شهادة لا يرتقي إليها شعر البلاغة، حتى نظن أن العدو غير مصدق ما ظفر به بمحض صدفة. لقد خرج عليهم أو دخل عليهم الباب، فهو منتصر بقوة من نزل إليه الأمر بدخول الباب على عدوه. لن نكتب فيه مراثي ولا مديحا، سيكفينا إخوة له زلزلهم ذهابه ولكن شد أزرهم أنه قاتل واقفا لا يتراجع ولا يفاوض على حياة صغيرة.
سننظر في أمر آخر لا نراه إلا مرتبطا بهذه الشهادة، أمة لا تنصر رجالها وتسارع إلى الرثاء المريح.
اليوم تحل بتونس الذكري التاسعة عشر لقيام حركة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2005، الفعالية الديمقراطية الأشد قوة والأوضح هدفا ضد نظام بن علي، فرجّت أركان نظامه وظلت مفاعيلها شغالة حتى سقط بعد خمس سنوات. وما العلاقة بين شهادة شهيد في غزة وبين الحدث المذكور؟ هنا نعثر على مفاتيح فهم الخذلان العربي لغزة ولأبطالها.
حركة سياسية وعدت بالكثير
للتذكير كان اجتماعا أولا في مكتب المحامي اليساري العياشي الهمامي، تحول إلى اعتصام ثابت حتى بلغ هيئة سياسية تفكر بشكل جماعي وتصدر ورقات عمل وأعدت قاعدة متطورة للعمل السياسي الديمقراطي في تونس. شارك في الفعالية منذ بدايتها طيف سياسي مختلف طالما تنافرت مكوناته وتصارعت فيما بينها، وكانت صراعاتها تصب دوما في مصلحة النظام منذ الزمن البورقيبي. لأول مرة تلتقي فعاليات يسارية وعروبية وإسلامية في مكان واحد لتجمع على أهمية بناء الديمقراطية بالتوافقات والتنازلات المتبادلة. وكان الإجماع الاستثنائي مربكا للنظام، فالمكونات التي طالما دفعها للصراعات البينية تجاوزت خلافاتها وعملت معا ضد نظامه، وبلع صدى عملها إلى الجهات الخارجية المتربصة بنظامه فأضعفته أكثر مما كان عليه من هشاشة.
في اجتماعات الهيئة ونقاشاتها التي طالت زمنا كافيا اكتشف التونسيون بعضهم بعضا وحصل نوع من الحشمة مما كان سائدا بينهم من صراع مبني على أحكام مسبقة، وبدا كما لو أنهم عثروا على أكسير السعادة الديمقراطية. لقد تخلقت بيئة سياسية ملائمة للتقدم على طريق الحرية والديمقراطية، لكن الفرحة لم تدم طويلا.
كلما ظهرت بوادر تحرك شعبي ظهر المخذلون وعملوا على تفتيت الإرادة الشعبية وأغرقوا الساحات في صراعات حزبية يتقنونها، منها أن أي تحرك لمساندة الطوفان هو خدمة لأحزاب الإسلام السياسي المحلية بما يعني عمليا أنه لندع حماس تُهزم حتى لا ينتصر الإخوان أو النهضة أو من سار سيرهم في السياسية المحلية
انفضت الهيئة وتشتت شمل مكوناتها تحت ضغط فصائل يسارية تعتبر في تونس من أحزاب الداخلية؛ وعملت منذ تكوينها على مهمة واحدة وهي حفر الخنادق وكسر الجسور أمام كل احتمالات اللقاء السياسي بين مكونات المشهد السياسي التونسي المتعدد المشارب. تراجعت المكونات اليسارية عن اتفاقات الهيئة وعادت إلى التكتل تحت فكرة لا لقاء مع "الخوانجية" (الرجعية الظلامية.. إلى آخر الأوصاف المعزوفة).
