هذا أو هايتي بعصاباتها اللاويه (2-2)
تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT
في عبارة منسوبة لونستون تشرشل أنه قال لا ترمي بـ"أزمة ناصحة" في سلة المهملات. والحرب التي تدور رحاها في السودان كره لنا، ولكنها مما قد تقول عنه إنه أزمة ناصحة للتفكر في إمكاناتها في بناء دولة وطنية حديثة متى تغاضينا هوناً عن كلفتها الإنسانية الباهظة. فالدول تخوض الحروب والحروب تصنع الدول في قول "شارس تللي"، عالم الاجتماع السياسي الأميركي، في رده نشأة الدولة الأمة إلى الحروب التي لم تكد تنقضي في باكر أوروبا الحديثة.
ولكن يخشى المرء أن تضيع صفوتنا السياسية هذه الإمكانية الفادحة من الحرب فلا نخرج منها بغير "فتعـرككم عرك الرحى بثفالهـا" في قول زهير بن أبي سلمى.
من دون بلاد الله فإن هايتي هي الأقرب للمقارنة بالسودان من جهة ضغينة قسم مهم من الصفوة المدنية السياسية في كليهما على الجيش. فثأرت صفوة هايتي من جيشها وحلته في 1996 وركبتها العصابات إلى يومنا. أما صفوة السودان فتبيت لحل القوات المسلحة، التي هي ضمن تعدد الجيوش في السودان، في جيش مهني قومي. وهذا ما اتفق لها بعد الحرب بينما أرادت قبله دمج الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش. وسبحان مغير الأحوال.
كانت الصفوة السياسة في هايتي حانقة على الجيش جداً. وسمى صحافي أميركي خلال يناير 1995 حل الجيش الهايتي بـ"التغيير الثوري الأبرز في هايتي خلال 60 عاماً". ووصفه بأنه هزيمة نكراء للجيش من رجل ظن أنه أطاحه وهو آرستايد. ووصف الصحافي الجيش بـ"الرمز المرعب للوحشية والفساد" التي وصمت الحياة في هايتي لنصف قرن. وحول آرستايد، رئيس الجمهورية الذي عاد للحكم بعد انقلاب للجيش عليه، مقر قيادة الجيش المرعبة في وسط العاصمة مقراً لوزارة شؤون المرأة، وأبعد حتى حرس الشرف من الجيش عند القصر الجمهوري. وقال الصحافي إن الشوارع خلت من ناقلات الجنود المهيبة. ولكن من الدبلوماسيين والعسكريين من قال في حاجة هايتي لجيش كبير وتقليدي في تركيبته في وجه جذرية آرستايد. فهايتي كبلد نام وغير مستقر تحتاج إلى مؤسسة محافظة لتوزن شطط السياسيين الخطائين الديماغوجيين.
واستقبل الناس حل جيشهم بحفاوة بالغة، فتجمهروا حول قوة أميركية أرسلت لحفظ الأمن ورقصوا بهجة. وقال أحدهم للصحف "أستطيع النوم الآن قرير العين، لن يستطيعوا بعد الآن دخول منزلي ونهبي"، وتنفس آخر الصعداء قائلاً "يجب أن ينتهي عهد جلد المدنيين". وبلغت سقامة أهل هايتي من الجيش حداً رفضوا مشروعاً لإعادته خلال عام 2017 فخرجوا في تظاهرات هاتفين "لا نريد الجيش، نريد تعليماً". وقال عمدة سابق للعاصمة إن للبلد أسبقيات أكثر أهمية من الجيش.
السقم من الجيش
وهذا السقم من الجيش في السودان هو جوهر كتابات الناشطين في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم". فسماه كمال عباس "جيش العار"، وصار عندهم صنواً للحركة الإسلامية لا إرادة له بغيرهم. فقال محرر صحيفة "الحداثة" شمس الدين ضو البيت إنه "جيش لا نفع منه" مختطف من "الكيزان" أشعل حرباً من أجل السيطرة وحماية تمكين الحركة الإسلامية.
