وسط تخاذل دولي مستمر ودعم أمريكي مطلق، تستخدم إسرائيل بروتوكولات عسكرية عديدة في قطاع غزة، ورغم اختلاف أسمائها إلا أن هدفها واحد، وهو الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

 

البعوض، الدبور، الضاحية، الحزام الناري، هانيبال.. أسماء بروتوكولات عسكرية يستخدمها الجيش الإسرائيلي بشكل متكرر في غزة منذ اندلاع حرب الإبادة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

 

هذه الإبادة أسفرت حتى الآن عن أكثر من 143 ألف و500 قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.

 

وتواصل تل أبيب الإبادة، متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بإنهاء الحرب فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي في غزة.

 

** البعوض

 

رغم حظر القانون الدولي استخدام مدنيين دروعا بشرية أو إجبارهم على المشاركة في الحروب، إلا أن الجيش الإسرائيلي تدرّع بمدنيين فلسطينيين في غزة اعتقلهم أثناء الحرب، لدخول أماكن "يُحتمل أن تكون مفخخة".

 

واعترف جندي إسرائيلي، في حديث لقناة "سي إن إن" الأمريكية، باستخدام الجيش "بروتوكول البعوض" في القطاع، وقال إنه "يعد ممارسة شائعة بين القوات الإسرائيلية في غزة".

 

وأوضح الجندي، في 24 أكتوبر الجاري، أنه أثناء خدمته العسكرية "أحضر ضابط إسرائيلي كبير فلسطينيين محتجزين عمرهما 16 و20 عاما، وطلب من الجنود استخدامهما دروعا بشرية قبل دخول المباني".

 

اتهام الجندي الإسرائيلي لجيشه أكده، حسب القناة، الفلسطينيان محمد شبير (16 عاما) ومحمد سعد (20 عاما)، وهما المحتجزان اللذان استخدمهما الجنود دروعا بشرية.

 

ولم تكن هذه المرة الأولى التي توثق فيها وسائل إعلام استخدام "بروتوكول البعوض" في غزة، ففي 12 أكتوبر الجاري، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن جنود ومسؤولين إسرائيليين إن الجيش استخدم فلسطينيين دروعا بشرية.

 

وأكدت الصحيفة أن "ما لا يقل عن 11 فريقا، مكونا من جنود وعناصر مخابرات إسرائيليين، استخدموا فلسطينيين دروعا بشرية في 5 مدن بقطاع غزة".

 

وبعد 5 أيام من نشره، وصفت الولايات المتحدة في 17 أكتوبر الجاري الوقائع الواردة في تقرير الصحيفة "إن كانت صحيحة"، بأنها "مزعجة للغاية وغير مقبولة على الإطلاق".

 

وقال متحدث الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، الذي تدعم بلاده حرب الإبادة في غزة، إن واشنطن ترى أن تحقيق السلطات الإسرائيلية في هذه الادعاءات "مناسب تماما".

 

** الدبور

 

استخدام المدنيين دروعا بشرية شمل أيضا "أفرادا أو معتقلين" فلسطينيين نقلهم الجيش الإسرائيلي إلى داخل غزة، لإجبارهم على أداء مهام خطيرة لا يمكن للعسكريين تنفيذها، ويُطلق على هذه العمليات اسم "بروتوكول الدبور".

 

وقالت وسائل إعلام أمريكية، بينها "نيويورك تايمز" في 16 أكتوبر الجاري، إن "بروتوكول الدبور” يشير غالبا إلى أسرى "فلسطينيين جلبهم ضباط المخابرات الإسرائيلية إلى غزة من داخل إسرائيل لأداء مهام قصيرة ومحددة".

 

وعقب يومين من تقرير للصحيفة، حذّر رئيس هيئة شؤون الأسرى الفلسطينيين (حكومية) قدورة فارس من الخطر المحدق بحياة آلاف المعتقلين في سجون إسرائيل، وأنهم معرضون للموت بسبب انتهاكات عديدة بحقهم.

