وأكد فينجر أن الصبر قيمة أساسية في مسيرة أي مدرب، فهو يؤمن بالإنسان وأن التطور لا يحدث بالوتيرة نفسها عند الجميع، لافتاً إلى أن بناء الثقة داخل الفريق يحتاج إلى تواصل مستمر واتساق في السلوك.
وعن عمله الحالي في الفيفا، أوضح فينجر أن العديد من الأطفال في العالم لا يحصلون على فرصة لتطوير مواهبهم، ولهذا أنشأ نموذج الأكاديميات الذي يبدأ باختيار المواهب من عمر 12 عاماً وتدريبهم حتى سن 16 أو 17 عاماً، مشيراً إلى أن اختيار الدول يتم عبر معادلة محددة، وأنه يُرسل فريقاً تقنياً للتأكد من ملاءمة الظروف قبل إنشاء الأكاديمية، موضحاً أن الهدف هو الوصول إلى 60 أكاديمية في نهاية هذا العام، ضمن خطة أوسع نحو 100.
وفي ختام حديثه، عبّر فينجر عن قناعته بأن أرسنال قادر على الفوز بالبطولة هذا العام، معتبراً أن الفريق هو الأفضل، وأن المنافسة مع السيتي قائمة، لكن أرسنال يمتلك فريقاً قوياً.
ووجّه نصيحته للمدربين الشباب قائلاً: «أنتم تريدون الفوز، لكن ابنوا القيمة، لأنها ستبقى للأبد».