عندما يقدم المخرج الأمريكى، البريطانى الأصل كريستوفر نولان (1970) فيلماً جديداً، فذلك حدث فنى مهم ينتظره النقاد قبل المشاهدين.. ومنذ أن قدم أول أفلامه (تتبع- 1998) حتى فيلمه الأخير أوبنهايمر وهو رقم (12) فى سلسلة أعماله، تحظى أفلام نولان بتقدير خاص لأنه يصنع أفلامه بتقدير خاص أيضا لفن السينما.. والجمهور!
ويعود نولان مع فيلمه الجديد «أوبنهايمر» إلى تقديم بطل خارق مثلما قدم «باتمان» فى ثلاثيته الشهيرة «فارس الظلام»، والتى تعتبر أعمق وأجمل ما تم صناعته عن البطل الكرتونى باتمان، ولكن بطله هذه المرة «أوبنهايمر» حقيقى من لحم ودم ومشاعر وفكر وهو بطل خارق العقل وليس الجسد مثل باتمان، بل ويعانى من ضعف نفسى وإنسانى.
وكالعادة يثير نولان النقاشات ويثير الخلافات كما لو أنه أبدع كتاباً سياسياً وفكرياً وليس مجرد فيلم للتسلية والترفيه، ولكن هكذا هى دائمًا أفلام «نولان» تتميز غالباً برؤية اجتماعية وفلسفية وأخلاقية وجمالية لا تخلو من غموض كذلك!
ولهذا يستحق الفيلم تحمّل مشاهدته لمدة ثلاث ساعات متواصلة بدون الشعور بالملل.. والاستمتاع بقصة حياة «جوليوس روبرت أوبنهايمر»، والذى لعب الممثل البريطانى «كليان مورفي» دوره وسط مجموعة رائعة من الممثلين الكبار.. وأوبنهايمر فيزيائى معروف باسم «أبوالقنبلة الذرية» الذى تمكن من صناعتها فى المختبر السرى فى لوس ألاموس (Los Alamos)، بولاية نيومكسيكو الأمريكية تحت مظلة الجيش الأمريكى وتمويله، حيث أشرف على مشروع مانهاتن، حتى تمت صناعة قنبلتين ذريتين عرفتا باسم الولد الصغير (Little Boy) والرجل البدين ( Fat Man ) اللتين ألقيتا ما بين يومى 6 و9 أغسطس 1945 على كل من هيروشيما وناجازاكى فى اليابان متسببتين فى مقتل ما بين 100 و200 ألف شخص فى لحظات!
وينقسم الفيلم تقريباً إلى جزءين: الأول خاص بتأريخ مشروع منهاتن حتى صناعة القنابل، والثانى ما بعد إلقائهما على اليابان حيث شعور «أوبنهايمر» بالمأساة التى ارتكبها حتى أنه وصف نفسه فيما بعد فى فيلم وثائقي: «الآن أصبحت أنا الموت... مدمر العوالم»، وقد ضاعف من هذه المأساة الإذلال فى المحاكمة التى تعرض لها من الإدارة الامريكية واتهامه بالشيوعية خاصة أنه ألمانى ويهودى الأصل!
الفيلم تعرض كذلك للنقد من ناحية تقزيم دور المرأة فى مشروع منهاتن، وقد تمثل ذلك فى زوجة اوبنهايمر «كيتي»، التى جسدتها إميلى بلانت كامرأة عصبية وحادة المزاج وسكيرة بينما هى عالمة أحياء.. وعموما هناك مشكلة حقيقية فى تناول نولان للمرأة فى الكثير من أفلامه!
كان «أوبنهايمير» ضحية مثله مثل ضحايا قنبلته فى اليابان.. ضحية للإدارة الأمريكية الذى استخدمته فى تخويف العالم منها، وفرض سيطرتها عليه، كقوة بديلة عن الاستعمار الإنجليزى والفرنسى القديمين، وإظهار تفوقها العسكرى فى مواجهة قوة الاتحاد السوفيتى.. والحقيقة أن «أوبنهايمر» عند كريستوفر نولان كان نموذجاً للعالم كله الذى راح ضحية للصراع الدموى بين أمريكا الاتحاد السوفيتى.. وكأن الفيلم جرس إنذار لما سيكون عليه العالم فى الصراع القادم بين أمريكا والصين!