ظلت الأفكار المكتوبة معلقة في سماء تونس تلهم بعض الأقلام، لكن على الأرض لم تتطور الهيئة إلى مشروع حركي حتى حلت الثورة فانفضت نهائيا نحو حلول فردية وحزبية. وقد بدأ تفكيك آخر عناصرها الأستاذ نجيب الشابي بقفزه داخل حكومة محمد الغنوشي التي حاولت الالتفاف على الثورة فسقط معها ولم يقم أبدا.
ما علاقة هذا بغزة وشهيدها؟
لا نحتاج إلى التذكير بخذلان الساحات السياسية والشعبية لغزة منذ انطلاق حرب الطوفان، فقد كانت المظاهرات الصغيرة في بعض الساحات ومنها تونس أقرب إلى رفع العتب أو تنفيس الغضب منها إلى حراك سياسي يضع نفسه في موضع الإسناد الدائم للمعركة بوسائله المحلية، ولم يكن محتاجا للسلاح ليساهم في المعركة. لقد أدت مظاهرات وبيانات خجولة مفعولا عكسيا، فكشفت تهاونا وعرت نوايا معادية لغزة ومعركتها بل تتمول من أعدائها.
لذلك كلما ظهرت بوادر تحرك شعبي ظهر المخذلون وعملوا على تفتيت الإرادة الشعبية وأغرقوا الساحات في صراعات حزبية يتقنونها، منها أن أي تحرك لمساندة الطوفان هو خدمة لأحزاب الإسلام السياسي المحلية بما يعني عمليا أنه لندع حماس تُهزم حتى لا ينتصر الإخوان أو النهضة أو من سار سيرهم في السياسية المحلية. وهذا هو نفس الموقف الذي اتخذته قبل ذلك أحزاب اليسار من هيئة الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر وبرنامجها التوافقي أو التوحيدي للمشهد السياسي التونسي حول مبادئ الحرية والديمقراطية.
لقد كشف المخذلون بزعم حربهم على الإسلام السياسي أنهم يؤدون مهمة لصالح العدو، فمثل قيامهم ضد الحريات قبل الثورة وتخريبهم للانتقال الديمقراطي بعدها؛ بنفس المنهج وقفوا ضد الشارع المتحرك مع غزة، بل تسللوا داخل بعض المظاهرات ليرفعوا شعارات استئصالية تكسر الزخم العاطفي الذي كان يقود الناس بلا قيادة ولا خطة.
وجب التذكير بأن المعركة واحدة وأن أبا إبراهيم وأبا العبد ورجالهم شهداء معركة أكبر من غزة، بل هي معركة تحرير أمة ودفعها في طريق الديمقراطية والعدو الحقيق الذي كسر ظهر الشعوب وعطلها عن نصرة الديمقراطية في أقطارها، وعن نصرة المقاومة في غزة والضفة ولبنان.. هم تيارات التخذيل العربي اليسارية أولا قبل أي فصيل آخر،
وهذا كشف المسألة الأعمق في تاريخ العرب في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، أعداء الحرية والديمقراطية في أقطارهم هم نفس أعداء غزة في حربها، هم حلفاء للعدو.
قلة من الناس كانت ترى هذا بوضوح، لذلك وجب التذكير بأن المعركة واحدة وأن أبا إبراهيم وأبا العبد ورجالهم شهداء معركة أكبر من غزة، بل هي معركة تحرير أمة ودفعها في طريق الديمقراطية والعدو الحقيق الذي كسر ظهر الشعوب وعطلها عن نصرة الديمقراطية في أقطارها، وعن نصرة المقاومة في غزة والضفة ولبنان.. هم تيارات التخذيل العربي اليسارية أولا قبل أي فصيل آخر، وإذا قارنا قوة التخذيل في الأقطار بقوة سلاح العدو فإننا نجد هذا التخذيل أقوى تأثيرا وأشد أثرا.