 

واتهم فارس الجيش الإسرائيلي بـ"استخدام أسرى فلسطينيين دروعا بشرية تمهيدا لقتلهم حتى تدفن قصصهم معهم"، واصفا هذا الانتهاك بأنه "عمل غير أخلاقي من الدرجة الأولى".

 

ومنذ 7 أكتوبر 2023، تجاوزت حصيلة المعتقلين 11 ألفا و400 فلسطيني من الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وفق مؤسسات الأسرى، فيما تغيب أرقام دقيقة عن الأسرى من غزة بسبب تعتيم وإخفاء قسري إسرائيلي.

 

ورغم توثيق استخدام إسرائيل بروتوكولي "البعوض" و"الدبور" خلال حرب الإبادة في غزة، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين ينفون صحة التقارير عن استخدامهما، ويعتبرونها "ادعاءات كاذبة" و"حالات فردية لا تمثل الجيش".

 

وزعم متحدث الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي، في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز" يوم 2 يوليو/تموز الماضي، أنه عندما يرتكب جنود إسرائيليون انتهاكات جسيمة بحق مدنيين فلسطينيين يتم التحقيق معهم وتُتخذ بحقهم إجراءات.

 

** الضاحية

 

ولتعزيز الإبادة الجماعية والتدمير على نطاق واسع تستخدم إسرائيل في غزة برتوكولا عسكريا إضافيا هو "الضاحية".

 

ويعني هذا البروتوكول استخدام القوة المفرطة وقتل المدنيين وتدمير البنية التحتية للضغط على المقاتلين الفلسطينيين لقلب موازين الحرب.

 

وللمرة الأولى طبقت إسرائيل هذا البروتوكول خلال الحرب على لبنان عام 2006، واشتقت اسمه من الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، التي تضم مقار "حزب الله"، ثم أصبحت تستعمله في حروبها اللاحقة بغزة والضفة الغربية.

 

وحتى منتصف 2024، قُدر دمار البنية الحضرية والمساكن في محافظة غزة بنسبة 80 بالمئة والبنية التحتية 90 بالمئة.

 

فيما قدُر دمار البنية الحضرية والمساكن بمحافظة شمال غزة بنسبة 95 بالمئة والبنية التحتية 100 بالمئة، حسب أرقام الأمم المتحدة.

 

** الحزام الناري

 

بموازاة بروتوكول "الضاحية"، الذي تزعم إسرائيل أنه "تكتيك مشروع يساعدها لردع هجمات مستقبلية ضدها"، استخدم الجيش بروتوكولا شبيه الأثر يشتهر في الإعلام بـ"الحزام الناري".

 

ويعرّف منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي "الحزام الناري" بأنه "غارات متزامنة مكثّفة وقوية على أهداف عدة بالمنطقة نفسها لتضييق الخناق على الطرف المعادي والحد من قدرته على الرد"، وفق هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).

 

وأضافت الهيئة، في 23 أكتوبر الجاري، أن إسرائيل تستخدم البروتوكول ضد المقاتلين والتجهيزات العسكرية والمباني الاستراتيجية، لتمهيد الطريق أمام قواتها البرية أو أسلوب تضليل لتشتيت الانتباه.

 

وأكد استخدام البروتوكول اتباع الجيش الإسرائيلي الأسلوب نفسه لأكثر من عام في مناطق عدة بقطاع غزة، أحدثها ما أعلن عنه متحدث الدفاع المدني في غزة محمود بصل في 20 أكتوبر الجاري.

 

وقال بصل، في بيان، إن "قوات الاحتلال الإسرائيلي استهدفت بحزام ناري مربعا سكنيا في مشروع بيت لاهيا (شمال)، ما أسفر عن 73 شهيدا، وعشرات الجرحى والمفقودين".

 

وهو ما أكده أيضا الناشط حسام أبو ريا، لبودكاست "غزة اليوم" في "بي بي سي" يوم 6 يوليو/ تموز الماضي، بقوله: "صُدمت عندما رأيت الحزام الناري، بيتي أمامي ولا أستطيع الوصول إليه".

