هُويتنا سيادة لنا ومكمن لقوتنا
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
د. إسماعيل بن صالح الأغبري
لكل أمة من الأمم ولكل شعب من الشعوب ولكل دولة من الدول سمات ومميزات تميزها عن غيرها عن طريق ما يُعرف بالهُوية، تسعى إلى تعزيزها وتنميتها، وتمنع المساس بها أو التعدي عليها عبر سن النُظم والقوانين الحافظة لها أو عن طريق وضع خطط واستراتيجيات تضمن تعميقها في نفوس الناشئة من الشبيبة.
الصين رغم تنامي قوتها وصيرورتها ثاني عملاق اقتصادي، إلا أنها تشتد في المحافظة على مواريثها الثقافية ووجهها الثقافي وسور الصين العظيم تعده من مفاخرها رغم امتلاكها ما يغني عنه من القوة والمنعة المتمثلة في الجوانب العسكرية والتقنية، وفرنسا قوة صناعية مؤثرة، ولها في الأمم المتحدة حق النقض المؤثر في القرارات الدولية إلا أنها من الدول الرافضة بشدة التأثير على موروثها الحضاري القديم، ومتحف اللوفر مخزون لها ثقافي وسيادي.
مصر وآثارها الفرعونية والقبطية والإسلامية بمراحلها الأيوبية والمملوكية تمثل هُويتها وجزءًا من سيادتها ووجهًا مُشرقًا لها، والعراق في أوج صعودها العلمي والصناعي أيام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ورغم البعثية الحاكمة في عهده إلّا أن تراث السومريين والأكاديين والبابليين ثم العصر الإسلامي، مثَّل سيادة لبلاد ما بين النهرين، والحفاظ عليه واجب لأنه عنوان على أقدمية العراق وأسبقيتها في النشأة بين الدول والحضارات، وفارس (إيران) رغم صعودها العلمي والعسكري إلّا أنها تعمل جاهدة على الحفاظ على الهوية ولو كانت تلك الهوية تتعلق بمواريث قبل الإسلام.
عُمان لم تكن بمعزل عن تلك الحضارات لما لها من علاقات نِديَّة معها؛ فهي ذات أسبقية في النشأة على غيرها في الجزيرة العربية تمتد إلى آلاف من السنين، وعرفت أنظمة حكم سياسية متعاقبة ما يدل على أن سكانها في أغلبهم لم يكونوا رُحَّلا؛ بل أهل استقرار وتوطين وذلك أهَّلَهُم لإقامة أنظمة سياسية سابقة على غيرها.
يشكل الإسلام مصدرًا أساسيًا من مصادر الهوية العُمانية إذ صار دين الدولة والشعب بإسلامهم الطوعي دون إشهار منهم لسيف في وجه نبي الإسلام أو تعنت منهم في قبول الحق، ثم صار الإسلام وعبر أنظمة حكم سياسية متعاقبة بمثابة الوقود الذي أشعل فيهم جذوة حب الاستقلال عن غيرهم، ورفضهم التبعية لأي نظام حكم لم يكن عُمانيًا كما كان الإسلام أحد محركاتهم وحوافزهم الدافعة لهم إلى خوض غمار التحرر من قبضة المستعمرين البرتغاليين.
اللغة العربية- وهي وعاء الوحيين- مصدرٌ أصيل من مصادر الهوية العُمانية، ولا عجب في ذلك فالعُمانيون من حيث الأصول عرب أقحاح؛ بل تذكر المصادر أن المفسرين ظلوا يتحاكمون إلى لغة أهل عُمان عند تفسيرهم لكثير من آي الكتاب العزيز؛ بل كانت هناك قراءآت على لغة أهل عُمان كقوله تعالى لمريم "قد جعل ربك تحتك سريًا"، فقرأ البعض على لغة أهل عُمان "قد جعل ربش تحتش سريا"، كما فسر بعض المفسرين الخمر بالعنب في قوله تعالى بسورة يوسف "إني أراني أعصر خمرًا"، وذلك على لغة أهل عُمان، حيث إنهم يسمون العنب خمرًا، ولم تزل بعض المناطق حتى الآن تسمي الجلوس تحت شجرة العنب بالجلوس تحت الخمرة؛ ذلك أن الخمر يصنع من العنب. ولذا فالحفاظ على اللغة العربية هو محافظة على الهوية والشخصية العُمانية، ومن مظاهر حفظ أهلها لها أن تكون هي لغة التخاطب الشفوي بينهم، وأن تكون هي المتصدرة في محاضن العلم والمعرفة وفي المراسلات والمكاتبات الرسمية والخاصة وفي المؤسسات الرسمية والخاصة، وهي السائدة في الملصقات والمحلات والإعلانات فإن تراجعت عن الصدارة فذلك مساس بالهوية، وهضم لحق الخليل بن أحمد الفراهيدي العُماني صاحب أو معجم للغة العربية من أحفاده.