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أوبنهايمر كريستوفر باتمان
إقرأ أيضاً:
العداء الإثيوبي.. والصبر المصرى
تواجه إثيوبيا مشاكل وتحديات كبيرة تهدد وحدتها نتيجة الصراعات العرقية والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وكلما زادت الضغوط على الحكومة الإثيوبية والمخاوف من تفكك الاتحاد الفيدرالى الإثيوبي، تذهب الحكومة الإثيوبية إلى خلق مشكلة أو نزاع خارجى لشغل الرأى العام الإثيوبي عن مشاكله الداخلية من خلال تصريحات وخطابات عدائية مع الدول المجاورة، فى تناقض شديد للواقع الذى بدحض كل مزاعم إثيوبيا المضللة، ويؤكد اعتداءها على سيادة الدول ومخالفة كل قرارات الشرعية الدولية، وتزعزع الأمن فى منطقة القرن الافريقى، بداية من الاعتداء على دولة الصومال واحتلال ميناء بربرة على البحر الأحمر من خلال اتفاق غير شرعى مع الانفصاليين فى شمال الصومال مقابل اعتراف إثيوبيا للانفصاليين باستقلال هذا الاقليم فى خطوة شكلت انتهاكا لسيادة دولة ورفضها المجتمع الدولى والمنظمات الأممية وأدانتها جامعة الدول العربية، وتكرر الأمر نفسه مع الجارة اريتريا فى تصعيد إثيوبي جديد لدولة أخرى بهدف الحصول على منفذ بحرى بالقوة وعلى حساب سيادة الدول، وهو النهج نفسه الذى تتخذه إثيوبيا مع دول حوض النيل فى محاولة فرض أمر واقع مخالف للشرعية الدولية.
الأسابيع الأخيرة شهدت حملة عداء وتصعيدًا إثيوبيا ضد مصر، ومزاعم ومغالطات وصلت إلى حد إنكار اتفاقيات النيل عام 1920، 1929، وباقى الاتفاقيات الدولية التى تحفظ حقوق مصر التاريخية فى مياه النيل.. هذه الحملة الإثيوبية الممنهجة لم تأتِ من فراغ وإنما لأسباب جوهرية يأتى على رأسها انهيار الحلم الإثيوبي فى النهضة الشاملة جراء إنشاء هذا السد الذى روجت له واعتبرته مشروع القرن لتحويل إثيوبيا إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبرى والخلاص من كل مشاكلها وخدعت الشعب الإثيوبي بالمساهمة فى إنشاء السد رغم ظروفه الاقتصادية الصعبة، وبعد مرور 15 عامًا على إنشاء السد وافتتاحه رسميًا، فاق الشعب الإثيوبي على صدمة كبيرة، وواقع أليم لم يتغير وحالة اقتصادية أكثر سوءًا.. الأمر الثانى الذى كشف الواقع الإثيوبي المذرى كان حالة الصبر المصرى اللامحدود فى المسار التفاوضى لسنوات رغم التلاعب الإثيوبي والهروب من التوقيع على اتفاق قانونى بشأن الجوانب الفنية وتشغيل السد، لتأتى المفاجأة بفشل إثيوبيا فى تشغيل السد بعد تعطل معظم التربونات عن العمل، واضطرار إثيوبيا لتصريف المياه بصورة عشوائية وبكميات هائلة بعد أن شكلت خطورة على جسم السد، وأدى الأمر إلى خسائر كبيرة فى السودان وتهديد مصر، وهو ما سبق أن حذرت منه مصر وكشفه الواقع والتجربة.
الحقيقة أن إثيوبيا فى مزنق شديد ما بين مطرقة الواقع فى فشل إدارة وتشغيل السد، وسندان مخالفة قرارات الشرعية الدولية بسبب قراراتها الاحادية المخالفة للقرارات الأممية التى تنظم الأسس الحاكمة للأنهار الدولية العابرة للحدود، وهو ما يدفع إثيوبيا للهروب من الواقع الذى تعيشه بأكاذيب وخطاب سياسى متطرف، تقابله مصر بأقصى درجات ضبط النفس.. إلا أن الأخطر من كل هذا هو الاعلان الإثيوبي الأخير عن إنشاء عدد من السدود الجديدة بحجة الاستفادة من المياه فى الزراعة، فى هروب جديد من فشل سد النهضة وصناعة أزمة جديدة مع مصر، ويبدو أن إثيوبيا ومن يقف خلفها، لا تعى أن مصر الآن، ليست مصر عام 2011 التى انشغلت بأزمتها الداخلية وكانت أولويتها الحفاظ على وحدتها واتقرارها المجتمعى فى مواجهة مخطط دولى كبير تحطم على صخرة الإرادة المصرية.. ومصر الآن قادرة على حماية أمنها القومى أينما وجد، وعلى رأسه حصتها فى مياه النيل، وعلى إثيوبيا أن تدرك أنها لن تستطيع وضع حجر واحد جديد على مجرى النيل الذى يشكل شريان الحياة لكل مصرى.
حفظ الله مصر