هذا لا يخفف عن الأنظمة التي لم يعد يشك أحد في أن وجودها مرهون ببقاء العدو مسيطرا على المنطقة، وأن كل سياساتها تصب في نصرته على المقاومة، لكن هذه الأنظمة كانت معرضة إلى هزات عنيفة وربما سقوط كامل بفعل شارع منخرط في معركة الطوفان بوسائله السلمية.
إنها سلسلة تتضح كل يوم وفي كل حركة تقوم بها تيارات التخذيل العربي التي تعيش فقط من حربها على التيار الإسلامي الذي وجد نفسه بين فكي كماشة الأنظمة وهذه التيارات، فضيَّع طريق التضامن مبقيا على الحدود الدنيا من وجوده، ويكفيه لبراءته أو لتخفيف عاره أمام المقاومة المحاصرة أن قيادته ممزقة بين سجين وقتيل.
شهد أبو إبراهيم كما شهد أبو العبد كما شهدت غزة برجالها وأطفالها وحرائرها على هذه المرحلة، وبرأت ذمتها من ذنب أمة كلما أرادت النهوض ظهر من داخلها من طعن في عزيمتها وكسر قيامتها لصالح العدو، وتلك أسمى معاني الشهادة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية غزة اليساري تونس المقاومة تونس غزة المقاومة الديمقراطية اليسار مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عن نصرة
إقرأ أيضاً:
عربُ الجاهليَّة ومِلَّةُ إبراهيم
الفرعون أمنحوتب الرابع، المُتوفى عام 1336 أو 1334 ق.م، تخلَّى عن تعدد الآلهة المصرية القديمة بعد أن نظر في النجوم ورأى رأيه، وعبدَ آتون "إله الشمس" أو توحّد معه وسُمي إخناتون، أي "روح آتون"، ودعا إلى عبادة "آتون" وقيل عنه إنه أول المُوحدين.. وكونه أول الموحدين يجافي الحقيقة لأن أول الموحدين وفق منهج اتبعه أمنحوتب الرابع هو إبراهيم الخليل بن آزر المولود في أور الكلدانيين عام 1900 أو عام 1850 ق.م.. فإبراهيم هو الذي تنكر لعبادة الأصنام التي كان يعبدها قومه وحطمها بفأسه، بعد أن نظر في النجوم ورأى القمر والشمس يغيبان فرفض عبادتها، ومال إلى الإيمان بخالقها ومدبرها أبديّ الوجود الذي لا يَأْفُل، وأسلم أمره له، وهجر أورَ الكلدانيين بعد أن نجَّاه اللهُ من نار أقامَها قومُه لإحراقه لأنه تنكر لآلهتهم وحطَّمها. وترك إبراهيمُ والدَه آزر وأهله، وقصد الجزيرة العربية، وجاء إلى" بكة“، مكة، وأقام فيها، وتزوج هاجَرَ وهي من قبيلة جُرْهُم اليمانية.
وكان زمن إبراهيم قبل موسى بن عمران بمئات سنين، حيث يُشار إلى أن زمنه كان في القرن الرابع قبل الميلاد نحو 1350 ق. م. وقبل عيسى المسيح الذي يبدأ بميلاده التاريخ الميلادي بنحو 1850 عام. ونذكِّر هنا بالآية في القرآن الكريم: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٦٧﴾ - سورة آل عمران.
وقد أنجب ابرهيم من هاجر في مكة ابنه البِكر إسماعيل الذي أقام معه البيت الحرام للناس كافة. وقد ترك إسماعيلَ في مكة وذهب مع امرأته سارة إلى مدينة الخليل بفلسطين، وهناك توفاه الله ودُفِنَ في مغارة ”المِكْفيلَة“ التي تقع الآن تحت الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل. فإبراهيم هو الموحد الأول، أول المؤمنين بإله واحد، الذي تَحَنَّف، أي ابتعد عن دين قومه، واختار التوحيد. وهو أول الحُنفاء، وأبو العرب الذين ينتسبون إليه ولابنه البِكر إسماعيل عليهما السلام.