لا يمنع الاهتمام باللغة الأم الإفادة من غيرها ولكن المانع هو تراجعها كأنها لغة ثانية لا أولى.
اللغة الأم لم تكن عائقًا من التقدم التقني والتصدر في الصناعات؛ فكوريا الجنوبية ورغم قلة السكان المتحدثين بلغتها في الكرة الأرضية، إلّا أن الكوريين بها يتعلمون وبها يخترعون أنواعًا من التقنيات والهواتف.
والإيرانيون باعتبارهم لهم مواريثهم الثقافية وتعتبر حضارة فارس من أقدم الحضارات فإن اللغة الفارسية أساس في محاضن العلم العامة والخاصة، وقد بزوا غيرهم في ميادين الطب والصناعات العسكرية بل والنووي السلمي.
ورغم حداثة نشأة إسرائيل وضيق مساحتها الجغرافية وقلة عدد سكانها إلّا أن اللغة العبرية التي شارفت على التلاشي لولا نشأة إسرائيل صارت هي مصدر هويتهم، يغرسونها في أطفالهم كما يغرسون أقوال التلمود وأقوال أحبار بني إسرائيل، ونافست بلغتها صناعات دول عالمية؛ بل صارت أجهزة التجسس الإسرائيلية من أفضل أنواع الأجهزة، وهذا يدل على أن اللغة ليست عائقًا في التقدم إن وُجدت الإرادة والوعي الوطني.
إنَّ مجمعًا للغة العربية بات ضرورة في بلاد الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب معجم العين أول معجم في اللغة العربية له من الاختصاصات ما يمكنه من تقوية العربية كتابة ومخاطبة وتحدثا وإشرافا وتعريبا وترجمة بشرط أن لا يكون نسخة من حال المجامع العربية.
وتتجلى الهوية العُمانية في الميدان الديني من حيث الاعتدال في الفكر، والعيش مع الآخر، واحترام الاختلاف، فلا تكفير ولا تفجير، وهو منهج متأصل في الأجيال المتعاقبة، ولذا قد يهز العالم الإسلامي صراعات دينية وفتاوى تكفيرية، إلّا عُمان فإنه لم يسجل فيها على مر العصور فتاوى تكفير أو جواز تفجير حتى غدت عُمان مدرسة نموذجية في حياة دينية آمنة مطمئنة هانئة هادئة مستقرة.
الهوية العُمانية تتجلى في السياسة فلا تتدخل سلبيا في شؤون الآخرين، وهو منهج سياسي دبلوماسي عُماني متأصل ومتوارث من عاهل إلى عاهل ما يعني أنه جزء من الهوية العُمانية ثم هو التزام حرفي عُماني بما نصت عليه المواثيق الدولية.
تجنب إثارة القلاقل في الدول مع الحرص على عدم الدخول في أحلاف كيدية جزء من الهوية العُمانية، ولذا اكتسبت سلطنة عُمان الثقة الإقليمية والدولية.
وتتجلى الهوية العُمانية في الميدان الدبلوماسي من خلال السعي إلى التقريب بين الأطراف عن طريق ما يسمى بالتسهيلات (الوساطات)، وشتان بين من يتوسط لحلحلة قضايا شائكة وبين من ينخرط في صنع الإشكاليات.
الهوية العُمانية بادية في الشأن الاجتماعي تعاون وتكاتف وتلاحم ومساعدة ولا أدل على ذلك من وقوف المجتمع صفا خلال إعصار "جونو" وما تلاه من أنواء مناخية قاسية.
