لن يكون لسوريا بعد اليوم جيش وطني. ذلك شرط وليس قراراً. وهو ما حدث في العراق بالضبط بعد عام 2003. ليس لدى إسرائيل الوقت للمناورة والمماطلة. أما حكام سوريا الجدد فهم مثل حكام العراق ليس أمامهم سوى التنفيذ والطاعة ولكنها في الحقيقة رغبتهم التي اندفعوا إلى تحقيقها وهم يظنون أنهم خدعوا الجميع بأنها كانت مفروضة عليهم.
الواقع يقول غير ذلك.
لقد أصدر الحاكم المدني لسلطة الاحتلال الأمريكي في العراق بول بريمر في أول أيامه قرارا بحل الجيش العراقي. تلك المؤسسة الرصينة والنزيهة التي يعود تأسيسها إلى عشرينات القرن الماضي. غير أن ذلك القرار كانت قد صادقت عليه المعارضة العراقية السابقة حين تم جمعها بلندن نهاية عام 2002.
ذلك ما يتكرر حدوثه في سوريا.
حكام سوريا الجدد وهم إرهابيون سابقون حسب التصنيف الأمريكي أعلنوا أن الفصائل المسلحة سيتم حلها. غير أنهم في الوقت نفسه أعلنوا عن إلغاء خدمة العلم. ذلك يعني أن الفصائل ستحل محل الجيش النظامي الذي لم يعد له لزوم. وإذا ما جرى تشكيله فإنه سيكون على غرار الجيش العراقي الحالي مجرد كتلة بشرية لا قدرة لها على الدفاع عن الوطن. فهي لم يتم اختراعها لهذا الغرض.
إن إلغاء مؤسسة عريقة كالجيش هو مؤشر خطير على إلغاء الدولة. وليس في أجندة الفصائل العقائدية المتشددة شيء أعز من إلغاء الدولة. ذلك لأن ذلك الإجراء العدواني مستلهم من فكر جماعة الإخوان المسلمين الذي هو المرجع المذهبي الذي يعود إليه الحكام الجدد في سوريا كما كان مرجعاً للأحزاب الدينية التي استلمت الحكم في العراق بعد الاحتلال الأمريكي. عقيدة الولاء والبراء هي الأصل.
في هذا الجانب بالتحديد تلتقي العقيدة الإخوانية بواحد من أهم شروط الدولة العبرية. أن لا تكون للدول العربية جيوش. وسيكون أفضل لو تخلصت تلك الدول من طابع الدولة الحديثة لتكون مجرد كيانات جغرافية ملحقة بأفكار غامضة لا نصيب لها في التطبيق الواقعي كما هو شعار "الحكم لله" وهو الشعار التي تبنته كل التنظيمات والجماعات الدينية المتشددة ومنها الهيئة التي قُدر لها أن تحل محل نظام بشار الأسد. سيكون الوضع مريحا بالنسبة للصهاينة إذا ما جرى إلغاء الدولة في سوريا بالطريقة نفسها التي حُل من خلالها الجيشان الوطنيان في سوريا والعراق.
كان الأمريكان واضحين في العراق حين أكدوا أنه لن يكون هناك جيش وطني. البديل هو جيش مهني. وإذا ما عرفنا أن القوات المسلحة العراقية اليوم يقارب تعدادها المليون منتسباً وهي في الوقت نفسه غير قادرة بأسلحتها الأمريكية الحديثة على مواجهة تنظيم بدائي مسلح مثل داعش يمكننا أن نفهم ما المقصود من المهنية.
تمشي سوريا على الطريق المهنية نفسها.
