كأس الخليج: الظاهرة الاجتماعية
تاريخ النشر: 21st, December 2024 GMT
يحفل الشارع الخليجي هذه الأيام بالحديث وتوجيه النظر نحو بطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم، وذلك في نسختها الـ 26 والتي تستضيفها دولة الكويت العزيزة، وتجتمع فيها منتخبات الخليج العربي الـ 8 لتعيد إلى الأذهان صورًا ومشاهد امتدت عبر تاريخ هذه المنطقة من التنافس على البطولة التي يعتبرها سكان منطقة الخليج العربي ذات رمزية مهمة في سياق الاجتماع الخليجي.
في تقديرنا هناك خمسة أسباب تستوجب استمرار بطولة كأس الخليج كحدث أساسي ودوري في هذه المنطقة، ومع هذه الأسباب لابد للقيادات الخليجية أن تحرص على تطوير ودعم وتمكين هذا الحدث؛ الأول أن هذه البطولة عبر تاريخها أسهمت بشكل موسع في تطوير العديد من أشكال البنى الأساسية في دول المنطقة، فالدول في استضافاتها المتعددة سارعت لتجهيز أفضل المرافق الرياضية، وهيأت العديد من البنى الأساسية في مجال السياحة والضيافة، إضافة إلى المنشآت والمرافق اللوجستية الأخرى التي هدفت معها لتقديم أفضل الاستضافات والنسخ، وعلى مستوى المجمعات الرياضية فهناك ملاعب أصبحت اليوم من أبرز المرافق الرياضية على مستوى الإقليم والعالم كانت قد أنشأت لأغراض استضافة البطولة. وهي حالها - في أوقات سابقة - من تاريخ المنطقة كحال استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، وهذا يقودنا للسبب الثاني لضرورة استمرار مثل هذا الحدث؛ وهو أن اليوم ومع تسابق دول المنطقة لاستضافة أحداث رياضية كبرى وعلى رأسها كأس العالم لكرة القدم، والأحداث الرياضية العالمية والإقليمية الأخرى فإنها تتكئ على إرث من خبرات التنظيم والتجهيزات وإدارة الفعاليات الذي كانت بطولة كأس الخليج رافدًا أساسيًّا له عبر عقود سابقة. لقد استطاعت هذه البطولة عبر ما تشهده من توافدٍ واسع من كافة الأقطار الخليجية للدول المستضيفة أن تشكل رصيدًا جيدًا لهذه الدول، سواء في مجال تصميم وإدارة التجارب الرياضية المتكاملة، أو تنظيم الاحتفالات الافتتاحية والختامية، أو إدارة الحشود والتجمعات، أو التسويق والإدارة الإعلامية، أو التنسيق الدولي للأحداث، ونسخة بعد نسخة كانت القوى البشرية في المنطقة تتعلم وتكتسب خبرات وتجارب جديدة في هذا السياق.
السبب الثالث الذي نراه لضرورة استمرارية مثل هذا الحدث هو أنه أبرز خبرات خليجية في مجالات مختلفة مرتبطة بـ Ecosystem المنافسة الرياضية في ذاتها؛ فلو أخذنا الإعلام على سبيل المثال يمكن العد في الكثير من أسماء الإعلاميين الرياضيين الذين ارتبط بزوغهم واستمرارهم وتأثيرهم من خلال بطولات كأس الخليج المتوالية، وعلى الجانب الآخر هناك من القنوات الإعلامية والبرامج المصاحبة التي بدأت وبعضها استمر حتى اليوم مرتبطًا بهوية البطولة، ومعبرًا عن التشاركية الخليجية - الخليجية في إبراز مشهدها، فالإعلاميون الرياضيون في المنطقة يعتبرون التجمع الخليجي فرصة بارزة للتعبير عن قدراتهم، ومشاركة أقرانهم في أقطار الخليج الأخرى تفاصيل الحدث، والتنافس في إبرازه بالصورة اللائقة. أما السبب الرابع والأهم في ضرورة استمرارية كأس الخليج العربي فهو أنها ظاهرة اجتماعية بامتياز، لدرجة أن بعض متابعيها يرون أن ما يحدث خارج الملعب من تفاعل اجتماعي وشعبي وهوياتي أهم وأكثر لفتًا مما يحدث داخله، شكلت كأس الخليج ما يُعرف في علم الاجتماع بنسق (الهويات التفاوضية Identity negotiation) يأتي المشجع من (س) من دول الخليج بزيه وأهازيجه وثقافته وكل الرمزيات المعبرة عن هويته الوطنية، وانتمائه القُطري، ليجد نفسه منصهرًا لاحقًا ضمن هوية خليجية أشمل، يتفاعل معها، ويعيد من خلالها تشكيل ذاته، وينسجم بطريقة تلقائية ضمن حيز مكاني، أو تجمع عام، أو مع مشهد معين في صورة الهوية الخليجية الأسمى. وهناك الكثير من السرديات في شكل أغنيات أو مشاهد أو مواقف تشكل الدلالة الرمزية لما نتحدث عنها، هذا الحدث في ذاته كما يقول جوفمان يجعل من «الهوية عملية تفاعلية»، ويجعل من الحدث بكل تفاصيله موقفًا تفاوضيًّا على الهوية ذاتها.
