غزة– كجمرتين مشتعلتين تبدو عينا يوسف المصري، الذي لفظه الموت من بين فكيه حين فرّ من جنود الاحتلال الإسرائيلي بعد 5 أيامٍ من الاعتقال استخدموه فيها درعا بشريا.

تجوّلت الجزيرة نت بين الناجين من حصار شمال القطاع في مدرسة غزة الجديدة بحي النصر غربي مدينة غزة، التي وصل إليها المصري كأنه أفلت من شبحٍ يلاحقه بعد ساعات قضاها في الركض المتواصل، رغم إصابته في قدمه برصاصات أطلقتها عليه طائرة مسيرة.

يروي المصري للجزيرة نت، تفاصيل اعتقاله التي فضح وجهه وإنهاك جسده فداحتها، حيث كان نازحا في "مدرسة حمد" بجوار المستشفى الإندونيسي، لتحتجزه قوات الاحتلال بعد التحقيق معه معصوب العينين ومكبّل اليدين.

صور تظهر واقع حياة المواطنين الذين نزحوا من شمال القطاع إلى مدينة غزة (الجزيرة)

وكانت هذه القوات تدفع المصري دفعا نحو مدارس النازحين وتجبره على دخولها غرفة غرفة لتفقّد وجود مقاومين أو عتاد، "وبعد التأكد من خلو المدرسة من المقاومين والأسلحة كانوا يحرقونها كلها، حتى لا يعود الناس إليها" يقول المصري.

وبين مهمة وأخرى كانوا يعيدون عصب عينيه وتكبيل يديه، لكن أُذنيه كانتا مكشوفتين لتسمعا صرخات المئات من الفلسطينيين المعذّبين والمشبوحين تحت وطأة التحقيق الإسرائيلي.

قبيل الفرار ناداه الضابط الإسرائيلي، وسلمه مناشير (تهديدات ورقية) ليحملها إلى مستشفى كمال عدوان تطالب من فيه بالإخلاء، ليتمكن من الانخراط مع العشرات الذي أخلوا المستشفى بعد مدة والنجاح بالفرار معهم، لكن طائرة مُسيرة أطلقت النار عليه وأصابته في قدمه.

كان مع المصري مُتسع للخروج من المدرسة التي يأوي إليها قبل حصارها، لكنه برر عدم خروجه بقوله "نحن مدنيون ولا ملجأ لنا إن خرجنا، كما أن زوجتي كانت على مشارف وضع جنينها ولا تستطيع السير وحدها مع أطفالنا الخمسة".

يوسف المصري نجا من قبضة الاحتلال في شمال غزة بعدما استعمله الجيش الإسرائيلي كدرع بشري (الجزيرة) ولادة تحت الحصار

توجهت الجزيرة نت لزوجته أم عمر التي وضعت طفلتها خلال الحصار في مدرسة كانت تنزح فيها. وتقول أم عمر "في فصل دراسي وعلى الأرض بعد أسبوع من الحصار قامت سيدة بمساعدتي على وضع طفلتي، لقد قمت بأصعب ميلاد يمكن أن يمرّ على امرأة في العالم".

اكتفت أم عمر بالإدلاء بهذه المعلومات، رافضة استحضار تفاصيل ولادتها والخوض فيها لأنها تحاول جاهدة نسيانها، كما تقول.

قضت أم عمر بداية نفاسها وهي تحت وطأة الحصار، لم تتلق الطعام ولا الشراب ولا الرعاية المناسبة، وتقول "بعد أسبوع من ولادتي خرجتُ مع أطفالي الخمسة وحدنا، وتركتُ زوجي في الحفرة التي خصصها الاحتلال للرجال، كان الجندي يصرخ كلما حاول أبناؤه الاقتراب للبحث بين الرجال عن والدهم، ويقول "ورا ورا" (أي ابتعدوا للخلف)!

جيش بلا أخلاق

"أشوف شعرك يا حلوة" قال الجندي لأم عبيدة، وهو يحاول مدّ يده لمقدمة شعرها المنسابة من تحت حجابها، لتشيح بوجهها وتصرخ، ويصرخُ زوجها المكبّل من أعمق نقطةٍ في قلبه، فيضرب الجندي ببسطاره قدمه المصابة بشظية قذيفة أطلقها جنود الاحتلال قبل هجومهم على المدرسة.