 

** هانيبال

 

بروتوكولات إسرائيل في حرب الإبادة على غزة شملت أيضا تعمدها ضرب آسرين فلسطينيين بالأسلحة الثقيلة، حتى لو أدى ذلك لمقتل أسرى إسرائيليين، وهو ما يعرف باسم "بروتوكول هانيبال".

 

هذا البروتوكول جرى اعتماده رسميا عام 2006، وعاد للواجهة بعد أسر فصائل فلسطينية عشرات الإسرائيليين، بينهم عسكريون برتب رفيعة، خلال عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023.

 

وفي 10 أكتوبر الجاري، قال الصحفي الأمريكي ماكس بلومنثال للأناضول: "لم يتطرق الإعلام الغربي لأوامر إسرائيل في 7 أكتوبر بقتل مواطنيها وجنودها الذين احتُجزوا رهائن، والمعروفة ببروتوكول هانيبال".

 

واتهم تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، في 12 يونيو/حزيران الماضي، الجيش الإسرائيلي باستخدام "بروتوكول هانيبال" مرات عدة في غزة.

 

وأشار التقرير إلى ادعاءات بـ"استخدام بروتوكول هانيبال" في موقع احتفال "نوفا" بمحاذاة غزة في 7 أكتوبر 2023، تشير إلى "إطلاق مروحيات تابعة لإسرائيل النار على سيارات مدنية، ما أدى إلى مقتل إسرائيليين".

 

وفي اليوم نفسه، قصفت دبابة إسرائيلية منزل مستوطن في مستوطنة "بئيري" بمحاذاة غزة، ما أدى إلى مقتل إسرائيليين، وفق تقرير لصحيفة "هآرتس" العبرية في 8 يناير/كانون الثاني الماضي.

 

وكشفت حينها تقارير إعلامية عبرية أن الجيش "أطلق قذيفة دبابة على منزل عائلة إسرائيلية، أثناء احتجازها من قبل مسلحين فلسطينيين، يوم 7 أكتوبر، ما أدى إلى مقتل المسلحين و12 إسرائيليا".

 

وكالمعتاد، تصر الحكومة الإسرائيلية على تكذيب جميع الاتهامات باستخدام البروتوكول، ووصفت في 15 يونيو الماضي، اللجنة التي أعدت التقرير الأممي بأنها "منحازة وملوثة بأجندة واضحة معادية لإسرائيل".

 

** بروتوكولات مقصودة

 

البروتوكولات العسكرية المعلنة وغير المعلنة، التي تستخدمها إسرائيل للإبادة الجماعية في غزة، تؤكد أحاديث عسكريين ومسؤولين إسرائيليين أنها مقصودة وتوافق رؤية تل أبيب.

 

في 14 أغسطس/آب الماضي، نقلت "هآرتس" عن جندي إسرائيلي في غزة إن قادته قالوا إن استخدام الفلسطينيين دروعا بشرية يعود لـ"نقص الكلاب المدربة التي قُتل كثير منها أو أصيب في الحرب أو سرّح من الخدمة".

 

وعقب أيام من اندلاع الحرب، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في 10 أكتوبر 2023، سكان قطاع غزة بـ"الحيوانات البشرية"، ما يُظهر دوافع ورؤية إسرائيل لاستخدام المدنيين في بروتوكولي "البعوض" و"الدبور".

 

أما بروتوكولات "الضاحية" و"الحزام الناري" و"هانيبال"، التي تستخدم الأسلحة الثقيلة أيا كانت النتائج على سكان غزة والموجودين فيها، وبينهم الأسرى الإسرائيليين، فتدعمها حرب الإبادة الجارية، بالإضافة إلى تصريحات إسرائيلية كثيرة.

 

وبعد أيام من اندلاع الحرب، قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ، في 12 أكتوبر 2023، إن "سكان غزة يستحقون العقاب الجماعي الذي يتعرضون له، لأنهم مناصرون لحركة حماس".

