شهادة لا يرتقي إليها شعر البلاغة، حتى نظن أن العدو غير مصدق ما ظفر به بمحض صدفة. لقد خرج عليهم أو دخل عليهم الباب، فهو منتصر بقوة من نزل إليه الأمر بدخول الباب على عدوه. لن نكتب فيه مراثي ولا مديحا، سيكفينا إخوة له زلزلهم ذهابه ولكن شد أزرهم أنه قاتل واقفا لا يتراجع ولا يفاوض على حياة صغيرة.
سننظر في أمر آخر لا نراه إلا مرتبطا بهذه الشهادة، أمة لا تنصر رجالها وتسارع إلى الرثاء المريح.
اليوم تحل بتونس الذكري التاسعة عشر لقيام حركة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2005، الفعالية الديمقراطية الأشد قوة والأوضح هدفا ضد نظام بن علي، فرجّت أركان نظامه وظلت مفاعيلها شغالة حتى سقط بعد خمس سنوات. وما العلاقة بين شهادة شهيد في غزة وبين الحدث المذكور؟ هنا نعثر على مفاتيح فهم الخذلان العربي لغزة ولأبطالها.
حركة سياسية وعدت بالكثير
للتذكير كان اجتماعا أولا في مكتب المحامي اليساري العياشي الهمامي، تحول إلى اعتصام ثابت حتى بلغ هيئة سياسية تفكر بشكل جماعي وتصدر ورقات عمل وأعدت قاعدة متطورة للعمل السياسي الديمقراطي في تونس. شارك في الفعالية منذ بدايتها طيف سياسي مختلف طالما تنافرت مكوناته وتصارعت فيما بينها، وكانت صراعاتها تصب دوما في مصلحة النظام منذ الزمن البورقيبي. لأول مرة تلتقي فعاليات يسارية وعروبية وإسلامية في مكان واحد لتجمع على أهمية بناء الديمقراطية بالتوافقات والتنازلات المتبادلة. وكان الإجماع الاستثنائي مربكا للنظام، فالمكونات التي طالما دفعها للصراعات البينية تجاوزت خلافاتها وعملت معا ضد نظامه، وبلع صدى عملها إلى الجهات الخارجية المتربصة بنظامه فأضعفته أكثر مما كان عليه من هشاشة.
في اجتماعات الهيئة ونقاشاتها التي طالت زمنا كافيا اكتشف التونسيون بعضهم بعضا وحصل نوع من الحشمة مما كان سائدا بينهم من صراع مبني على أحكام مسبقة، وبدا كما لو أنهم عثروا على أكسير السعادة الديمقراطية. لقد تخلقت بيئة سياسية ملائمة للتقدم على طريق الحرية والديمقراطية، لكن الفرحة لم تدم طويلا.
كلما ظهرت بوادر تحرك شعبي ظهر المخذلون وعملوا على تفتيت الإرادة الشعبية وأغرقوا الساحات في صراعات حزبية يتقنونها، منها أن أي تحرك لمساندة الطوفان هو خدمة لأحزاب الإسلام السياسي المحلية بما يعني عمليا أنه لندع حماس تُهزم حتى لا ينتصر الإخوان أو النهضة أو من سار سيرهم في السياسية المحلية
انفضت الهيئة وتشتت شمل مكوناتها تحت ضغط فصائل يسارية تعتبر في تونس من أحزاب الداخلية؛ وعملت منذ تكوينها على مهمة واحدة وهي حفر الخنادق وكسر الجسور أمام كل احتمالات اللقاء السياسي بين مكونات المشهد السياسي التونسي المتعدد المشارب. تراجعت المكونات اليسارية عن اتفاقات الهيئة وعادت إلى التكتل تحت فكرة لا لقاء مع "الخوانجية" (الرجعية الظلامية.. إلى آخر الأوصاف المعزوفة).
ظلت الأفكار المكتوبة معلقة في سماء تونس تلهم بعض الأقلام، لكن على الأرض لم تتطور الهيئة إلى مشروع حركي حتى حلت الثورة فانفضت نهائيا نحو حلول فردية وحزبية. وقد بدأ تفكيك آخر عناصرها الأستاذ نجيب الشابي بقفزه داخل حكومة محمد الغنوشي التي حاولت الالتفاف على الثورة فسقط معها ولم يقم أبدا.