ولم يعد الجيش من يحارب في رأي نعمات مالك النقابية اليسارية بل من يحارب الآن هم كتائب الإسلاميين ويحملون السلاح تحت لجنة الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير الأمنية. وخلصوا بالنتيجة إلى أنه ميليشيات "كيزانية" كمثل ميليشيات "الدعم السريع" والحركات المسلحة الأخرى. وجاء اتفاقهم مع قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو في إعلان أديس أبابا (يناير 2024) بنص صريح يقول بحل الجيش ضمن "الميليشيات المتعددة" في جيش وطني مهني.
واستعداد هذه الجماعة للتخلص من الجيش كمباءة للانقلابات حتى صار "ميليشيات للكيزان" تطور استحق الوقفة عنده، فلم يكن المدنيون بعامة يحملون الجيش مغبة الانقلابات وتولي الحكم لغالب عمر السودان المستقل، فراجت نظرية تامة القبول عند المدنيين تقول إن الانقلاب هو ما يوحي أو يوسوس به السياسيون المدنيون للجيش. وأشاعت هذه النظرية صفوة النادي السياسي في تجاحدهم ولومهم ولومهم المضاد، أي في تلاومهم عمن أساء سياسة البلاد وجر الجيش، المبرأ من السياسة وشاغل الحكم، لنصرته في مغامرته الأيديولوجية ليحكم. فحزب الأمة القومي متهم بأنه من وسوس للجيش بالانقلاب خلال عام 1958. والشيوعيون مدموغون بأنهم من وسوس للجيش أن ينقلب خلال مايو (أيار) 1969، كما يوزر الإسلاميون بدفع الجيش إلى انقلاب 1989. وبين تلك الانقلابات أخرى فاشلة مثل انقلاب البعثيين عام 1990 وغيره. ومن أفدح ما ترتب على هذا التبسيط التاريخي أن راجت فكرة أن الانقلاب هو ما نجنيه على أنفسنا بإفسادنا الديمقراطية لمسارعة فرق الصفوة المدنية إلى الجيش يستعين به واحدها على الآخر. وسيكون مثيراً أن نعرف كيف تحول المدنيون في "تقدم" 180 درجة ليلغوا الجيش بجريرة العقلية الانقلابية في حين نظروا إليه سابقاً كمجرد أداة في يد الأحزاب السياسة.
ما آخر أخبار هايتي؟
خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري هاجمت عصابة "قران قريف" التي تسيطر مع غيرها على 80 في المئة من العاصمة بورت أو برنس، على مدينة بوينت سوند في وسط هايتي. وقتلوا 70 مواطناً منهم 10 نساء وثلاثة أطفال. واضطر 3 آلاف إلى النزوح عنها. وأحرقت العصابة 45 منزلاً و34 سيارة. وقتلت العصابات 3661 من المواطنين في بحر هذا العام وبلغ عدد النازحين الإجمالي من وجه عنفها 700 ألف. وبنت جارتها الدومنيكان حائطاً طوله 102 ميل لوقف تدفق المغادرين وطنهم إليها.
وماذا عن قوة الشرطة الكينية التي رتبت أميركا والأمم المتحدة لإسعاف الوضع في هايتي؟
وصل منها 410 شرطيين من 2500 جملة ما اتفقوا على ابتعاثه للجزيرة. ولم تحصل البعثة الكينية إلا على 80 مليون دولار من جملة 600 مليون دولار لموازنتها. وجددت الأمم المتحدة مهمة بعثة الشرطة الكينية لعام واحد.