وقد بقي إيمان إبراهيم بالله يقيناً أو شبه يقين في خلفية التفكير والاعتقاد لدى العرب في الجاهلية، رُغمَ الزَّيغِ الذي أصابهم وشكل قِشْرَتهم الاعتقادية حين اتخذوا أصناماً وأوثاناً جلبها إليهم وزرعها في بيئتهم عمرو بن لُحَيٍّ بن قَمَعَة بن إلياس الخُزاعيّ، وقد حملها عمرو من بلاد الشام في القرن الثالث الميلادي، وكانت الشام تحت حكم الروم، ويأخذ كثير من أهلها بالوثنية. وقد تشرَّبَ عمرو الإعجاب بتلك الوثنية في ”مؤآب" وما بعدها من بلاد الشام، حيث رآى أهلها يعبدون الأصنام، فسأل عنها وأعجب بها، وحمل الصّنم هُبَل وأدخله إلى مكة.
وكان عمرُو نافذاً في قبيلته خزاعة وسيداً من سادتها، بعد أن سيطرت على مكة ونفَت جُرْهُم منها، وعظُم شأنُها في مكة وفي جزيرة العرب. وقد أصبح عمرو بن لُحيّ من سادتها، لمكانته في قومه وفي مكة فهو ممن يطعمون الناس في سنوات الشدة، وصاحب تجارة كبيرة، ومن الأغنياء المعدودين. وقد دعا الناس في مكة ومحيطها إلى عبادة هُبَل والأصنام والأوثان فأخذوا بما دعاهم إليه. "فلما جاء موسم الحج دفع أصناماً إلى القبائل فذهبت بها إلى مواطنها“.
وهكذا انتشرت عبادة الأصنام في جزيرة العرب حتى صار لكل قبيلة من القبائل صنمها "من الحجر أو المعدن" أو ”وثَن" من الخشب وحتى من التَّمر وغيره، تتخذه زُلْفَى إلى الله. فعمرو بن لُحي هو الذي حَرَف عرب الجاهلية عن دين أبيهم إبراهيم أو أزاغهم ذلك الزيغ، وقادهم إلى الشرك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في" عمرو بن لُحَيٍّ الخزاعي" : "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قَصَبه ـ أمعاءه ـ في النار، فكان أوَّل من سيَّب السوائب و غير دين إبراهيم".
جاء نبي الله وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فحطم الشرك وأبطله بتحطيم الأصنام والأوثان في مكة، وطهَّر البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل من مظاهر الشرك تلك.. فعل مثلما فعل أبوه الروحي الموحد الأول إبراهيم الخليل حين حطّم الأصنام في أور الكلدانيين، وأعاد الناس إلى مِلَّة أبيهم إبراهيمولم يستطع شِرك ابن لُحَيٍّ أن يلغيَ "الله" من فطرة الناس، وبقيت فيهم ملَّة إبراهيم عميقة لكن تغَشَّاها ما تغَشَّاها. وكانت تظهر في التوجه إلى الله من خلال تعظيم البيت، والحج إليه، والطواف به، والوقوف بعرَفة ومُزدَلِفة، وإهداء البُدْن، وبقيت في أدعية قبائلهم.. فقد كانت قبيلة "نزار" تقول في إهْلالِها: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكُه وما مَلَك"، وكانت قريش تُعلن قولها وحُجَجَها بوجه العرب فتقول: "نحن بنو إبراهيم وأهلُ الحَرَم، وولاةُ البيت، وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقّنا ومنزلتنا".
أردت أن تكون هذه الإشارة مدخلاً إلى أن إبراهيم الخليل هو أول الموحدين، وإلى أن "مِلَّتِه" وتوحيده بقيا في الجاهليين، ولم يكن ما أدخله عمرو بن لُحَيّ من شرك بإدخاله الأصنام والأوثان إلى مكة، سوى قشرة وزُلفى، ولم يَجُب ما أدخله من أصنام وأوثان وجودَ الله والعود إليه و حنيفيةَ إبراهيم وملّتَه في المجتمع الجاهلي، وبقي وعي عميق لدى عرب الجاهلية بالوحدانية ملّة إبراهيم عليه السلام، وعلى رأسهم الأَحناف.
