إيمان خليف: “وجدتُ صعوبات في اقناع عائلتي بممارسة رياضية رجولية”
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
أكدت ايمان خليف، المتوجة بذهبية الملاكمة لوزن 66 كلغ، في الألعاب الأولمبية باريس 2024، أنها وجدت صعوبات كبيرة، في اقناع عائلتها بممارسة رياضة رجولية.
وتحدثت البطلة الأولمبية، في حوارها المطول مع صحيفة “الشرق” القطرية، عن رحلتها في عالم الملاكمة، مشيرة إلى أنها كانت مزيجا بين الألم والنجاح.
كما أبرزت بأنها واجهت في بداياتها العديد من الصعوبات.
وأضافت إيمان خليف: “أنا من عائلة محافظة ولم يكن سهلا إقناعهم وإقناع الأقارب والجيران وأهل القرية بأن فتاة تمارس لعبة الملاكمة. خاصة أنها رياضة رجولية”.
وواصلت الملاكمة البطلة: “لكنني كنت أحب هذه الرياضة وكانت لديَّ إرادة للنجاح. ورغم كل هذه التحديات كنت أبحث عن حافز من أجل استكمال المشوار.”
قبل أن تستدرك إيمان خليف: “ساعدتني الألقاب والنتائج التي حققتها بعد ذلك. وانضمامي إلى المنتخب الوطني الجزائري في إقناع عائلتي، وبرهنت لهم أنني على الطريق الصحيح”.
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور
المصدر: النهار أونلاين
إقرأ أيضاً:
حيتان البحر المنسيّة.. قراءة مجموعة «ليل ينسى ودائعه» لجوخة الحارثي
إبراهيم سعيد -
المجموعة الصادرة عن دار تكوين هذا العام ٢٠٢٥م، للقاصة والروائية جوخة الحارثي «ليل ينسى ودائعه»، لا تعرف بجنسها كقصص قصيرة على الغلاف، فلا إشارة تصنيفية، فهل تكون تلك من الودائع المنسية أيضًا؟ كما لعل القارئ قد يتساءل عن ودائع الليل المنسية هذه أهي الشخصيات أم أنها شيء آخر، كالذكريات مثلًا وهي تعود تنثال على شخصيات العمل؟ الإجابة رهن بكل قراءة على حدة. لكن لفظة الودائع جعلتني أتذكر قصيدة لبيد بن ربيعة الشهيرة بُلينا: وما المال والأهلون إلا ودائعٌ ** ولا بد يومًا تُستردُّ الودائع.
بعد القراءة نجد أمامنا سؤالًا يطرح نفسه علينا، ما هي هذه المجموعة القصصية وعمَّ هي؟ وقد نتسرع قليلًا ونستبق الأحداث بقولنا إنها عن الحب المعاصر، الحب الآن؛ لكن هذا التهور بالإجابة له عواقبه؛ لأنها ليست تحديدًا عن الحب بعمومه، بل هي أكثر تخصيصًا من أن نستخدم لوصفها كلمة الحب التي لا تبلى بل تتجلى على كثرة استخدامها، عصية على الاستهلاك.
تبدأ المجموعة بقصة زيارة، والتي بدورها تبدأ بعبارة البطلة «قررت أن أزور الرجل الذي أحب» ص٩ وهي عبارة تبدو لأول وهلة صريحة وشجاعة، لكن حين نعود بعد قراءة القصة لتأمل العبارة نكتشف طبقة اضطراب وتردد، فهل يحتاج أمر زيارة الحبيب إلى قرار يُتخذ؟ كما ونكتشف بقراءة القصة أنها زيارة مضطربة، متخفية، قررت بطلتها، التخفي منذ البداية:
«دخلت بثقة مصطنعة، وكنت قد حرصت قبل خروجي أن ألبس ثيابًا لا تثير الانتباه، وألا أضع زينة على وجهي.. وكذلك أعددت منذ الأمس الحجج اللازمة لوجودي هنا في حال صادفت أحدًا» ص١٠
البطلة متعلقة بالرجل الذي تحب، لكنها تخبرنا وهي في الطريق إليه أنه رجل مذعور «عالمٌ طالما أثار ذعره. التفكير في الذعر جعلني أدرك أني مذعورة» وهي بذلك كما تقول بدأت تشبهه كما تؤكد لنا في موضع آخر.