يتجول الجنود بين السيدات المحتجزات في ساحة المدرسة ويقذفونهن بألفاظ نابية ويتشمتون بهن "مش بدكم حماس؟ خلي حماس تنقذكم!"، صرخت إحداهن بصوت أعلى من أصواتهم "لا إله إلا الله"، فاقترب منها أحدهم وقال "اخرسي بلاش أقتلك!".

تروي أم عبيدة هذه الشهادات للجزيرة نت، وعيناها تجوسان في الفراغ كأنها تصف مشهدا من فيلم رعب لن تتعافى منه كما تقول، "صارت طفلتي تبكي تريد ماء، طلبت من الجندي ماء وقد كان معهم كميات كبيرة منه، ليجيبني متهكّما: بعد يومين سأعطيكِ!".

أطفال ناجون من حصار شمال القطاع يتناولون الخبز الحاف كوجبة أساسية ووحيدة في أماكن نزوحهم الجديدة (الجزيرة) من الموت وإليه

كان الخروج من المدرسة بمثابة ولادة جديدة للسيدة النفساء ولزوجها المصاب الذي سار متكئا على كتفها وباليد الأخرى تحمل طفلتها وحقائبهم، وهما يسيران مشيا على الأقدام لأنهما لا يملكان مالا يدفعونه لركوب مواصلات تُقلّهم لوسَط المدينة.

جلست أم عبيدة في ممر تحت درج المدرسة، وهو المكان الذي وجدته فارغا فيها خاليا من النازحين، وفي حِجرها تحمل ابنتها التي تعاني من سوء التغذية والتي وصل وزنها إلى 7 كيلوغرامات، رغم أن عمرها يتجاوز العام.

وتقول "هربنا من الموت ولم نكن نفكر إلا بالنجاة منه، وحين وصلنا أدركنا أننا سنموت جوعا"، وتتابع "وصلنا صفر اليدين لا نملك شيئا، استلفت من الناس حولي فرشةً لثلاثتنا ومن شقيقتي حليبا وحفاضات".

 

قهرٌ مركب!

في الغرفة المجاورة ثمة مأتم، رجالٌ جلسوا على بابها صامتين، وفي الداخل نساء ينتحبن. استأذنت مراسلة الجزيرة نت بالدخول، حيث بدا أن السيدة المعنيّة بالتعازي هي تلك التي تلتف السيدات حولها، متشحةً بالسواد، يؤكد انتفاخ عينيها وشحوب وجهها أنها صاحبة المصاب.

لقد كان مصابا أكبر من فقد واحد، إنها قذيفة فتكت بأرواح 3 من أبنائها، فتاة وشابين.

بصوتٍ مرتجف، تروي أم محمود للجزيرة نت ما حدث معها وهي تحاول ابتلاع حزنها ودمعها، وتقول "نادت الطائرة المسيرة "الكواد كابتر" على من في مدرسة أبو راشد تمهلهم ساعة واحدة للإخلاء"، وتتابع "قمنا بتحضير حقائبنا وهممنا بالخروج، حتى وصلتُ إلى الساحة مع زوجي وأولادي الستة، حتى انهالت القذائف على ساحة المدرسة لتفتك بـ3 من أبنائي!".

طفلات نزحن من بين الدبابات وتحت زخات الرصاص مع والدتهن بعد احتجاز والدهن الذي انقطع الاتصال به منذ أيام (الجزيرة)

قصة من جُمل قليلة، لم يكن هذا هو السطر الأخير فيها، تكمل أم محمود "التفتَ إليّ زوجي وقال لي خذي باقي الأولاد واخرجي. كصاعقة نزل علي الأمر.. كيف تطلبُ مني أن أسير وأترك أشلاء قلبي ممزقة على الأرض!".

قذيفة أخرى وصرخ زوجها باكيا "أقول لك اخرجي الآن" دفعتاها للرضوخ، لفّ الرجل جثمان ابنته بسجادة وحملها مع جثامين ولديه على عربة تجرها الحيوانات حتى تمكن من الوصول إلى مستشفى كمال عدوان، وبينما كان يواريهم الثرى سلكت الزوجة طريق نزوحها على قدمين رخوتين بجسد يجره من نجا من أبنائها جرا، وقلبٍ مثخنٍ دُفن لتوه معهم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الجامعات للجزیرة نت أم عمر

إقرأ أيضاً:

خبيران للجزيرة نت: إسرائيل تجاوزت واشنطن وورطتها في التصعيد مع إيران

واشنطن- تواجه واشنطن موقفا معقدا بعد الضربات الجوية الإسرائيلية على منشآت في إيران، والتي نُفّذت دون تأكيد رسمي بوجود تنسيق مسبق مع الولايات المتحدة، رغم تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي توحي بعلم مسبق أو موافقة ضمنية.

