البوابة نيوز:
2025-06-03@15:26:27 GMT

يفنى الجسد ويبقى الأثر

تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أعشق المناسبات السعيدة، وأستمتع باختيار تفاصيل الهدايا، حتى أُدخل السعادة على قلب صاحبها وأعيش فرحتي برؤية ابتسامته وفرحته بها، تعبيرا عن حبي وامتناني، ومن يعرفني جيدا يعي تماما أن هذه طبيعتي منذ الصغر.

مرت سنوات ربما تكون طويلة أو قصيرة.. لا أعلم، أحيانا عقلي ينسى أو يرفض مراقبة الزمن، ولكني أتذكر جيدا أنني في مثل هذه الأيام كنت استعد لتحضير هدية بمناسبة عيد ميلاد زوجي، أتفنن في اختيارها تعبيرا عن تقديري له.

أتذكر جيدًا تلك التفاصيل الصغيرة التي ترافقني حتى اليوم، وأجد نفسي أبتسم أحيانا، حين أمر بالمصادفة أمام محال متخصصة بالمقاسات التي كنت أبحث عنها سابقا وأجدها بصعوبة، فأتذكر كم كنت أرهق نفسي للعثور عليها، والآن أصبحت تلك المحال منتشرة بكثرة بشكل غريب! لكن.. أين هو صاحب تلك الهداية التي كنت أبحث عنها بشغف؟ لقد تركنا ورحل!.

ودعنا زوجي وهو في ريعان شبابه، لم يكمل بعد عقده الثالث، عشنا سويا سنوات قليلة، لكنها كانت مليئة  بالتفاصيل، كنتُ أحلم مثله ببناء أسرة كبيرة، نرى أطفالنا يكبرون أمام أعيننا، ونكبر نحن أيضا، نشيب سويا، ونخوض معا أفراح الحياة وأحزانها، بشدها وجذبها.

لكن القدر لم يمهلنا وقتا كافيا لتحقيق تلك الأحلام الشابة، فقد خطفه الموت في نفس الشهر الذي وُلد فيه، وكأن الحياة أرادت أن تهديه بداية جديدة ولكنها هذه المرة أبدية، خالية من الألم، بعيدا عن صراعات العلاج القاسية، وتجرع "الكيماوي" أملا في الشفاء.

أتذكر تلك الليلة العصيبة ونحن نراقب جهاز التنفس الذي يعد أنفاسه، وفجأة انخفض مستوى الأكسجين، واضطررنا لاستدعاء الطبيب الذي قرر نقله فورا إلى العناية المركزة، شعرت حينها بأن الأرض انهارت من تحتي، وبكيت بحرقة وقلة حيلة، لكنه أشار بيده، وبكل ما تبقى له من قوة وقال لي: "أنا هبقى كويس"، ثم دخل في غيبوبة... ولم يستيقظ بعدها أبدا، ليعلن في صمت انتهاء رحلته معي!! وأنا التي كنت أنتظره يعود لبيته من جديد لنكمل الرحلة سويا.. ويبدو أنه كان يعلم أنه لن يعود ولكنه "هيبقى كويس" كما أكد لي.

بعد غيابه عن الحياة، كتبت له مرارا أن وجوده كان يمنع الكثير من الأشياء السيئة، فكان حائط سد منيع يحمينا من خيبات بعض البشر، ولكني أعي جيدا أن في باطن كل محنة منحة، نعم هي منحة من الله لي وله، الحياة علمتني أن لكل ابتلاء حكمة عند الله ووجودنا نحن البشر في حياة بعضنا البعض، ما هو إلا مجرد سبب لتفاصيل لا يعلمها غير المولى عز وجل.

تمضي الحياة، ويفنى الجسد، لكن الأثر يبقى.. فقد ترك زوجي بصمة طيبة في قلوب كل من عرفه، فمن عرفه لا يذكره إلا بالخير، وترك لي ابنا جميلا يشبهه كثيرا في الشكل والطباع، أحاول جاهدة أن يكون عملنا الصالح في هذه الدنيا.

لا أنكر شعوري في بعض الأحيان بالضجر، إذ أبحث عنه بأحلامي أملا في أن أجده بجانبي، نتشارك القرارات معًا بشأن ابننا، لكن لا أجد له أثرًا، ويغمرني الحزن واليأس كلما عجزت عن تعويض ابني عن غياب والده!، ماذا أفعل وهو دائما يسألني باستمرار عن نبره صوت أبيه؟! وعن أشيائه الخاصة؟ يمتلكني الحزن بقوة حين أدرك أني لا أملك سوى ذكريات وحكايات طيبة عنه أرويها له، وأحاول أن أنسج من تلك الحكايات مشاعر يعيش بها كما أعيش أنا.
ولا أنكر أيضا فخري بنفسي فقد صنعت لي ولابني جزءا كبيرا من الرضا حتى تستمر وتمضي الحياة إلى أن يقضي الله بنا أمرا مفعولا، اصنعوا أثرا طيبا في هذه الحياة، فالأجساد راحلة، لكن ما يبقى هو  الخير الذي زرعتموه في قلوب أحبابكم.. ما يبقى هي الحكايات والذكريات الطيبة، كلنا راحلون.. وختاما، سلاما على روحك الطاهرة... إلى أن نلتقي.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: شيرين بكر التفاصيل الصغيرة العناية المركزة الكيماوي