سيكتشف القارئ أن قصة الزيارة لا تفضي لزيارة، فلا زيارة متحققة في واقع القصة التي تنتهي دونها، وكما يظهر فإن البطلة تكاد تضيع في الطريق، بل تكاد تتنازل عن المشروع برمته، وكما قدمت لنا بطلة القصة تفاصيل الرجل الذي تحب، فإنها بالتوازي قدمت تفاصيل البناية التي يسكنها، وهي البناية التي تجري فيها أحداث القصة، وهكذا فإن ما يبقى من القصة هو ذلك الطريق، الذي يذكرنا بأن الطريق في وقته أهم من الوصول، أو كما قال محمود درويش الطريق إلى البيت أجمل من البيت.
إن كل التردد والارتباك والذعر الذي تعكسه بطلة قصة زيارة يعكس للقراء مشاعرها هي، هي التي قررت أن تمضي إليه بكل إرادتها لتزور الوحيد في شقته، كما نعرف منها، وهنا نلمس بعض ما يصمت عنه السرد، فهناك حواجز فعلية إسمنتية تصفها لنا البطلة، هي انعكاس للحواجز النفسية التي تتخطاها للوصول إليه، وأن هناك طبقات متعددة لتلك الزيارة المزمعة ونحن نعيشها معها، نعيش مع خطاها المترددة، مع ذكرياتها المستعادة عنه في الطريق إليه. فهل نقول منذ الآن أن الذكريات هي الودائع المنسية؟ أم ترانا نستبق الحكم والأحداث مرة ثانية؟!
إننا لا نستطيع التعامل مع الحب كموضوع عقلي صرف، وإذا تغلغلنا فيه فإن جراحنا الشخصية وتجاربنا الذاتية توجعنا، وهي التي تبرز من خلال ذلك التوغل، نحن أمام الحب نتذكر ما نسيناه، أو تناسيناه، فالحب رغم كثرة حديثنا عنه هو نفسه الموضوع الذي نظل نتحاشاه، فهل تكون الجراح هي الودائع المنسية والليل هو النسيان؟!
قصة «الجنة»، القصة الثانية في المجموعة، تبدو كالرسم بالإبر أو الوشم، أسلوبها منذ البداية ينذر بقرب وقوع كارثة ما، حتى عنوانها، فالبطلة في الجنة، لكن بالاسم فحسب، فالجحيم لا يحيط بها فحسب، لكنه داخلها: «بمجرد أن قال «العودة» عادت لعبة التوازن إلى رأسها مرة أخرى. لقد قطعا الطريق الشاق. لقد سددت الأثمان الباهظة نفَسًا نفَسًا من أنفاسها. لقد وصلا للحظة. للجنة. أي عودة؟» ص٢٢
كيف لحواء أن تفرق إن لم يكن آدم هو الشيطان متخفيًا، هي تتذكر تضحياتها، لكن في سبيل ماذا؟ في سبيل تلبية الحب النداء الطبيعي الفطري داخلها، فما الذي ستجنيه من التضحية؟ ففي اللحظة التي تلح عليها الرغبة الطبيعية الفطرية، والمدفوعة بالحب كذلك، في الاتصال بابنها، أي عندما تحاول الخروج من الجنة الافتراضية للعالم الواقعي وتحسب حسابه، هناك في تلك اللحظة تحديدًا تنزاح الغشاوة بمفاجأة، تكتشف بأم عينيها ما جنته من التضحية، وترى ما اشترته بكل تلك الأثمان الباهظة، في مشهد المواجهة، حين تضبطه مع النادلة التايلندية. لقد ظلت صورته تتراوح بين الضبابية والنقاوة، حتى تلك اللحظة الحاسمة، وعندها اتضحت الصورة تمامًا، وهناك نجدها تفكر في تمزيق جواز سفره.