وما أَقْتَطِفُه وأُثبته هنا من واقعات وأقوال وأبيات شعر لشعراء عرب ذوي مكانة وتأثير في الجاهلية، يؤكد ذلك ويعزز وجهة النظر هذه، بسريان مِلَّةِ إبراهيم وتوحيده في السَّيالة الروحية الاجتماعية العربية العميقة، ووجود الاعتقاد بالله الواحد القادر المُقدِّر، الأول والآخر.
وفي هذا المجال نشير إلى أنه لا يمكن الأخذ برأي الأب لويس شيخو في كتابه ”شعراء النصرانية“ وبرأي من ذهب مذهبه وقال إن الشعراء الجاهليين الذين ذَكروا الله والتوحيد وغيره من مقومات الإيمان هم من النَّصارى أو أنهم تأثروا بالنصرانية، فذلك ادعاء لا سند له، وقد أسقطه باحثون كثر لانعدام دقته وانطلاقه من تجاهل يضعف الموضوعية في البحث أو ينقُضها، أو ينم عن تعصّب يُضل. فمعظم ما جاء في شعر شعراء الجاهلية، لا سيما في شعر الحكماء والحكمة، هو تعبيرٌ عما رسَخ في وجدان قومهم من ملة أبيهم إبراهيم الخليل، وقد عبروا عن ذلك بعفوية ومصداقية وإقناع. وقد نجد لدى الشعراء النصارى في العصر الجاهلي ذكراً للتوحيد، ولا نكاد نجد إشارات رموز النصرانية وطبيعة السيد المسيح ومريم العذراء، و"الآب والإبن وروح القدس"، ولا إلى صراعات نشأت بين مذاهب معروفة.. وكنا نجد ذكراً وإشارات إلى الأديرة والرهبان وغير ذلك من رموز مسيحية.
ـ 2 ـ
وأقدم فيما يلي، بين يدي هذا الرأي، بعض ما حدث، وما قاله وفعله مشهورون لهم مكانة ودور في المجتمع الجاهلي، ومقتطفات من شعر شعراء جاهليين كبار من أصحاب المعلقات وغيرهم في هذا الباب، اقتطفتها من المعلَّقات ومن غيرها، فيها ذكر لله، والقدَر المقدور، واليوم الآخر، والحساب. وفي ذلك دلالة على ما رسخ في الأنفس من وحدانية إبراهيم عليه السلام وملته، وعلى ما ذهبت إليه مِن رأي وإسْنادٌ له:
كره كل من: ورقة بن نوفل ـ عُبيد الله بن جحش ـ عثمان بن الحويرث ـ زيد بن عمرو بن نُفيل. عبادة قريش للأوثان وقالوا لسنا من ذلك على شيء وتعاهدوا على ما تنجو فيه. فثبت ورقة على النصرانية، وتنصر عبيد الله بن جحش في الحبشة بعد أن هاجر مع المهاجرين من المسلمين وصار يقول لهم: ”فقَّحْنا وصَأْصَأْتُم“، وتنصَّر عثمان بن الحويرث في الشام وقصد ملك الروم، وبحث زيد بن نفيل واستقصى وأعلن من بعد أنه على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً وأخذ ينبه قريش ويكشفهم برأيه ودعوته في مكة عند الكعبة.