ويقول الأعاجم "ألا يبدو هذا مألوفاً؟" حين يتطابق موقفان أو أكثر أو يتناسخان، وهذه تذكرة لـ"تقدم" أن تأخذ بعبارة حكيمة لمعارض من هايتي بارز للديكتاتورية التي أطاحت بآرستايد قال وسط البشر الذي عم بحل جيش بلده "لا أستطيع الدفاع عما قام به الجيش لكن تدميره خيبة أمل مؤسفة، أملته العاطفة لا العقل. فالجيش هو المؤسسة من ماضي هايتي، أو ربما الوحيدة الباقية منه. ويسوءني أن أراها تهان وتدمر". وإلا رمينا بـ"الأزمة الناصحة" التي تأخذ بخناقنا إلى سلة المهملات فيما حذر منه تشرشل لو صحت نسبة العبارة له.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی هایتی من الجیش
إقرأ أيضاً:
الاتحاد الإفريقي يحذر من تقسيم السودان ويرفض الاعتراف بالحكومة الموازية لـ”الدعم السريع”
رفض الاتحاد الإفريقي الاعتراف بالحكومة الموازية التي أعلنتها قوات الدعم السريع في السودان، محذرا من خطر تقسيم البلاد وتداعيات ذلك على جهود السلام، وداعيا المجتمع الدولي إلى عدم التعامل مع الكيان الجديد.
دعا الاتحاد الإفريقي إلى عدم الاعتراف بالحكومة الموازية التي أعلنتها قوات الدعم السريع في السودان، محذرًا من تداعيات هذه الخطوة على وحدة البلاد وجهود السلام الجارية، في وقت تتصاعد فيه الأزمة الإنسانية نتيجة الحرب المستمرة منذ أكثر من عام.
تحذير من تقسيم السودان
وفي بيان له، دعا مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي “جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي إلى رفض تقسيم السودان وعدم الاعتراف بما يُسمى الحكومة الموازية” التي شكلتها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المدعو “حميدتي”.
وأكد البيان أن هذه الخطوة “ستكون لها عواقب وخيمة على جهود السلام ومستقبل السودان”، منددا مجددا بـ”جميع أشكال التدخل الخارجي التي تؤجج النزاع السوداني، في انتهاك صارخ” لقرارات الأمم المتحدة.
حكومة موازية وسط رفض محلي ودولي
وأعلنت قوات الدعم السريع يوم السبت 26 تموز/يوليو تشكيل حكومة موازية تتألف من 15 عضوا، يرأسها حميدتي، ويتولى عبد العزيز الحلو، زعيم “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، منصب نائب رئيس المجلس الرئاسي. كما تم تعيين محمد حسن التعايشي رئيسا للوزراء، والإعلان عن حكام للأقاليم، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقد في مدينة نيالا، كبرى مدن إقليم دارفور.
وكان حميدتي قد أعلن في نيسان/أبريل الماضي، في الذكرى الثانية للحرب الأهلية، نيته تشكيل “حكومة السلام والوحدة”، مؤكدا أن التحالف الجديد يمثل “الوجه الحقيقي للسودان”، مع وعود بإصدار عملة ووثائق هوية جديدة، واستعادة الحياة الاقتصادية.
وقد أعربت الأمم المتحدة في حينه عن قلقها العميق من خطر “تفكك السودان”، محذّرة من أن مثل هذه الخطوات ستؤدي إلى تصعيد إضافي في النزاع وترسيخ الأزمة.
اتهامات لـ”الدعم السريع” باستهداف المدنيين
وقبل أيام، اتهمت مجموعة “محامو الطوارئ” السودانية، المعنية بتوثيق الانتهاكات خلال الحرب المستعرة في البلاد، قوات الدعم السريع بارتكاب مجزرة راح ضحيتها 30 مدنياً على الأقل، بينهم نساء وأطفال، خلال هجوم استمر يومين على قرية بريما رشيد بولاية غرب كردفان.
وذكرت المجموعة، في بيان صدر الجمعة 25 تموز/يوليو، أن الهجوم وقع يومي الأربعاء والخميس واستهدف القرية الواقعة قرب مدينة النهود، وهي منطقة استراتيجية لطالما شكلت نقطة عبور للجيش السوداني في إرسال التعزيزات نحو الغرب. وأسفر اليوم الأول من الهجوم عن مقتل ثلاثة مدنيين، بينما ارتفع عدد الضحايا في اليوم التالي إلى 27.