وشنت إيران هجوما صاروخيا واسعا ردا على الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت منشآت داخل أراضيها، وهددت باستهداف قواعد عسكرية أميركية في الخليج والعراق وسوريا.

واكتفى ترامب في تصريحاته بالإشارة إلى أنه "أعطى مهلة 60 يوما لإيران" قبل تنفيذ الهجوم، دون أن يؤكد أو ينفي مشاركة بلاده. وهو ما يثير تساؤلات بشأن حقيقة دور الولايات المتحدة وحجم التنسيق، وحدود تأثير أميركا الفعلي في حليفتها الأبرز في المنطقة.

كما يرى محللون أن هذه التصريحات المتحفظة والغامضة تعكس حالة ارتباك داخل الإدارة الأميركية، التي تجد نفسها الآن بين شُبهة التواطؤ من جهة، والعجز عن ضبط شركائها من جهة أخرى.

علم دون تنسيق

في قراءة تحليلية لتصريحات ترامب، ترى باربارا سليفان، الخبيرة في السياسات الأميركية تجاه إيران ومديرة "مبادرة مستقبل إيران" السابقة في المجلس الأطلسي، أن ترامب تقدّم فعلا لإيران بمقترح دبلوماسي خلال الأسابيع الماضية، "لكنه تضمّن شرطا طالما رفضته طهران، وهو التخلي الكامل عن تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية، مما يجعله مقترحا غير مقبول".

إعلان

وتشير سليفان -في حديثها للجزيرة نت- إلى أن "ترامب ربما لم يمنح الضوء الأخضر رسميا، لكنه أيضا لم يمنع العملية، معتقدا أن الضربة ستدفع إيران للعودة إلى طاولات المفاوضات، لكن التطورات أظهرت العكس تماما". كما أكدت أن الولايات المتحدة كانت على علم بالعملية استنادا إلى قرار إجلاء الموظفين غير الأساسيين من بعض مواقعها في المنطقة قبل الضربة.

وجاء الهجوم الإسرائيلي قبل أيام من موعد كان من المرتقب فيه انطلاق جولة جديدة من المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران في سلطنة عُمان. حيث كان يسعى الجانب الأميركي إلى التوصل إلى اتفاق تفاوضي مع طهران بشأن برنامجها النووي، وهو ما تعارضه إسرائيل بشدة.

ويستبعد حافظ الغويل، كبير الباحثين في معهد الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن، أن تكون إسرائيل قد نسّقت مع واشنطن قصف إيران. ويقول "واشنطن اليوم في موقف لا تُحسد عليه، لقد تم إبلاغ أميركا مسبقا، لكن دون تنسيق فعلي، وأعتقد أن ترامب حاول إيقاف الضربة، لكنه لم ينجح".

ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن "إسرائيل ورّطت واشنطن في التصعيد العسكري ووضعتها أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاعتراف أنها كانت على علم وموافقة، مما يعني أنها كانت تتفاوض بسوء نية، أو القول إنها لم تكن موافقة وتظهر بموقف الدولة العاجزة عن التأثير في أقرب حلفائها".

وزير الخارجية ماركو روبيو: شنت إسرائيل الليلة هجومًا أحاديًا ضد إيران. لم نشارك في هذه الضربات، وأولويتنا القصوى هي حماية القوات الأمريكية في المنطقة. وقد أبلغتنا إسرائيل بأنها ترى أن هذا الإجراء ضروري للدفاع عن النفس.
الرئيس ترامب والإدارة اتخذوا جميع الخطوات اللازمة لحماية…

— الخارجية الأمريكية (@USAbilAraby) June 13, 2025

"لم تعد ممكنة"

وهددت إيران باستهداف قواعد أميركية ردّا على ما تعتبره "تورطا أميركيا في العدوان". وقال المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني إن "القواعد الأميركية لن تكون في مأمن".