قال زيدُ بن عمرو بن نُفيل ـ توفي عام 605م رفض وأد البنات و افتدى الموؤدة:
إلى الله أهدي مِدْحتي وثنائيا وقولاً رصيناً لا يني الدَّرَ باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه إلهٌ، ولا ربٌّ يكون مُدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردى فإنك لا تخفي من الله خافيا
وإياك لا تجعل مع الله غيرَه فإن سبيل الرُّشد أصبح باديا
رضيت بك اللّهُمَّ براً فلن أُرى. أدينُ إلاهاً غيرك اللهُ ثانيا
وقال:
ولكن أَعبد الرحمن ربي ليغفرَ ذنبيَ الربُّ الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرارَ دارهم جِنانٌ وللكفار حاميةٌ سعيرُ
قال حارثة بن شَراحيل، أو ” شُرحبيل“، والد زيد، وكان قد افتقد زيداً قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم:
بكيت على زيدٍ ولم أدرِ ما فعَل. أَحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري، وإني لسائلٌ أغالك بعدي السهل أم غالَك الجَبل
قال عبد المطلب حين غزا أَبرَهةُ مكةَ وهدَّد الكعبة:
لاهُمَّ إن المرء يمنَعُ رَحْلَه فامْنَعْ حِلالَك
وقال في استسقاء، ومحمد معه فتى، وقد تجمع أهلُ مكة حوله في الجبل: "اللهمَّ سادَّ الخَلَّة، وكاشف الكُرْبَة، أنت عالمٌ غيرُ معلَّم، ومسؤول غيرُ مُبَخَّل، وهذه عِبدَّاؤك، وإماؤك بِعَذَرات حرَمك، يشكون إليك سَنَتَهم، فاسْمَعَنْ إليهم، و امطِرَنْ علينا غَيثاً مَريعاً مُغدِقاً".
وقال نُفيل بن حبيب الذي بحث عنه الحبشُ ليدلهم على الطريق هرباً من مكة:
أين المفرُّ والإلهُ الطالبُ والأشرمُ المغلوبُ ليس الغالبُ
وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي 130 ـ 80 ق. الهجرة ـ 496 ـ 544 م:
فَقالَت سَباكَ اللَهُ إِنَّكَ فاضِحي أَلَستَ تَرى السُمّارَ وَالناسَ أَحوالي
فَقُلتُ يَمينَ اللَهِ أَبرَحُ قاعِداً وَلَو قَطَعوا رَأسي لَدَيكِ وَ أَوصالي
حَلَفْتُ لَها بِاللَهِ حِلْفَةَ فاجِرٍ لَناموا فَما إِن مِن حَديثٍ وَلا صَالِ
وقال:
فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي
وقال، وقد سأله عبيد بن الأبرص:
ما السودُ والبيضُ والأسماء واحدة لا يستطيع لهنَّ الناسُ تسَّاسا
فقال امرؤ القيس:
تلك السّحاب إذا الرَّحمن أرسلَها روى بها من مُحول الأرضِ أَيباسا
وسأله:
ما الحاكمون بلا سَمعٍ ولا بَصَرٍ ولا لسانٍ فصيحٍ يعجِبُ الناس
فقال:
تلك الموازين والرَّحمنُ أنزلَها ... ربُّ البريَّة بين الناس مقياسا
ولم يكن اليهود ولا النصارى يقولون بالرَّحمن. وقوله "ربُّ البريّة" واضح الدِّلالة على الوحدانية وانعدام الشريك.
وقال امرؤ القيس أيضاً وهو ينشُد ثأره لأبيه:
نحن جَلَبْنا القُرَّحَ القَوافلا ... تالله لا يذهب شيخي باطلا
ومر "بِبَالَةَ" وفيها للعرب صنم تعظمه يقال له ذو الخلصة. فاستقسم عنده بقِداحِه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فأجالها فخرج الناهي ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي. فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: ويحك لو أبوك قتل ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد." فاسْتقسَامه بالأزلام نهج جاهلي معروف.
وقال:
حلّت لي الخمرُ وكنتُ امرءاً ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أُسقَى غير مُستَحقِبٍ ... إثماً من الله ولا واغل
والخمر غير محرمة لدى النصارى.