وأكد البيان أن “من بين القتلى نساء وأطفال، ما يجعل من الهجوم جريمة ترقى إلى انتهاك جسيم لقواعد القانون الدولي، لاسيما من حيث الاستهداف المتعمد والعشوائي للمدنيين”.
وفي تطور خطير، اتهمت المجموعة قوات الدعم السريع باقتحام عدد من المنشآت الطبية في النهود، بينها مستشفى البشير والمستشفى التعليمي ومركز الدكتور سليمان الطبي، ووصفت ذلك بأنه “انتهاك صارخ لحرمة المرافق الطبية”.
ولم تصدر قوات الدعم السريع حتى الآن أي تعليق رسمي على تلك الاتهامات.
انقسام ميداني يعمق الأزمة الإنسانية
وتخوض قوات الدعم السريع منذ 15 نيسان/أبريل 2023 حربا دامية ضد الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، أسفرت عن مقتل عشرات آلاف الأشخاص وتشريد أكثر من 13 مليون نازح ولاجئ، بحسب الأمم المتحدة. وتسيطر قوات الجيش على مناطق الشمال والشرق والوسط، بينما تفرض قوات الدعم السريع سيطرتها على معظم إقليم دارفور وأجزاء من كردفان.
في ظل هذا الانقسام، تعاني البلاد التي يبلغ عدد سكانها نحو 50 مليون نسمة من أزمة إنسانية غير مسبوقة، تتفاقم مع انتشار المجاعة وصعوبة وصول المساعدات.
13 وفاة بسبب الجوع في دارفور
وفي مؤشر على عمق الكارثة الإنسانية، أعلنت مجموعة “شبكة أطباء السودان” أمس الثلاثاء عن وفاة 13 طفلا في مخيم لقاوة بشرق دارفور خلال الشهر الماضي بسبب سوء التغذية. ويأوي المخيم أكثر من 7000 نازح، معظمهم من النساء والأطفال، ويعاني من نقص حاد في الغذاء.
ودعت المجموعة المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة إلى زيادة الدعم الإنساني العاجل، محذرة من تفاقم الوضع في ظل تزايد معدلات الجوع بين الأطفال. كما ناشدت منظمات الإغاثة الأطراف المتحاربة السماح بدخول المزيد من المساعدات إلى مناطق النزاع.
أزمة إنسانية خطيرة
وبحسب تقييمات الأمم المتحدة، يعيش السودان واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية على مستوى العالم، في ظل تعقيدات أمنية وسياسية تحول دون الوصول الآمن للمساعدات. ومع تزايد المبادرات المنفردة لتقاسم السلطة، تبدو البلاد مهددة بتفكك فعلي، في غياب تسوية شاملة للنزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع.
من جهة أخرى، قالت المنظمة الدولية للهجرة إنه “رغم احتدام الصراع في السودان ظهرت بؤر من الأمان النسبي خلال الأشهر الأربعة الماضية، مما دفع أكثر من 1.3 مليون نازح للعودة إلى ديارهم، لتقييم الوضع الراهن قبل اتخاذ قرار العودة إلى بلدهم نهائيا”.
وأضاف المدير الإقليمي للمنظمة الدولية للهجرة عثمان بلبيسي أن “أغلبية العائدين توجهت إلى ولاية الجزيرة، بنسبة 71% تقريبا، ثم إلى سنار بنسبة 13%، والخرطوم بنسبة 8%”.
وتوقع بلبيسي عودة “نحو 2.1 مليون نازح إلى الخرطوم بحلول نهاية هذا العام، لكن هذا يعتمد على عوامل عديدة، ولا سيما الوضع الأمني والقدرة على استعادة الخدمات في الوقت المناسب”.
يورو نيوز
إنضم لقناة النيلين على واتساب