تلك طريق يمكنها أن تقول كل شيء عن الغد السوري. من يتفاءل بذلك الغد فهو سعيد الحظ بمهنيته على الطريقة الأميركية. سيكون الجيش الذي اختفى واحدة من فقرات ذلك الحظ السعيد. وسوريا لن تنتظر كثيرا حتى يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض. فهيئة تحرير الشام هي تنظيم مسلح ظلامي سبق له أن أقام علاقات بحركة القاعدة وتنظيم داعش وله تاريخ موثق في الإرهاب وإلى وقت قريب كانت إمارته في إدلب عبارة عن قندهار سورية ولم تكن غزوته الأخيرة التي استطاع من خلالها أن ينهي سلطة عائلة الأسد في سوريا لتتم لولا رعاية أمريكية كاملة في سياق مخطط إسرائيلي كانت تركيا هي الطرف المنفذ له. لذلك يمكن القول إن الغد السوري بات قريبا. لا ينفع والحالة هذه أن يكون المرء متفائلا أو متشائما.
سوريا في انتظار غد مظلم. كل التفاهة التي تروج لأفكار مضللة ومخادعة يمكنها أن تمر سريعاً غير أن الحقيقة على الأرض تقول إن سوريا باتت في قبضة تنظيم ظلامي مدعوم من الولايات المتحدة وقبلها إسرائيل. أما أن يُقال أن الجماعة الإرهابية قد انقلبت على منظومتها الفكرية وصارت جمعية فكرية تتبنى الأفكار النهضوية وأن هناك سوء فهم قد أدى إلى اعتبار الجولاني إرهابياً فإن ذلك يعبر عن رؤية سبق لها وأن تعاملت مع الشعوب العربية باعتبارها شعوبا غير ناضجة وتستحق أن يُضحك عليها.
وعلى الرغم من السخرية الواضحة في ذلك المنطق فإن ما تشهده سوريا من صدام عنيف بين مجتمعها المدني وبين النظام الجديد سيعيد الاعتبار إلى الحقيقة التي جرى ويجري طمسها.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد حصاد 2024 الحرب في سوريا عودة ترامب خليجي 26 عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات سقوط الأسد فی العراق فی سوریا
إقرأ أيضاً:
السلام والتعايش في سوريا سبيل الاستقرار
تعيش سوريا مرحلة انتقالية معقدة تتشابك فيها امتدادات أزمات الماضي مع مشكلات الحاضر، وتتنوع المعضلات من السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية وإعادة الإعمار وحتى الحفاظ على كيان الدولة السورية، بتنوعاتها الوطنية، لكن رغم كل هذه التعقيدات، فإن إمكانية بناء مستقبل مستقر عنوانه الحوار والتعايش والسلام ممكن، مع عدم إعطاء الذرائع للتدخلات الخارجية في البلاد، خاصة في تغيير الجوانب الجغرافية والديموغرافية السورية.
إن الحوار بداية الطريق لتحقيق التعايش والسلام في سوريا، بشرط استيعاب كل الأطياف، والتشارك في صياغة رؤية مشتركة لمستقبل البلاد قائمة على العدالة والمساواة والتعددية وسيادة القانون، ولإفراز الحوار نتائج جيدة على الجميع طي صفحات الماضي، بالتوازي مع تأسيس آليات لـ”العدالة الانتقالية”، لضمان محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم بحق المواطنين وتعويض الضحايا، بما يضمن الانتقال السلمي والاستقرار في سوريا على المدى الطويل، فلا يمكن لمجتمع متنوع جغرافيًّا ودينيًّا تحقيق الاستقرار إلا بتوافق وطني يضمن تداول السلطة، والحفاظ على مؤسسات الدولة، واتخاذ خطوات عملية لترميم الثقة بين جوانب البلاد.
وتعالج المصالحة الوطنية آثار النزاع بين الأطراف المختلفة في المجتمع، حتى تعود الثقة بين المواطنين والدولة ومكونات المجتمع ككل، وحينها ننظر إلى الأمام وبناء المستقبل، خاصة أن الحرب في سوريا خلفت في السنوات الماضية عشرات الآلاف من الانتهاكات والجرائم، وحال الظن أن المصالحة الوطنية كافية دون عدالة انتقالية، فإن هذه الحالة تتجاهل محاسبة مرتكبي الجرائم، وتضعف الثقة في الدولة ومؤسساتها.