 

فيما دعا وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلى "ضرب غزة بقنبلة نووية"، مؤكدا أنه "يجب إبادة القطاع وإقامة مستوطنات إسرائيلية فيه".

 

وكشفت فصائل المقاومة في غزة وتحقيقات عديدة مقتل أسرى إسرائيليين بسبب القصف العنيف العشوائي الذي يشنه الجيش الإسرائيلي على غزة، حتى أن أهالي الأسرى اتهموا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "بالتخلي عن أبنائهم".


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: فلسطینیین دروعا بشریة الجیش الإسرائیلی بروتوکول هانیبال أکتوبر الجاری الحزام الناری حرب الإبادة فی 7 أکتوبر أکتوبر 2023 فی غزة

إقرأ أيضاً:

الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور

 

في عالم باتت فيه الكلمة تُصاغ بمداد القوة، لا بالحقيقة، تتحول الكارثة الإنسانية في غزة إلى مشهد رمزي يكشف زيف النظام الدولي، وانهيار القيم التي طالما تباهى بها الغرب: حقوق الإنسان، القانون الدولي، العدالة. إذ بينما تمطر الطائرات «الإسرائيلية»، بدعم عسكري أميركي وأوروبي سافر، أحياء غزة بالصواريخ، تُرسل بعض الدول الغربية -بمنتهى النفاق- شاحنات طحين عبر مؤسسات دولية، محكومة ببطاقات عبور، إلى أولئك الذين نجوا من المجازر إلى حين.

إنّ المعضلة هنا ليست فقط في التواطؤ، بل في التأسيس لمنظومة إبادة جديدة، لا تتجلى فقط في أدوات القتل، بل في أدوات «المساعدة». لقد تحوّل الطحين إلى أداة سياسية بامتياز، يُوزّع بحذر شديد، ويُقرَّر من يستحقه ومن يُترك للجوع، كل ذلك تحت شعارات «العمل الإنساني»، في الوقت الذي تتكدّس فيه مخازن الأسلحة الأميركية في قلب فلسطين المحتلة، ويُمرَّر الدعم العسكري تحت بند «الدفاع المشروع عن النفس».

التجويع.. من الإبادة الصامتة إلى أداة الضبط الجيوسياسي

منذ بداية الحرب على غزة، كان من الواضح أنّ «إسرائيل» لا تستهدف المقاومة الفلسطينية فحسب، بل تخوض حربًا شاملة على المجتمع الفلسطيني، بكل مكوّناته. والغرب، بدلاً من أن يلجم هذا السعار الدموي، يزوده بكل ما يحتاجه للاستمرار: الغطاء السياسي، الدعم المالي، والمعدّات العسكرية.

لكنّ أخطر ما في هذا المشهد، هو «إدارة التجويع» بوصفها شكلاً متقدماً من الحرب النفسية والاجتماعية. لم تعد المجازر وحدها كافية لتروي عطش «المؤسسة الأمنية الإسرائيلية»، بل بات المطلوب تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني بالكامل، عبر إيصاله إلى حافة الانهيار البيولوجي، ثم تقديم فتات المعونة بوصفه منّة دولية مشروطة.

في هذا السياق، لم تعد المساعدات تُرسل لرفع المجاعة، بل لضبطها. يُراد للموت ألا يكون شاملًا، بل انتقائيًا، منظّمًا، يمكن التحكم بإيقاعه ومساحته، بحيث يُبقي على غزة على قيد الحياة، بالكاد.

الطحين المشروط.. »الهولوكوست المدني« بنسخة ناعمة

حين يُمنح الفلسطيني في غزة كيس طحين فقط بعد أن يتعرض لإذلال مرير، ويُطلب منه السير لكيلومترات ما بين الركام، وتحت تهديد القنص، للوصول إلى مركز توزيع تسيطر عليه «إسرائيل» أمنياً، فهذا ليس «إغاثة»، بل نموذج دقيق لـ»الهولوكوست المدني» بنسخته الحديثة: لا غرف غاز، بل حفر رملية (الجورة) يُنتظر فيها «إذن الحياة».