وقال:
وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتَ بِهِ وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
وقال طَرَفةُ بن العبد " 86 ق.هـ.- 60 ق.هـ./ 539 – 564 م:
فَلَو شاءَ رَبّي كُنتُ قَيسَ بنَ خالِدٍ وَلَو شاءَ رَبّي كُنتُ عَمروَ بنَ مَرثَدِ
فَأَصبَحتُ ذا مالٍ كَثيرٍ وَزارَني بَنونَ كِرامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ
وقال عنترة بن شداد العبسي ؟ - 22 ق.هـ /. - ؟ _ 601 م
جَزى اللَهُ الأَغَرَّ جَزاءَ صِدقٍ إِذا ما أُوقِدَت نارُ الحُروبِ
وقال:
فَبِاللَهِ يا ريحَ الحِجازِ تَنَفَّسي عَلى كَبِدٍ حَرّى تَذوبُ مِنَ الوَجدِ
وقال:
أَلا قاتَلَ اللَهُ الهَوى كَم بِسَيفِهِ قَتيلُ غَرامٍ لا يُوَسَّدُ في اللَحْدِ
وقال:
إِلى اللهِ أَشكو جَوْرَ قَومي وَظُلمَهُم إِذا لَم أَجِد خِلّاً عَلى البُعدِ يَعْضُدُ
وقال زهير بن أبي سُلمى " ؟ - 13 ق. هـ/ ؟ - 609 م:
فَلا تَكْتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم لِيَخْفَى، وَمَهما يُكْتَمِ اللَهُ يَعلَمِ
يُؤَخَّرْ فَيوضَعْ في كِتابٍ فَيُدَّخَر لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ
قال النابغة الذبياني 535 - 604 م وهو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني:
لَهُم شيمَةٌ لَم يُعطِها اللَهُ غَيرَهُم مِنَ الجودِ وَالأَحلامُ غَيرُ عَوازِبِ
مَحَلَّتُهُم ذاتُ الإِلَهِ وَدينُهُم قَويمٌ فَما يَرجونَ غَيرَ العَواقِبِ
وقال أمية بن عبد الله بن أبي الصلت الثقفي ؟ ـ توفي 5 هـ = ؟ ـ 626 م واسم أبي الصلت ربيعة بن وَهْب بن عِلاج، ولم يدخل الإسلام:
الحَمدُ للَّهِ مَمسَانا وَمَصبَحَنا بِالخَيرِ صَبَّحنا رَبي وَمَسَّانا
رَبُّ الحَنيفَةِ لَم تَنفَدْ خَزائِنُها مَملؤَةٌ طَبَّقُ الآَفاقَ سُلطانا
أَلا نَبِيَّ لَنا مِنّا فَيُخبِرُنا ما بُعدَ غايَتِنا مِن رأَسِ مَجرانا
يا رَبِّ لا تَجعَلَنِّي كافِراً أَبداً واَجعَل سَريرَةَ قَلبي الدَهرَ إِيماناً
كُلُ اِمريءٍ سَوفَ يُجزى قَرضَهُ حَسَناً أَو سَيئاً وَمَديناً كَالَّذي دانا
وقال أبو ذُؤيب الهذلي 591 - 648 م، وهو خويلد بن خالد بن مُحرّث الهذلي:
وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ألذُّ مِن السَّلْوى إذا ما نَشُورُها
قال عبد الله ابن الزِّبَعْرى بن قيس السَّهمي توفي 636 م، في غزو أَبْرهة لمَكَّة فيما يُعرَف بـ " غزوة الفيل"، وأراد أبرهةُ تدمير الكعبة، بيت إبراهيم الذي أقامه مع ولده إسماعيل ليكون لله يؤمُّه المؤمنون، قال ابن الزِّبَعْرَى:
كانتْ بها عادٌ وجُرْهُمُ قبلَهم والله من فوق العبادِ يُقيمُها
ولم يقل " اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، يُقيمُها، ولا هُبَل ولا.. ولا.. لأنه كان في عمق كل عربي أن الأصنام والأوثان التي أحضرها " عَمرو بن لُحيّ من بلاد الشام حيث كان الروم يحكمون و يفرضون آلهتهم، و" عبدها؟!" عرب شبه الجزيرة العربية.. إنما كانوا يتخذونها زُلفى يتقربون بها إلى الله. وهذا موجود في شعرهم الجاهلي.