ما علاقة هذا بغزة وشهيدها؟
لا نحتاج إلى التذكير بخذلان الساحات السياسية والشعبية لغزة منذ انطلاق حرب الطوفان، فقد كانت المظاهرات الصغيرة في بعض الساحات ومنها تونس أقرب إلى رفع العتب أو تنفيس الغضب منها إلى حراك سياسي يضع نفسه في موضع الإسناد الدائم للمعركة بوسائله المحلية، ولم يكن محتاجا للسلاح ليساهم في المعركة. لقد أدت مظاهرات وبيانات خجولة مفعولا عكسيا، فكشفت تهاونا وعرت نوايا معادية لغزة ومعركتها بل تتمول من أعدائها.
لذلك كلما ظهرت بوادر تحرك شعبي ظهر المخذلون وعملوا على تفتيت الإرادة الشعبية وأغرقوا الساحات في صراعات حزبية يتقنونها، منها أن أي تحرك لمساندة الطوفان هو خدمة لأحزاب الإسلام السياسي المحلية بما يعني عمليا أنه لندع حماس تُهزم حتى لا ينتصر الإخوان أو النهضة أو من سار سيرهم في السياسية المحلية. وهذا هو نفس الموقف الذي اتخذته قبل ذلك أحزاب اليسار من هيئة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر وبرنامجها التوافقي أو التوحيدي للمشهد السياسي التونسي حول مبادئ الحرية والديمقراطية.
لقد كشف المخذلون بزعم حربهم على الإسلام السياسي أنهم يؤدون مهمة لصالح العدو، فمثل قيامهم ضد الحريات قبل الثورة وتخريبهم للانتقال الديمقراطي بعدها؛ بنفس المنهج وقفوا ضد الشارع المتحرك مع غزة، بل تسللوا داخل بعض المظاهرات ليرفعوا شعارات استئصالية تكسر الزخم العاطفي الذي كان يقود الناس بلا قيادة ولا خطة.
وجب التذكير بأن المعركة واحدة وأن أبا إبراهيم وأبا العبد ورجالهم شهداء معركة أكبر من غزة، بل هي معركة تحرير أمة ودفعها في طريق الديمقراطية والعدو الحقيق الذي كسر ظهر الشعوب وعطلها عن نصرة الديمقراطية في أقطارها، وعن نصرة المقاومة في غزة والضفة ولبنان.. هم تيارات التخذيل العربي اليسارية أولا قبل أي فصيل آخر،
وهذا كشف المسألة الأعمق في تاريخ العرب في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، أعداء الحرية والديمقراطية في أقطارهم هم نفس أعداء غزة في حربها، هم حلفاء للعدو.
قلة من الناس كانت ترى هذا بوضوح، لذلك وجب التذكير بأن المعركة واحدة وأن أبا إبراهيم وأبا العبد ورجالهم شهداء معركة أكبر من غزة، بل هي معركة تحرير أمة ودفعها في طريق الديمقراطية والعدو الحقيق الذي كسر ظهر الشعوب وعطلها عن نصرة الديمقراطية في أقطارها، وعن نصرة المقاومة في غزة والضفة ولبنان.. هم تيارات التخذيل العربي اليسارية أولا قبل أي فصيل آخر، وإذا قارنا قوة التخذيل في الأقطار بقوة سلاح العدو فإننا نجد هذا التخذيل أقوى تأثيرا وأشد أثرا.
هذا لا يخفف عن الأنظمة التي لم يعد يشك أحد في أن وجودها مرهون ببقاء العدو مسيطرا على المنطقة، وأن كل سياساتها تصب في نصرته على المقاومة، لكن هذه الأنظمة كانت معرضة إلى هزات عنيفة وربما سقوط كامل بفعل شارع منخرط في معركة الطوفان بوسائله السلمية.
إنها سلسلة تتضح كل يوم وفي كل حركة تقوم بها تيارات التخذيل العربي التي تعيش فقط من حربها على التيار الإسلامي الذي وجد نفسه بين فكي كماشة الأنظمة وهذه التيارات، فضيَّع طريق التضامن مبقيا على الحدود الدنيا من وجوده، ويكفيه لبراءته أو لتخفيف عاره أمام المقاومة المحاصرة أن قيادته ممزقة بين سجين وقتيل.