هذا النموذج يُدار تحت شعار الإنسانية. ولكن أيّ إنسانية تلك التي تُرشد طائرات الاستطلاع الغربية، والطائرات «الإسرائيلية»، جموع الجياع نحو مركز الإعدام؟ وأي عدالة حين يُستشهد العشرات أثناء انتظارهم للغذاء، بينما لا يُحاسب أحد؟

إنّ ما يُسمّى بـ»الإنزال الجوي للمساعدات» ليس سوى صورة فاقعة من صور التواطؤ بين آلة القتل «الإسرائيلية» والهيئات الدولية التي ارتضت أن تتحوّل من أدوات إنقاذ إلى أدوات تلميع. فالاحتلال، الذي أغلق المعابر، ودمّر البنية التحتية الصحية، وجرّد مليونَي إنسان من شروط الحياة الأساسية، يدّعي فجأةً أن له دورًا «إنسانيًا» في إسقاط عُلب غذاء من السماء. هذا الفعل، بحد ذاته، يُعيد إنتاج منطق الاستعمار الخيري: الجلّاد يلبس قناع المُنقذ، في الوقت الذي يُمسك فيه بخنجر الحصار في يده الأخرى. لا يكفي أن نُدين محدودية المساعدات أو انعدام فعاليتها، بل علينا أن نُفكك بنيتها السياسية، لأنها لم تأتِ خارج سياق الإبادة، بل كجزء منها. فهي لا تعالج الجوع، بل تُديره. لا تنهي الحصار، بل تُعطيه شكلاً مقبولًا في أعين المتفرجين. إنها ليست خطّة طوارئ، بل سياسة ممنهجة لإبقاء القطاع تحت السقف الأدنى للحياة، بما يسمح باستمرار المشروع الاستيطاني دون حرج أخلاقي أمام الكاميرات.

الغرب الرسمي.. ديمقراطيات تموّل المجازر وتكتب بيانات إنسانية

الدول الغربية تعرف، بكل تفاصيلها، ما يجري في غزة. ليس لأنّ الفلسطينيين أو الإعلام المستقل يبلّغونهم، بل لأنّ طائراتهم وجنرالاتهم وخبراء أمنهم موجودون في الميدان. هم لا يجهلون الإبادة، بل يديرونها.

وحين تصدر بيانات من الاتحاد الأوروبي تدعو إلى «تحسين الوضع الإنساني» في غزة، أو تُفرض عقوبات شكلية على وزراء من أمثال بن غفير وسموتريتش، فإنّ الغرض ليس وقف الجريمة، بل التخفيف من ثقلها الأخلاقي على الرأي العام الغربي، الذي قد يستفيق للحظة. لكنّ هذه العقوبات، كما في العراق سابقًا، لا تُفرض على الدولة المعتدية، بل على هوامشها، ولا تمسّ جوهر المشروع: التجويع المُمنهج كسلاح شرعي.

وفي المحصلة، يُعاد تعريف القانون الدولي ليخدم بنية الهيمنة: ما يُعدّ «جريمة حرب» في أوكرانيا، يُصبح «تكتيكًا عسكريًا مشروعًا» في غزة. أما محكمة العدل الدولية، فتبقى أداة انتقائية لا تصمد أمام «الفيتو الأخلاقي» الأميركي.

الغذاء كسلاح استعماري.. التاريخ يعيد إنتاج نفسه

ليس ما يجري في غزة استثناءً، بل استمرارٌ لنمطٍ إمبريالي مألوف، حيث يُستبدل القصف بالتجويع، وتُغلف الإبادة بورقٍ إنساني مصقول. لقد فعلها الغرب والأمريكيون من قبل في العراق، حين أُخضِعَ شعبٌ بأكمله لحصارٍ دمّر البنية التحتية الصحية والتعليمية، وقُدّرت آثاره بمقتل نصف مليون طفل، وهو رقمٌ وصفته وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت آنذاك بأنه «ثمنٌ مستحق». وفي السودان، جُعل الغذاء مشروطًا بالولاء السياسي، وغُذّيت الانقسامات الداخلية عبر تجويف المجتمعات من الداخل. في كل مرة، يظهر الغرب كمن «يحاول المساعدة»، بينما يُبقي يده على صمّام الحياة، يفتحه ويُغلقه حسب مصالحه الجيوسياسية. فالتجويع ليس خللًا طارئًا، بل أداة متعمدة لإخضاع الشعوب وتفكيك قدرتها على الصمود والمقاومة.