إقرأ أيضاً:

الباحثة حمدة المعمرية تروي حكاية المكان بلغة الأثر والإنسان

وسط مشهد متغير تتسارع فيه أنفاس المدن وتتهاوى فيه التفاصيل الصغيرة، يبرز من لا يزال يفتح نوافذه لذاكرة المكان، ويجعل من الورقة الأكاديمية وسيلة لا لاجتياز المرحلة الدراسية فحسب، بل لاستعادة ما غفله التاريخ، وتوثيق ما أوشك على الاندثار تحت وطأة التحولات الحديثة.

في عُمان، حيث تختزن القرى والحارات القديمة حكايات لم تُروَ بعد، ينهض جيل من طلبة الجامعات بشغف مغاير. جيل لا يكتفي بقراءة الأثر، بل يبحث عنه، يزوره، يوثّقه، ويطرح الأسئلة: من كان هنا؟ كيف عاش؟ وماذا بقي من ملامحه في المكان والناس؟

من بين هذه النماذج تبرز الباحثة حمدة المعمرية، طالبة الماجستير في قسم الآثار بجامعة السلطان قابوس، التي قدّمت مشروعًا بحثيًا مميزًا بعنوان: «حارة حماسة في ولاية البريمي: دراسة أنثوأركيولوجية»، حاولت فيه أن تمسك بالخيط الدقيق الذي يربط الإنسان بالمكان، وتقرأ الطين والجدران والفراغات، لا بوصفها بقايا صامتة، بل باعتبارها بنية اجتماعية وثقافية نابضة بالحياة.

اختيار المكان.. بين توصية علمية وحدس شخصي

لم يكن اختيار «حماسة» اعتباطيًا، بل جاء بعد مقارنة معمّقة مع عدة حارات أخرى في المنطقة، لتتفوق بمساحتها الواضحة وتنوع مبانيها، مما جعلها نموذجًا مثاليًا للدراسة، كما أشارت الباحثة. غير أن البُعد العلمي لم يكن العامل الوحيد الحاسم، فالمكان يحمل أيضًا صلة وجدانية خاصة. تقول: موقعها الحدودي يجعلها كيانًا صامتًا يتلقى نظرات المارّة بدهشة- وأنا واحدة منهم. هذه الحارة لم تكن حاضرة في الدراسات السابقة، ولم تحظَ بتوثيق وافٍ، فقررت أن أكون من يبدأ هذا المسار. شعرت أنها بحاجة إلى من يُصغي لها، من يُعيد قراءتها بإنصاف واهتمام.

الأنثوأركيولوجيا.. حين يتحوّل المعمار إلى مرآة اجتماعية

في الوقت الذي يرى فيه البعض أن المعمار مجرد كتل حجرية صماء، تؤمن المعمرية بأن الجدران تتحدث، وأن البيوت القديمة ليست فقط مساحات للسكن، بل شواهد على حياة اجتماعية متكاملة، وطقوس متوارثة، وعلاقات إنسانية عميقة. تقول: نحن في علم الآثار لا نكتفي برؤية الحجارة والطين، بل نصغي لما تقوله الزوايا، والممرات، وموقع النافذة، واتجاه الباب، موضحة أن الأنثوأركيولوجيا - أو الأثنوأثري - هو الحقل الذي يدمج الأثر مع المجتمع، ويبحث في كيفية تفاعل الإنسان مع بيئته، وما تركه فيها من أثر مادي وثقافي.

في حارة حماسة، لم تكن الدراسة قراءة معمارية فحسب، بل محاولة جادة لفهم كيف عاش الناس، وتفاعلوا، ونسجوا تفاصيل يومهم بين الفناء والسوق والبرج. الحارة -كما وصفتها- وثيقة معمارية حيّة، تزخر بالدلالات والمفاتيح لفهم روح المكان.

الوثائق، الميدان.. والصور التي تعيد رسم الحكاية

اعتمدت المعمرية في بحثها على مصادر مكتوبة وميدانية، فجمعت بياناتها من كتب الرحالة والوثائق الأرشيفية، بالإضافة إلى الدراسات السابقة عن الحارات. غير أن اللحظة المفصلية في بحثها -كما تؤكد- كانت في الزيارات الميدانية. تقول: قمت بزيارتين وثّقت خلالهما عناصر الحارة بدقة: الآبار، والمباني، والسوق، والبرج. كل صورة التُقطت كانت بمثابة كشف جديد. هذه الزيارات أضفت للبحث بعدًا بصريًا ومعرفيًا لا يمكن تعويضه من الكتب وحدها.