والآن وقد اتضحت النار فما الذي عليها فعله؟ هل ستضحي أكثر حتى بذاتها؟ القصة تقف هنا ولا تجزم بشيء، إن هذا الاحتراق هو الحصاد المؤكد، هكذا تبدو لنا بطلة الجنة شمعة تحترق، ورغم أنها تضيء لكنها تذوب كذلك، تفقد نضارتها ورشاقتها بفعل الزمن والاحتراق، تذوي، تشحب، ولا شك أن ذلك مخيف، ومرعب، وهو ما دفعها دفعًا للارتماء في أول قارب نجاة، رغم كل العقبات، وكان السؤال الحارق هو هل هذا قارب نجاة حقيقي أم مجرد قارب ورقي؟ ولعل هذا هو السؤال الملح القديم هو نفسه بين الجنسين منذ الأزل.
تمضي قصص الودائع المنسية وترسم علاماتها، ففي قصة النخالة الوردية نجد الفراق والحياة المحطمة كحقيبة البطلة الخضراء الباهتة التي تكرهها، والثعلبة الأنثى، والثعلبة المرض الجلدي على جسد البطلة، فهل الحقيبة هي الذكريات؟ وتلك البقع الجلدية أليست علامات الماضي على جسدها؟ والقصة تجري وقد افترقت البطلة عن حبيبها، والبطلة هنا تستعيد الذكريات، والليل الذي حسبناه مجرد عنوان على الغلاف يتضح لنا أكثر أنه ليل الفراق بعد نهار اللقاء والوصال.
وفي قصة الهدايا نجد السارد هو الحبيب المهجور، لكنه حين يتحدث عن نفسه إنما يستعيدها هي، فهي مدار الحديث، صاحبة الكيس، وهو يستعيد ذكرياته كذلك، بعد الفراق، وفي هذه القصة نرى عناية أكبر بالتفاصيل، بالهوامش، بالأثاث، وتفاصيل اللوحة، والشعرة، والإصبع في التمثال المكسيكي، وزر القميص في العروة الخطأ، والخطوط الجديدة على شفتيها، وإذا كنا نلحظ في بداية القصة أن مشاعر السارد هي مشاعر من نسي، أو تناسى، يتضح لنا أن ذلك مظهر خداع، لأن القصة إثبات حي على أنه يتذكر بكل دقة. إن حادثة صغيرة واحدة تكفي لإيقاف مفعول التناسي وإعادة الجراح بالتفاصيل لمكانها الحي، هكذا يتحول ما رأيناه ثانويًا قبل هنيهة من التفاصيل إلى محوري؛ لأن هذه التفاصيل دليل على بلاغة الجراح المستعادة، هذه التي تخرج من مجرد كيس ورقي مزين بالأزهار.
إن قصص المجموعة مبنية على ذكريات أو مشاهدات لعلاقات دخلت في الفراق أو على وشك الفراق، كما في قصة «الخركوشي» مثلًا، فمع أن الحبيبين ما زالا متواصلين وأنهما ما يزالان في النهار، لكن نهارهما يبدو نهارًا غريبًا، ولنقل مشبوهًا، لأنه مليء بالأبراج وتفاسير الأحلام والتنبؤات والكهانة، فهي مؤمنة بأحلامها وتحاكمه هو عليها، معتمدة على تفسير ابن سيرين، لكن القصة تفضح لنا أن التفسير المنسوب لابن سيرين ليس له، يقول السارد: «فكّرت في إهدائها نسخة مجلدة ومحققة من التفسير باسم مؤلفه الحقيقي: أبو سعد عبدالملك بن محمد الخركوشي، لكني عدلت عن تعزيز أوهامها، التي لم تكن تراها أوهامًا بطبيعة الحال، كانت مؤمنة بها، كما آمنت كذلك بالفلك، وتأثير الأبراج، والحدس، وتناسخ الأرواح، وذبذبات كونية غامضة، باختصار كل ما لا يتلاءم مع الإنسان المعاصر.» ص٤٠ هذا التردد في الفعل، يشير إلى انهزام البطل الداخلي، تبدو حجج السارد حججًا مقلوبة، فهو يتهمها هي، لكنه في الواقع يتواطأ على إغراقها أكثر في خيالاتها واشتعالاتها حتى تنطفئ النجمة حسب تعبير السارد، النجمة الميتة يقول ص٤٢، أي مجرد ثقب أسود، فكما يبدو فإن شمسهما غابت دون أن يشعرا، قد يكونان قبل الفراق زمنيًا، فهو نهار لكنه نهار أقرب لليل، نهار لكنه داخل نفق، فهما ماضيان للنهاية كما هو واضح، قد دخلا في الليل دون أن يشعرا كما يذكر لنا السارد بنفسه: «النفق يتطوى علينا بحلكة أشد» ص٤٣.