وسوريا ليست الوحيدة المارّة بالانتقال السياسي، فالدول مرت بتجارب مختلفة نتيجة صراعات طائفية أو عرقية أو الانتقال السياسي بعد سقوط أنظمة سياسية، ومع تحديات سوريا، إذ يعيش المواطن السوري ظروفًا صعبة نتيجة لتداعيات الحرب واضطرابات وتوترات الحاضر، على كل فئات المجتمع احترام التنوع، وربما تحويله إلى قوة دافعة لتعزيز الأمن وتسوية النزاعات بالطرق السلمية وإرساء السلام دون الإقصاء، أو تصور أن فئة يمكنها التحكم في كل شيء، وبالعكس ينبغي على الكل إدراك أن الوطن هو إرادة مشتركة ورغبة في العيش المشترك وصهر للانتماءات الفرعية في الوطن الكبير.
إن البديل عن السلام هو العنف والصراع، ومقتضيات السلم الأهلي تتطلب نبذ الكراهية والوعي بأهمية التعايش المشترك، وتغليب الصالح العام على الخاص، ولا يجوز إلغاء الآخر، فالاختلاف والتعدد أمر واقع، وإبراز قيم العيش المشترك أولوية في السلم الاجتماعي، وحفظ الاستقرار والأمان حتى مع وجود اختلافات في الدين أو المعتقد أو الرأي أو الثقافة، لكن على اعتبار أساسي هو رفض كُل أشكال الاقتتال، والانصياع للقانون وسيادته على الكل أيًّا كان المنصب أو الطائفة أو العرق أو الدين.
ويؤسّس خطاب الكراهية والتعصب لانقسامات مجتمعية عميقة، وبالتالي احتمال اندلاع الصراعات والحرب الأهلية، وأي إدارة سياسية ترتكز على الحكمة يهمها العبور إلى بر الأمان دون فرقة، وعدم القبول بأي تجاوزات أو انتهاكات تضعف الانتماء للوطن، أو تخلق مدخلًا للنزعات الانفصالية، ويمكن للدول فرض سيادتها على كامل أراضيها، لكن ليست كل الوسائل المتاحة عنيفة، وبالإمكان توفير البيئة الآمنة لتمكين الناس من إدارة شؤون حياتهم دون مخاوف، وضمان سيادة القانون والمساواة بين الناس حتى يثق كل أفراد الشعب بالقانون وسلطات القانون، ومشاركة كل أطياف الشعب في العملية السياسية.
وفي أعقاب الصراعات المسلحة، تتأزم مراحل الانتقال السياسي خاصة إذا ترافقت مع الحاجة إلى إعادة بناء مؤسسات داخلية، وإدارة تهديدات خارجية معقدة، وإذا ارتكز النهج على المرونة مع الخارج، دون عملية حوارية تشاركية في الداخل، فإن المآلات قد لا يُحمد عقباها، ولو أرادات الإدارة السورية التقدم تجاه التوافق والتعايش والسلام في البلاد، فإن عليها فتح المجال أمام حوارٍ وطنيٍّ لا يستثني أحدًا، وفتح المشاركة السياسية للجميع، وسيادة القانون في البلاد، وإنشاء آليات للعدالة الانتقالية تُتيح معالجة مظالم الماضي بشكل بناء.
إن انخراط كل المكونات السورية في مشروع وطني يتجاوز الانتماءات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية السبيل لإرساء الأمن والاستقرار لانطلاق سوريا إلى التنمية والازدهار، عبر المشاركة المجتمعية في بناء المؤسسات وصياغة السياسات، وحماية حقوق الأقليات من الحق في الوجود والهوية والمساواة أمام القانون حتى التمثيل العادل في المؤسّسات، ومنع تحوّل الانقسامات إلى سياسة دائمة، وتفادي الاستقطاب، ويمكن ترسيخ هذه القيم في دستور يقوم على أسس التعايش والسلام في الدولة الجديدة، مع وضوح مسار عملية الانتقال وعدم ترك الباب مفتوحًا وممتدًّا حسبما تحددها الظروف.