أعراف تحكمهم، وعادات وتقاليد بمثابة الدليل الإرشادي لهم، تميزهم عن غيرهم.
لقد بات العُماني مُرحَّبًا به في الدول التي بزورها أو يقيم بها وهو معروف بسمته وأخلاقه، مأمون في تصرفاته لذا يحظى بمعاملة تفضيلية حتى في المعابر البرية والجوية.
من الضرورة بمكان المحافظة على هذه الهوية وذلك بطرق شتى منها: غرس الهوية العُمانية في نفوس الناشئة عن طريق الأسرة، وكذلك فإن السبلة (المجالس) واصطحاب الناشئة إليها وسيلة من وسائل غرس الهوية العُمانية، وسن مزيد من التشريعات والقوانين لحفظ هذه الشخصية العُمانية من التأثر السلبي بالآخر سبيل من سبل المحافظة على هذه الهُوية، والمحافظة على المواريث الثقافية العُمانية طريق من طرق حفظ الهوية العُمانية.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
"التباشير".. بين الهوية والوسم
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
يَصعُب التفريق بين الهُوية كأصالةٍ دائمةٍ تُكتسب بالوراثة والتَّنشِئة وبين تجسيد الهُوية في الاختزال الرمزي بإطلاقِ وسمٍ تسويقي وقد يشوب الأمر شيء من ارتياب الفهم، لنقع لا إراديًا في الخلط بين الأمرين؛ نظرًا لسَطوة الفكرة الترويجية وسيطرتها على الذهن، فإذا كان القصدُ من إطلاق شِعارٍ ذي طابعٍ بصري يُراد له حياة طويلة، فإنَّ البِناء على الهُوية ذات الأصالة أو العَراقةِ يتطلب جهدًا بالغًا لتجسيد عمق الفكرة، لأن الحكم في الجانب المُقابل هو إرضاء الشريحةِ العظمى من المجتمع الذي يحمل في مضمون وشائِجه تلك الهُوية وهذا ليس بالأمر السهل كما قد يُعتقد.
عدم التوافق سيستثير موجة عدم ارتياح لتتبعها موجاتٍ من النقد اللاذع والاستياء أحيانًا، وفي هذا الخصوص تحديدًا يجب التجرُّد من مقولة "رضى الناس غاية لا تُدرك" وتهميشها قليلًا لأن المُبتغى هو إرساء رمزية دلالية تُعبِر عن هويتهم، أما إذا كان القصد من إطلاق الشِعار البصري هو عمليةٍ ترويجية موسمية أو مؤقتة كالوسم أو "التعويذة" كمصطلحٍ غربي مُعرَّب كما تُسميها المهرجانات -مع اني لا استحسن هذه الكلمة- فلا بأس في الأمر ومن غير الضرورة أن يُعبِّر ذلك الوسم عن عمق الهُوية ولا أصالتها وحتى إن فعل فلن يُشكِّل بؤرة خلاف تستدعي التفسير وتقريب وجهات النظر كونه ذا بُعدٍ مرحلي ومؤقت يزول بانتهاء الحدث.
قد لا يدخُل مفهوم التباشير كأساسٍ ضِمن مقومات الهوية العامة أو السائدة، كونها مُتغيرةٍ من مكان إلى آخر في نطاقٍ جغرافي محدود وما تتأثر به المجتمعات من تفاعلات مُرتبطةٍ بضرورة الحدث وزمانه، وربما تَنتفي أهميتها أو فاعليتها في مرحلةٍ ما وذلك بانتفاءِ أسبابها، فتستحيل مادةً تاريخية ضمن ما يُحكى من مروياتٍ قديمة، وبذلك تنتهي أصالة توارثها ولن تعتَّد بها الأجيال الجديدة لعدم توافر مُقوماتها ومُغذياتها، فمثلًا عندما كان يستبشر الضيف أو الغارم أو طالب الحمى أو البحارة والمسافرون برمزية التباشير على بعض البيوت قديمًا فإننا نجد هذا الأمر بمقاييس اليوم لم يعد قائمًا نتيجة تأصيل القوانين المدنية، وبناءً عليه فقد انتهى العُرف السائد وبالتالي انتفت الضرورة، ومع انتفائها وحتمية التغيير الثقافي تلاشت الفكرة ومضمونها إلا ما بقي في شكل توظيف الديكور التجميلي دون فهمٍ أو تقعيدٍ لتوظيف الخاصية الدلالية له.