في قصة مذاق النجوم الباردة يكون هو السارد كذلك، وهو ابن عم وابن خالة البطلة، ويحكي عنها هي، لنراها كقراء من الخارج، لكن الرؤية متورطة بها هي، لا بذات السارد إلا فيما يتماس معها، إنها قصتها هي، البطلة، وهذا الصوت مجرد سارد، يظهر جليًا أنه معجب بها، منفتح معها، ومع متواليات علاقاتها التي لا نملك أي دليل إن كانت واقعية أم من نسج خيالاته هو، ورغم أننا نعرف من البداية أنها تجيد فن الحكاية كما يخبرنا السارد: «تظل تحكي لي أيامًا، تنسج المفردات الجديدة في مفرداتها القديمة، تحيك العوالم الشاسعة باللغة، والضحكات، والإيماءات، والصمت المفاجئ» ص٤٥ لكننا كقراء لا نسمع لها صوتًا في القصة، لماذا؟ هل لأننا معه في الجهة الأخرى، في الظلام؟ مع النجوم الباردة المنطفئة، ولهذا نجد السارد يقول واصفًا نفسه كأنما يؤكد لنا: «كنت قريبًا بما يكفي لتأتي إليّ.. وبعيدًا بما يكفي لأظل في ظلال القصة لا شمسها» ص٥٠
إن هذه القصص تكشف أننا بقراءتنا لهذه المجموعة نتوغل في ليل الفراق، وأن هذه القصص تجول بنا في ظلماته، لذلك يحدث لنا كل ما حدث، نحن في مجموعة قصصية خارج النهار تمامًا، لكن فيم العجلة؟ لنتأكد من باقي القصص فربما هذه قراءة واهمة، مريضة بالخيالات، ولا تدرك عمق ما هي فيه، ففي الليل تتضخم الخيالات.
في قصة أوردة رخامية نجد الساردة تتحدث عن نفسها وعنه باستقلال بين الاثنين، لكن الاستغراق في الحديث عنه يدلل على غيابه، إنها هي التي تفتقده، ها هي تفطر في مطعم الفندق لكنها تتابع بفكرها وسردها تفاصيل استيقاظه واستحمامه وتسجيل خروجه من البنسيون الذي يقطنه بعيدًا عنها، إنها تحفظه عن ظهر غيب، ليس حفظ الذاكرة فحسب، بل الحفظ الفيزيائي، هي نزيلة على حساب مؤتمر ما، أما هو فلا يسمح لنا السرد بمعرفة وضعه، إن السرد لقطة مقربة جدًا عن عمد لا نعرف ما هو خارجها، نحن مع الساردة وهي على طاولة الإفطار وهي التي تقودنا، حتى قد تبدو الساردة هنا مجرد نزيلة مؤقتة وغريبة في محطات الليل هذه، وهي راحلة عما قليل، ستعود لنهارها معه، تبدو لنا القصة كقراء مجرد تنويع على الموضوع الأساسي، أو استراحة، لكنها تحمل ما يكفي من دلالة على أن الفراق يقود إلى هذه المحطات الليلية نفسها، وبالتمعن أكثر يمكننا القول إن المفقود هنا هو بالعكس ليس الحبيب، بل هي نفسها الحبيبة، الساردة: بدا الكرسي المقابل لي ثقيلًا، كأن وزن الهواء فوقه أثقال أنا أحملها، وأنوء بها. ص٥٥ إنها تتابعه هو بكليتها، ولا نجد أمامنا غير جسدها الذي يؤدي دوره كجسد، إن الفراق عنه يجعل كل القصة مكرسة له والبقية مجرد تفاصيل.
