تأملات في كتاب صراط الرؤي لفرانسيس دينق
تاريخ النشر: 30th, November 2024 GMT
دائماً ما كنت أفكر ان صراع الرؤى هو مرآة الهوية المنقسمة بين الظلال والنور او انه رحلة استثنائية يأخذنا فرانسيس دينق نحو قلب الهوية السودانية، تلك الهوية التي تقف على حافة التمزق بين ظلال الماضي الثقيل ونور المستقبل المرتقب.
انه كتاب لا يقتصر على كونه دراسة أكاديمية عن الصراع بين الشمال والجنوب، بل هو عمل فلسفي إنساني يستنطق الروح السودانية، محاولًا كشف الطبقات التي تغطيها وتشوهها، بحثًا عن نواة النقاء الأولى.
دينق لم يكتب عن السياسة بمعناها المباشر، بل كتب عن الإنسان بوصفه ساحة المعركة الحقيقية. فـ”الرؤية”، كما يقدمها الكتاب، ليست مجرد تصور فكري أو ثقافي، بل هي انعكاس للروح الجماعية، تلك التي تقف في مواجهة مصيرها بانقسام عميق بين الولاء للتاريخ السوداني الإفريقي والتمسك بأسطورة الانتماء العربي.
دينق يكتب عن الهوية وكأنها كائن حي، يتنفس، يعاني، ويموت. الهوية السودانية ليست ثابتة، بل هي كائن في حالة صراع دائم، تتصارع فيه القوى الثقافية والدينية والسياسية. في كل صفحة من الكتاب، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس ذلك الصراع بين ما نحن عليه وما نريد أن نكون.
الجنوب، في سرده، ليس مجرد جغرافيا، بل هو رمز للذات المكبوتة التي تُقصى قسرًا من الحكاية الوطنية، بينما الشمال هو الذات المهيمنة التي تكتب الرواية وفق شروطها.
ربما أعظم ما قدمه الكتاب هو تفكيك الاغتراب السوداني بوصفه تجربة وجودية.
السوداني، كما يصوره دينق، هو شخص يعيش في جسد لا يتصالح مع روحه. الهوية ليست مكانًا آمنًا بل هي ساحة حرب، وكل فرد فيها هو “شريك متشاكس” يحاول التوفيق بين جذور لا يعترف بها وواقع يرفضه. إنه صراع أوديب الذي يبحث عن الأب الحقيقي لكنه يخشى مواجهته، وعنترة الذي يمزق صورته في المرأة لكنه لا يستطيع التخلي عنها.
لغة دينق ليست وصفية فقط، بل هي حوارية تفتح أفقًا للقارئ للتأمل. الكتاب يبدو وكأنه لا يريد أن يقدم إجابات بقدر ما يريد أن يثير الأسئلة. اللغة هنا ليست وسيلة بل غاية في ذاتها، فهي تعكس تعقيد الصراع من خلال تراكيبها الغنية التي تمزج بين السرد الأكاديمي والحميمية الأدبية.
في النهاية، يدعو الكتاب إلى التصالح مع الذات السودانية كخطوة أولى نحو التصالح مع الآخر. الحل الذي يقدمه دينق ليس سياسيًا فحسب، بل هو روحي أيضًا. إنه يدعو السودانيين إلى تبني “رؤية جديدة” ترى في الاختلاف قوة، وفي التنوع ثراءً، وفي الماضي درسًا لا قيدًا.
“صراع الرؤى” ليس مجرد كتاب عن السودان، بل هو نص إنساني عالمي يتجاوز حدوده الجغرافية ليخاطب كل هوية تواجه صراعًا داخليًا. إنه لوحة أدبية فلسفية مرسومة بكلمات دينق، كل كلمة فيها هي لون، وكل جملة هي ضوء وظل، تضيء لنا طريقًا نحو فهم أعمق للذات، وللآخر، وللحياة ذاتها.
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
كتابٌ حول التشكّلات الفنيّة والموضوعيّة في شعر يحيى بن هذيل القرطبي
الجزائر "العُمانية": يُركّز كتاب "التشكلات الفنية والموضوعية في شعر يحيى بن هذيل القرطبي"، الصّادر عن دار ألفا دوك للنشر والتوزيع بالجزائر، للباحث الدكتور حاتم أحمد محمد الحمد على شاعر عاش في القرن الرابع الهجري في البيئة الأندلسية، وهو الشاعر يحيى بن هذيل القرطبي الأندلسي، وقد كان له أثر كبير في الشعر الأندلسي، ومكانة كبيرة بين شعراء عصره.
ويقول الباحث والدكتور في مقدمة الكتاب الذي يقع في 304 صفحات، "تتمثل المشكلة الرئيسة لهذه الدراسة في ضياع مجموعة كبيرة من أشعاره، ولم يصل إلينا إلا القليل، وهو ما قام بجمعه الباحث محمد علي الشوابكة، كما يمكن أن نضيف في المشكلة إنه لم يوف حقه من الدراسة والبحث، ولعله السبب في ضياع أشعاره، وبحدود اطلاع الباحث لا توجد دراسة شاملة وافية لجميع الجوانب الموضوعية والفنية والبلاغية والأسلوبية".
وحول الهدف من الدراسة، قال المؤلف: "لقد هدفت الدراسة إلى التعريف بابن هذيل وإبراز الدور الذي لعبه في منظومة الشعر العربي، كما هدفت إلى تقديم عرض للموضوعات الشعرية بالشرح والتحليل، كما قدمت جانب البلاغة بعناصرها المختلفة (علم البيان، علم المعاني، علم البديع) في إعطاء أشعاره قيمة عظيمة، كما بينت الدراسة الخصائص الأسلوبية ودورها في الجانب الدلالي، وأنها اعتمدت على المنهج الوصفي التحليلي والمنهج الأسلوبي لتحقيق أهداف الدراسة، وسيكون تطبيق هذا المنهج حسب خطوات البحث العلمي من خلال جمع المعلومات وترتيبها وتصنيفها، ثم تحليلها وتعميمها؛ حيث اعتمدت على كتاب الباحث محمد علي الشوابكة جمع وتحقيق لأشعار ابن هذيل".
وقسّم الباحث الكتاب إلى أبواب تناولت جوانب كثيرة من حياة الشاعر ابن هذيل على غرار مولده، وظروف نشأته، والموضوعات الشعرية التي تناولها في شعره، والخصائص الفنية والأسلوبية في شعره.
وقد خلصت هذه الدراسة العلمية إلى أنّ النتائج أظهرت أن الشاعر يحيى بن هذيل، كغيره من الشعراء لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث الكافي، كما بينت مدى تميزه بخصائص حميدة وشخصية فريدة كونه عالمًا وفقيهًا وشاعرًا، وكان الشاعر مكثرا من أشعار الوصف، ولعل ذلك يعود لجمال الطبيعة الأندلسية التي عاش في ظلها، بالإضافة إلى إظهار مدى براعته في رسم الصورة الفنية المستوحاة من البيئة التي عاشها، واستخدامه الألفاظ والتراكيب والخيال.
ووصّت الدراسة بإفراد بحث خاص عن الصورة الشعرية في شعر ابن هذيل، وآخر عن المكان، وثالث عن التشبيه وما يندرج تحته، ورابع عن حضور المرأة في شعره، إذ إنها دراسات تثري المكتبات ويرجع إليها المهتمون بالأدب العربي، والأفراد الذين يعتنون بالمضمون الشعري ويلاحقون كل ما هو جديد.