وتكمُن أهمية التركيز في إطلاق العام على الخاص وليس العكس في اعتبار ما هو سائدٌ لدى أكبر شريحةٍ بشريةٍ في المُجتمع على أوسع نِطاقٍ جُغرافي ممكن، وبهذا الاعتبار فإنَّ إمكانية القبول ستكون أكثر ترجيحًا مع حظوظ ضعيفة للرفض، ذلك بأنَّ المُجتمعات غالبًا ما تركن للتنميط جراء صلابة هويتها وتستحسن السائد في وعيها الجمعي المشترك، وتنبذ المُتطرف باعتباره دخيلًا وحتى إن كان التجديد الاستثنائي أو الغريب، وقد تنظر له بأنه خارج عن المألوف عندما يحاول إسباغ الخاص على العام.
لا شك أن مُحافظة ظفار هي أرض اللُبان ولن يختلف على ذلك اثنان، وتداخلت مع ارتباط هُويتها بهذه التسميةِ القديمة جدًا وبكُل فخر تعالُقاتٍ كثيرة، منها ما هو مادي شاهد ومنها المعنوي الحسي وحق الفخر بذلك كما تفخر سائر المجتمعات بعراقة رمزياتها. فمثلًا عندما جاء شِعار السلطنة على العلم العُماني فإنه اتخذ من السيفين والخنجر رمزية ذات طابع عام ومتواصل مستمر كأدوات دفاعٍ وقتال وزينة، وهي سائدة في أرجاء عُمان، ولا تزال سارية المفعول وستبقى كذلك، وقياسًا على المِثال فإن رمزية شجرةِ اللبان في مُحافظة ظفار لا تزال صلبةً منذ الأزل وستستمر إلى مالا نهاية، ولا يمكن لي القول إن هناك متغيراتٍ قد تطرأ لتحييد الهوية الدلالية لها ولا حتى مع عشرات الأجيال القادمة، وقد غرس حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- شجرة اللبان عند زيارته لمزرعة أرزات السلطانية عام 2020؛ تأكيدًا منه على الرمزية والمضمون وتأصيلًا للدلالة والمفهوم.
وإذا حملنا أرض التباشير على محمل الهوية البصرية باعتباره وسمًا مرحليًا أو دوريًا، فقد نَستملِح ذلك من الناحية الترويجية، ولكن ما سيُستهجن في هذا العنوان وما بُني عليه من دلالاتٍ خاصة ذات محدودية زمنية وجغرافية، هو اعتباره هُوية دائمة تعبِّر عن الجميع وعن كل شيء، وهذه مُقاربة لا تتسق مع الثقافة العامة للجميع ولن يقبلها الوعي الجمعي المُشترك ولن تبرح مكانها إلا في نطاقٍ محدود ولفترة زمنية قصيرة تنتهي بقرار أو بانتهاء الحدث، بعد أن أشغل الرأي العام وأَسلَكَه في تجاذُباتٍ لا طائل لها وجدالاتٍ لا فائدة منها.
إن إشراك المُجتمع في صِناعة القرار سيجعل منه متفاعلًا ايجابيًا؛ بل ومُمتَّنًا باعتباره عنصرًا مُهمًا حين أدلى برأيهِ في شأنٍ يخصه ويرتبط به، وحتى لو كان على صعيد إطلاق هوية بصرية جديدة، ولم يعد استِشفاف وجهات النظر بتلك الصعوبة اليوم مع ثورة المعلومات وتطور منافع التقنية من خلال استطلاع رأي مُبسطٍ يأخذ تقييم الاغلبية في الاعتبار ويعتمد على المُفاضلة بين عدة خيارات ونماذج مطروحةٍ، ثم تَحسم اللجنة المُكلفة بالقرار أمرها لتبقى في إطار التواصل المجتمعي من جانب ومن جانبٍ آخر تقيم الحجة على الجميع، وبما لا يدع مجالًا لانتقاد كل رافضٍ أو غير مُقتنع لاحقًا؛ حيث أُفرغ محل النزاع ومنذ البداية من محتواه.
رابط مختصر