أما قصة ودائع ليلية فتبدو لنا ظاهريًا مستسلمة للغة، لكن هذا استسلام مريب، استسلام القصة لبلاغة اللغة، للصبغة الكلاسيكية، لكن هذا الاستسلام يشي بأن وراء اللغة ما تريد إخفاءه، لكنها هكذا تفضحه، إن اللغة هنا تستخدم للتواصل والتشويش في الوقت نفسه، وهي قصة فارقة فعلًا؟ لماذا؟ لأن الألم مضاعف، بل متضخم ربما، فعلى من تفقد حظ الأمومة أن تعيش كذلك تحت تهديد دائم بفقدان الشريك، الزوج، اللباس بالتعبير القرآني، وهذه اللغة متورطة هي الأخرى، وهنا اللغة نفسها حدث من أحداث القصة، بل ونراها تصبح سلاحًا، فهي انتقام لفظي، ولها فعلًا نغمة الثقة: «انسل من ليل ينسى ودائعه ولم ير أنني لم أنس، وأنه محسود بنعم الغرور. ودّعته حين أخذه البحر، واستودعت قروش البحر الضخمة وديعتي الأبدية.» ص٦١ ما الداعي لتضخيم قروش البحر ووصفها بالضخامة هنا غير الانتقام؟ لكن ما حدث بعدها أن الانتقام المدفون في البحر مع ضخامة قرشان البحر عاد.
تأمل البطلة في الغفران، وتوقها للطهرانية يجعلها تغتسل بالاعتراف كرهًا أمام الشريك: «كرهًا أخبرته عن حبي القديم الذي أطعمته وحوش البحر وحيتانه». ص٦٢، فمن الساحرة التي ابتاعت صوتها وخصوبتها بالتالي، هنا المفاجأة، الأميرة عقيمة لأن قلبها كما يبدو احترق هناك في حادثة الانتقام نفسها، وضخامة قرشان البحر تلك تحولت بعد التهام القلب لحيتان. هكذا هي الودائع الليلية إنها انتقام قادم، تتحول فيه الكائنات كما في التحولات لأوفيد، فإذا كان بمقدور الكائنات التحول لكائنات مغايرة فكيف بالمشاعر؟ ألا تتحول لأشياء فيزيائية كأورام في الأرحام تسبب العقم؟ وهل الكره ورم شعوري يتحول لأورام فيزيائية؟
هذه القصة تعيدني لذكرى سؤال قديم سُئلته ربما منذ عشرين سنة: هل علينا أن نعترف لمن نحب بمن أحببنا قبله أم لا؟ هل علينا أن نكون صادقين مهما كانت النتائج ما دمنا نريد علاقة قائمة على الصدق والثقة، أم علينا أن نتبع عاطفتنا ونداري من نحب كي لا نؤذيه؟ أظن اليوم أن علينا أن نقول ما يمليه علينا ضميرنا، ومن يحبنا حقًا سيحبنا مهما كانت إجاباتنا، لأنه يحبنا، ومن لا يحبنا سيتخذ من إجابتنا عذرًا، أو وسيلة تعذيب وابتزاز، لكن هذه محاولة إجابة المنطق، أما القلب فمستعد للكذب من أجل ألا يخسر من يحبه.
إن العشاق كما يبدو منجذبون لا إراديًّا نحو العذاب، منجذبون للانتحار كما في مسرحية شكسبير روميو وجولييت، يقتلان نفسيهما على خشبة مسرح الحب، والنتيجة؟ كالعادة كما في الأسطورة القديمة التي سطرتنا أن يخرج الاثنان، آدم وحواء من الجنة، لكن تبقى الثمرة المحرمة غامضة، ويبقى إبليس والنفس مختلطين، والأفعى هي الاشتباه، هي الخوف الذي يمنعنا من التمييز.