إعلان

وفي السياق ذاته، رفعت وزارة الدفاع الأميركية مستوى التأهب في قواتها بالمنطقة تحسبا لأي رد إيراني موسّع، ودفعت بتعزيزات بحرية إلى مناطق إستراتيجية بالخليج وعززت أنظمة الدفاع الجوي في قواعدها العسكرية بالعراق وسوريا.

وبشأن آفاق الحوار الأميركي الإيراني، ترى الخبيرة سليفان أن فرص استئناف أي مسار تفاوضي صارت "شبه معدومة" في ظل استمرار التصعيد العسكري بين الطرفين الإسرائيلي والإيراني من جانب، والتمسك الأميركي بمطالب وقف تخصيب اليورانيوم بالكامل، من جانب آخر.

وتضيف "نتنياهو تصرّف وكأنها الفرصة الوحيدة لضرب إيران على نطاق واسع، والآن علينا جميعا أن نتحمّل العواقب".

وعن تأثير الهجوم على علاقات أميركا بحلفائها الإقليميين خاصة دول الخليج، تقول "لا شك أن دول الخليج قلقة للغاية من هذا التصعيد، لأنه يقوّض كل خططها التنموية ويهدد جاذبيتها الاقتصادية"، وتضيف "من سيغامر اليوم بإطلاق استثمارات جديدة في المنطقة؟".

من جهته، يحذّر الغويل من أن "إسرائيل بهذه الخطوة تجر الولايات المتحدة جرّا نحو الحرب، وسحبت البساط من تحت جهودها الدبلوماسية، وتضع واشنطن في مأزق إستراتيجي يتزامن مع اقتراب استحقاقات انتخابية داخلية. وقال إن واشنطن تواجه الآن تبعات مباشرة لتحرك لم تكن مستعدة لتحمّل كلفته.

الخطوة التالية

وفي ظل تصاعد التوتر بين طهران وتل أبيب، تجد الإدارة الأميركية نفسها مطالبة باتخاذ موقف واضح من التصعيد، وسط انقسام داخلي بين تيارات تدعو إلى التهدئة، وأخرى تضغط من أجل دعم غير مشروط لإسرائيل.

ورغم أن ترامب لم يعلن موقفا حاسما بعد الضربة، فإن محللين يرون أنه يفضّل إبقاء واشنطن في موقع المناورة من دون الانخراط المباشر في مواجهة مفتوحة مع إيران.

ويرى الغويل أن أي خطوة أميركية مقبلة ستكون محكومة باعتبارات انتخابية داخلية، حيث "يسعى ترامب إلى تجنب الغرق في نزاع جديد قد يورّطه أمام قاعدته الانتخابية التي دعمته على أساس وعود بإنهاء الحروب في المنطقة وليس الانخراط في نزاعات جديدة".

إعلان

وبحسب التقديرات الأمنية، فإن أي رد إيراني مباشر أو موسّع قد يدفع واشنطن إلى إعادة تقييم تموضعها العسكري في المنطقة، وربما نشر مزيد من التعزيزات لحماية المصالح الأميركية وقواعدها المنتشرة في الخليج والعراق وسوريا.

مقالات مشابهة

  • شهادات للجزيرة نت من قافلة الكرامة اللبنانية لكسر حصار غزة
  • مسعفون بغزة يروون معاناتهم تحت القصف الإسرائيلي
  • حصار وتهديد بالسلاح واعتداءات.. شهادات من قلب قافلة الصمود عن ليلتين في سرت
  • حصار وتهديد بالسلاح واعتداءات.. شهادات من قلب #قافلة_الصمود عن ليلتين في سرت
  • خبيران للجزيرة نت: إسرائيل تجاوزت واشنطن وورطتها في التصعيد مع إيران
  • خبراء يقيّمون للجزيرة نت موقف حزب الله من قصف إسرائيل لإيران
  • "لقمة مغمسة بالدماء"... فلسطينيون يروون معاناتهم في الحصول على المساعدات من مؤسسة "غزة الإنسانية"
  • مفوض شرطة أحمد آباد: لا ناجون من الطائرة الهندية المحطمة
  • فيضانات مروعة تضرب جنوب إفريقيا.. 49 قتيلاً وضحايا تحت الأنقاض
  • مشاهد مروعة من حادث الطائرة الهندية المنكوبة