شهد أبو إبراهيم كما شهد أبو العبد كما شهدت غزة برجالها وأطفالها وحرائرها على هذه المرحلة، وبرأت ذمتها من ذنب أمة كلما أرادت النهوض ظهر من داخلها من طعن في عزيمتها وكسر قيامتها لصالح العدو، وتلك أسمى معاني الشهادة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية غزة اليساري تونس المقاومة تونس غزة المقاومة الديمقراطية اليسار مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عن نصرة
إقرأ أيضاً:
الكونغو الديمقراطية تتطلع لإبرام اتفاق معادن مع أميركا بنهاية يونيو
ذكرت صحيفة فايننشال تايمز اليوم الأحد أن مسؤولين من جمهورية الكونغو الديمقراطية متفائلون بإمكانية التوصل إلى اتفاق مع واشنطن الشهر المقبل لتأمين استثمارات أميركية في المعادن الحيوية، فضلا عن دعم الولايات المتحدة لجهود إنهاء الصراع في شرق البلاد.
وحسب الصحيفة فإن نطاق مفاوضات كينشاسا مع واشنطن طموح للغاية فهو يجمع بين منح الشركات الأميركية حق الوصول إلى رواسب الليثيوم والكوبالت والكولتان مقابل الاستثمار في البنية التحتية والمناجم، وجهود إنهاء 30 عاما من الصراع في المناطق الحدودية مع رواندا.
وذكرت رويترز الأسبوع الماضي أن معادن في الكونغو يمكن تصديرها بشكل قانوني إلى رواندا لمعالجتها بموجب شروط اتفاق سلام يجري التفاوض عليه مع الولايات المتحدة، وتتهم كينشاسا منذ فترة طويلة رواندا المجاورة باستغلال تلك المعادن بشكل غير قانوني.
ونقلت الصحيفة عن مصدرين مقربين من المفاوضات قولهما إن إبرام اتفاق استثمار مع الولايات المتحدة واتفاق سلام منفصل مع رواندا ممكن "بحلول نهاية يونيو (حزيران)"، لكن العقبات المحتملة لا تزال كبيرة.
وتأمل الولايات المتحدة في استعادة موطئ قدم لها في قطاع التعدين الذي هيمنت عليه الصين منذ أن توصلت بكين إلى اتفاقيتها الخاصة "المناجم مقابل البنية التحتية" مع كينشاسا عام 2008، والتي بلغت قيمتها مليارات الدولارات.
ونقلت الصحيفة أيضا عن وزير المناجم في الكونغو كيزيتو باكابومبا قوله إن إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة سيساعد على "تنويع شراكاتنا"، مما يقلل من اعتماد البلاد على الصين فيما يتعلق باستغلال الثروات المعدنية الهائلة.
إعلانوترى الكونغو الديمقراطية أن نهب ثرواتها المعدنية محرك رئيسي للصراع بين قواتها ومتمردي حركة 23 مارس/آذار -التي تزعم كينشاسا أن رواندا تدعمها- في شرق البلاد الذي اشتد منذ يناير/كانون الثاني الماضي.
وتتهم كيغالي بتهريب معادن بعشرات الملايين من الدولارات عبر الحدود شهريا لبيعها من رواندا.
ضغطوقال كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشؤون أفريقيا، مسعد بولس في وقت سابق من هذا الشهر إن واشنطن تضغط من أجل توقيع اتفاق سلام بين الجانبين هذا الصيف، مصحوبا باتفاقات ثنائية للمعادن مع كل من البلدين بهدف جلب استثمارات غربية بمليارات الدولارات إلى المنطقة.
ونقلت فايننشال تايمز عن المتحدث باسم حكومة رواندا، يولاندي ماكولو القول إن الإجراءات الدفاعية التي اتخذتها رواندا على الحدود ضرورية ما دامت التهديدات وسبب انعدام الأمن في جمهورية الكونغو الديمقراطية مستمرين.
وكان تقرير نشرته رويترز في مارس/آذار أفاد بأن وزارة الخارجية الأميركية أعلنت استعداد واشنطن لاستكشاف شراكات في قطاع المعادن الحيوية مع جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتعتبر الكونغو الديمقراطية من أغنى الدول بالمعادن الحيوية، لا سيما الكوبالت والنحاس والليثيوم.