في قصة كوكب الزهرة تصل باقة الورود الحمراء كالعادة بعد عيد ميلاد البطلة، الخامس والثلاثين، هما مفترقان ولم يعودا يخرجان معًا لما ثبتا أقدامهما في الأرض، كما تقول القصة: إنها هي الزهرة، هي النجمة، لكنها غارقة في الخسارة، إنها النجمة اللامعة، لكن البعيدة، هي الكوكب المعبود، لكن الذي يشتعل وحده، ها هي تتلقى الصلاة في باقة ورد، لكن لا أحد يكسر المسافة والحاجز معها، هي تشتعل والعمر يمضي وماؤها يتبخر وجمرها يترمّد، لا تشارك الأرض حياتها، لا تمنح للحياة حياة، إنها تتلقى لكنها لا تمنح وهذا أسوأ العقم. أن تعجز عن العطاء، تعجز عن أن تمنح نفسك وكل ما تملك لمن تحب، لكن ذلك معطّل، في الفراغ، مجرد إضاءة تصل في الليل من بعيد ما دامت الشمس غائبة، لكن لمن؟ ومن ينتظرها؟
في القصة الأخيرة قصة قنديل للمرأة الأخرى، نجد عبارة لافتة: «أمي التي بوسعها ولادتي كلما شاءت» ص٧٩، هذه القصة أطول قصص المجموعة، مختلفة عن الجو العام لبقية القصص، تقليدية الأجواء، منبعثة من رحم العلاقات القديمة، دون أن تقول ذلك، وهنا بالعكس لا نجد غيابًا مباشرًا بل حضورًا، وما من تجربة فراق غارقة في الماضي، بل هي حاضرة، لا استعادة من الذاكرة بل بالعكس وبشكل مخيف، العيش مع الموتى واستبدالهم كأنهم هم أحياء والشخصيات ميتة، إن إشعال القناديل فوق قبورهم دلالته أن حياتهم مستمرة، أنهم يضيئون رغم انطفائهم، أن لهم آثارًا حية، لكن للأم القنديل المضاء، وللزوجة داخل خزانتها القنديل المطفأ.
هل حياة البطلة مكرسة للأموات؟ تلك حياتها تقول حين كرستها لأمها، لم تكن تضحية؛ لأنها كانت لها إعادة ولادة، لكن ماذا عن الآن؟ هل تعيش بزواجها من أرمل تضحية ثانية؟ فها هي تبحث عن ذاتها ولا تجدها، تبحث عن رغبة زوجها فيها هي، كما هي، بكل ما فيها وتحدثه عن ذلك، فهي ليست صغيرة وخجولة بل هي في الثلاثينيات، لكن بلا فائدة، هل هذا هو الزواج؟ أم أنها ماتت بدل أمها وهي لا تعرف؟ إن تماهي البطلة مع الزوجة المتوفاة وذهابها لغرفتها حتى تكاد ترتدي ثيابها، يكاد ينذر بأنها كادت تموت فعلًا، لكنها نجت كما يبدو، أو عرفت درب النجاة، لا ندري، وكما تخبرنا هي صارت لا تبالي بكل الروائح العطنة القديمة والأصوات، وحتى بزوجها الأرمل الذي لم يثب بعد من ترمله، يبدو أنها علقت أملها بالمستقبل، بالابنة التي ستنجبها لترعاها كما رعت هي أمها، أي ولتنجبها متى شاءت، هي بانتظار نهار قادم يخرجها من الليل، أما الآن فهي هنا في بحر هذا الليل نفسه.
الآن وقد بلغنا النهاية، يبدو لم يعد مهمًّا أن نبحث عن الودائع أو حتى أن نسميها في هذا الليل؛ لأنها واضحة كل الوضوح، وهذا ليل الفراق الطويل، المضاعف، الذي لا يتزحزح، الذي يكون الصبح بعده ليلًا كذلك، كما كان امرؤ القيس يشكو مرة: فيالك من ليلٍ كأن نجومه بكل مُغار الفتل شدّت بيذبل.
إبراهيم سعيد شاعر عماني