وقال لبيد بن ربيعة ؟ - 41 هـ /–؟ـ 661 م وهو لم يقل سوى بيت شعر واحد بعد أن أسلم:
وَأَنَّكَ ما يُعطِيكَهُ اللَهُ تَلْقَهُ كِفاحاً وَتَجلُبُهُ إِلَيكَ الجَوالِبُ
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وقال:
وَلِلهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ وَتَسكينَةٍ أَبَداً شاهِدُ
وقال أيضاً:
حَمِدتُ اللَهَ وَاللَهُ الحَميدُ وَلِلهِ المُؤَثَّلُ وَالعَديدُ
فَإِنَّ اللَهَ نافِلَةٌ تُقاهُ وَلا يَقتالُها إِلّا سَعيدُ
وهذا الذي أشرنا إليه يُعزز، بل يؤكد، أن عرب الجاهلية لم يغيبوا الله وقدرته ومرجعيته، وأن ما اتخذوه من الأصنام والأوثان لم يكن سوى زُلفى يتقربون بها إلى الله، رب أبيهم إبراهيم الحنيف الذي رسخت ملَّتُه فيهم فطرة، وأعادهم إليها الإسلام ﴿.. مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ.. ﴾ سورة الحج ٧٨. لقد زاغوا بعض الزيغ عن عقيدة أبيهم جهلاً منهم واتباعاً لسادة وزعماء لهم وقعوا تحت تأثير آخرين أقوياء ذوي سلطة وعمران يتخذون من الميثولوجيا والأساطير أرباباً يجسّدونها في تماثيل، فأعجبوا بهم وقلدوهم، فجلبوا أصناماً وأوثاناً من لدنهم وعبدوها ويتقربون بها إلى الله في أعماقهم، فهي " زلفى“، ولم تكن سوى قشرة تَسْمُك أو تخف وتقسو عند العض منهم ويتعصبون لها، لكن توحيد إبراهيم خليل الرحمن و الحنيفية ملته لم تُجَب، وبقيت تسري في أجيالهم فطرة، وبقي يقاربُها ويحملُها ويقول بها مدركون مفكرون ومدبرون وشعراء حكماء منهم، يرفضون الشرك، وتشير فطرتهم وأفكارهم ورؤاهم إلى الله وإلى مرجعية الأمر والحكم إليه، يذكرونه في المُلِمات ويسيل حكمة عند شعراء، ولكنه لا يذكرون اللات والعُزى ومَناة الثالثة الأخرى، ولا هُبَلَ وذا الخَلَصة وغيرَه وغيرَه في المفاصل الحيوية للتفكير والتدبير والتدبُّر. وكان من بين أولئك أحناف يدعون إلى ملة إبراهيم عند الكعبة وينهون عن سواها. وقد جاء في القرآن الكريم حكمٌ واضحٌ ودحضٌ جلي قوي قاطع للشرك ولما عبده المشركون من أصنام وأوثان. ﴿أَلَا لِلَّـهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿٣﴾ - سورة الزُّمَر.
وجاء نبي الله وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فحطم الشرك وأبطله بتحطيم الأصنام والأوثان في مكة، وطهَّر البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل من مظاهر الشرك تلك.. فعل مثلما فعل أبوه الروحي الموحد الأول إبراهيم الخليل حين حطّم الأصنام في أور الكلدانيين، وأعاد الناس إلى مِلَّة أبيهم إبراهيم: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (95﴾ - سورة آل عمران.
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾
والله سبحانه وتعالى مِن وراء القصد.