تخطيط الحارة.. اقتصاد، وأمن، وتكافل اجتماعي

من خلال تحليل المعمار، توصّلت الباحثة إلى أن الحارة لم تكن مجرد مساكن متناثرة، بل وحدات مترابطة شكّلت نسيجًا اجتماعيًا واقتصاديًا متكاملاً. تشرح المعمرية: يتجلى ذلك في الفناء المركزي المشترك الذي توزعت حوله البيوت، والسوق المنفصل بتصميمه المنظم، إضافة إلى وجود برج للمراقبة. وترى أن هذا التخطيط يعكس رؤية متكاملة: الفناء للحياة اليومية، والسوق للنشاط الاقتصادي، والبرج للأمن، مما يدل على وعي تنظيمي متقدّم لدى سكان ذلك العصر.

الصوت الغائب.. ومحدودية الرواية الشفهية

رغم الأهمية البالغة للرواية الشفهية في توثيق الذاكرة الشعبية، واجهت المعمرية تحديات في الوصول إلى سكان الحارة الأصليين؛ فغالبيتهم لم يعودوا يقطنون المكان، الذي أصبح يشغله عمال وافدون. وتوضح: حاولت التواصل مع شخصيات محلية عبر الهاتف، لكن المضمون كان محدودًا وضعيفًا، لذلك لم أتمكن من بناء سردية شفهية قوية، فاعتمدت بشكل أكبر على الجانب الميداني.

وعي طلابي يتصاعد.. وحارات تنتظر من يرويها

تبدي الباحثة تفاؤلًا بوعي زملائها من طلبة قسم الآثار، وتذكر نماذج مشرّفة مثل أسامة البلوشي الذي وثّق حارة «حجرة الشيخ» في وادي المعاول، وحميد الحضرمي الذي ركّز على حارة «الجناة» في سمائل. تقول: هذا الحراك يمنح الأمل، لكنه لا يزال غير كافٍ. هناك الكثير من الحارات التي لم تُدرس بعد، وتبقى عرضة للنسيان أو الهدم أو التحوير الجائر.

هوية شخصية.. وذاكرة لا تنفصل عن المكان

حين يُسأل الباحث عادة عن أثر المشروع عليه، يجيب غالبًا بجمل تقليدية. لكن حمدة المعمرية تجيب من صميم تجربتها: أنا بنت الحارات، هذه الأماكن تسكنني كما أسكنها. لم يكن البحث مجرّد تغيير في الرؤية، بل تعميقًا لفهمي، وتأكيدًا لانتمائي. الحارة ليست ماضيًا ندرسه، بل حاضرًا نعيشه، وجزءًا من هويتنا اليومية.

نحو أفق أوسع.. من الورقة إلى المنصة

لم يتوقف المشروع عند حدود التخرج، بل تحول إلى ورقة علمية شاركت بها الباحثة في مؤتمر دولي نظمته جامعة نزوى بعنوان «التراث والسياحة والآثار». ترى أن هذه المشاركة لم تكن مجرد عرض لنتائج البحث، بل منصة لنقاش أوسع حول توثيق الحارات العمانية، وتبادل الخبرات الأكاديمية في هذا المجال الحيوي.

دعوة مفتوحة: استمعوا للحارة قبل أن تصمت

تختم المعمرية حديثها بنداء موجه لزملائها من طلبة الجامعات: التاريخ المحلي ليس ترفًا، بل مسؤولية. يكفي أن تبدأ من حكاية يرويها جدك، من بيت قديم، أو من طريق تسير فيه كل يوم. ضع كاميرتك، سجّل، اسأل، ودوّن. هذه المرويات، إن لم نكتبها نحن، فلن تُكتب أبدًا.

مقالات مشابهة

  • زلزال تركيا .. طفلة تفارق الحياة رعبا و69 مصابا
  • الباحثة حمدة المعمرية تروي حكاية المكان بلغة الأثر والإنسان
  • وزيرة البيئة تناقش الأثر التشريعي لقانون المحميات الطبيعية
  • اللجنة التنسيقية لخميس الجسد - زحلة أطلقت شعار اليوبيل
  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • «ويبقى الأمل».. فيلم وثائقي عالمي يبرز إنسانية الإمارات في غزة
  • نبوءات ويتمان.. كيف تنبأ شاعر القرن الـ 19 بأمريكا العصر الحديث؟
  • تأثرت بمتغيرات الحياة.. الموسيقى العراقية من الأصالة إلى هز الأكتاف
  • “ويبقى الأمل”.. فيلم وثائقي عالمي يبرز إنسانية الإمارات في غزة
  • «ويبقى الأمل».. فيلم وثائقي عالمي يبرز إنسانية الإمارات في غزة