الصمت العربي.. تواطؤ يشرعن الجريمة

وفي مواجهة هذا المشروع، تبدو الأنظمة العربية -خصوصًا الدول ذات الوزن الجغرافي كالسعودية ومصر والأردن- عاجزة أو متواطئة. القرارات الصادرة عن القمم الإسلامية والعربية بقيت حبرًا على ورق. لماذا؟ لأنّ المعضلة ليست في عدم القدرة على إرسال المساعدات، بل في الخوف من كسر التوازنات التي تُبقي هذه الأنظمة آمنة تحت المظلة الأميركية.

إنّ المساعدات تكدّست على الجانب المصري من الحدود، لا لأنّ مصر غير قادرة على إدخالها، بل لأنها لا تملك الإرادة السياسية لمواجهة ما يُعتبر «الخط الأحمر الإسرائيلي-الأميركي». وهذا الصمت، أخطر من القصف، فهو يمنح الإبادة شرعية عربية، يُوظّفها الغرب في خطاباته ليقول: «حتى العرب لا يعارضون ما يحدث».

بين الطحين والسلاح.. الغرب يُعرّي ذاته

لقد بات واضحًا أنّ الغرب، في صيغته الحالية، لا يمثل نموذجًا أخلاقيًا ولا مرجعية قانونية. إنه تحالف سلطوي، يُعيد إنتاج الهيمنة بأشكال متجددة. يُسلّح «إسرائيل» بأحدث أدوات القتل، ثم يُرسل الطحين على دفعات، محكومًا ببطاقات عبور، كي يبقي على الفلسطينيين في مستوى الصراع الأدنى: صراع البقاء لا التحرير.

لكنّ التاريخ لا يُكتب فقط من غرف مجلس الأمن، بل من الساحات. وإذا كان الغرب قد نجح في تحويل غزة إلى مختبر للإبادة، فإنّ ما بعد غزة، سيكون اختبارًا حقيقيًا للشعوب، لا للحكومات.

فما لا تستطيع الدول قوله، يجب أن تقوله الشعوب. وما لا تجرؤ الأنظمة على فعله، يجب أن يفعله الناس. وإلا فإنّ الطحين سيظل يُرسل ببطاقات عبور، فيما السلاح يُمنح بلا حساب، وتُكتب النكبة مجددًا باسم الإنسانية.

كاتب صحفي فلسطيني

 

مقالات مشابهة

  • عاجل | وزير الدفاع الإسرائيلي: الجيش يهاجم بنى تحتية لحزب الله في لبنان
  • ماذا استهدف الجيش الإسرائيلي في غاراته على البقاع والجنوب؟
  • الاحتلال الإسرائيلي أمام اتهامات بالإبادة الجماعية في غزة.. أدلة متزايدة ورفض رسمي
  • إصابة رضيعة بالاختناق واعتقال 8 فلسطينيين خلال اقتحام العدو الإسرائيلي عدة مناطق في الخليل
  • انتهاء عربات جدعون - الجيش الإسرائيلي يسحب عدة ألوية من قطاع غزة
  • الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور
  • الجيش الإسرائيلي يستدعي 54 ألف شاب من الحريديم ويفاقم أزمة داخلية
  • الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة من اليمن
  • الجيش الإسرائيلي: اعتراض صاروخ أطلق من اليمن (فيديو)
  • وزير الجيش الإسرائيلي: هدفنا هو دحر حماس سلطويا وعسكريا