السبب الخامس الذي نسرده في هذا السياق هو أن هذه البطولة تستمد قيمتها في الأساس من اجتماع الفاعلين الاجتماعيين، أكثر من أي قيمة أخرى، فهي لا تحكمها في المقام الأول المرجعية لمعايير البطولات العالمية والاعتراف المؤسساتي بها، ولا تحكمها كذلك سطوة وقوة منتخبات بعينها، ولا تحكمها القيمة المادية لجوائزها ومكافآتها، بقدر ما يحكمها ما يمنحه المجتمع الخليجي ككل من قيمة وتفاعل وأهمية لكل تفاصيلها، وما تشكله عبر ذاكرتهم من أهمية قصوى لاستدامة الاجتماع الخليجي. في 2015 كنت قد أجريت دراسة وصفية شملت عينة من شباب دول الخليج العربي في الأعمار بين (18 - 45 عامًا)، وكانت تبحث في التأثيرات الاجتماعية لكأس الخليج العربي لكرة القدم على الهوية الخليجية، وما لفتني في النتائج أن النتيجة الوحيدة التي لم يكن للعوامل الاجتماعية تأثير فيها (أي أن هناك إجماعا مطلقا من مختلف عناصر العينة عليها) هي الشباب في المنقطة يرون بشكل مطلق بأن كأس الخليج يعزز من روح التعاون والتضامن بين الشباب الخليجي. وهذا في تقديرنا مكتسب مهم يجب البناء عليها والمحافظة على استدامته بعيدًا عن أي تفاصيل أخرى مرتبطة بالجوانب الفنية أو الجوانب المؤسساتية.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخلیج العربی کأس الخلیج هذا الحدث الخلیج ا
إقرأ أيضاً:
21 ألف قضية خلال شهر| الشحاتة في العيد الكبير.. وجه قبيح يبدد روح العطاء
يحتفل المسلمون في مختلف أنحاء العالم بعيد الأضحى المبارك، ثاني أكبر الأعياد الدينية في الإسلام، حيث تتوحد فيه الأمة الإسلامية والعربية على توقيت واحد، بخلاف عيد الفطر الذي قد تختلف مواعيده من بلد لآخر.
ويتميز عيد الأضحى بروح التكافل الاجتماعي التي تتجلى في ذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء والأقارب والأصدقاء والجيران، إضافة إلى الإكثار من أعمال البر والصدقات.
إلا أن هذه المناسبة السعيدة التي تتجلى فيها مشاعر الرحمة والتكافل، تشهد سنويًا تزايدًا ملحوظًا في ظاهرة مزعجة باتت تؤرق كثيرًا من الدول العربية والإسلامية، بل والعالم أجمع، وهي ظاهرة التسول أو "الشحاتة" كما يُطلق عليها في مصر، والتي تزداد حدتها خلال الأعياد والمناسبات الدينية.
ظاهرة التسول لم تعد مقتصرة على بلد بعينه أو فئة محددة، بل تحولت إلى ظاهرة عالمية "عابرة للقارات"، تُلاحظ في الشوارع والميادين وأمام المحلات والمساجد وحتى الكنائس، سواء في الدول الفقيرة أو الغنية.
ومع بداية كل مناسبة دينية أو وطنية، تظهر هذه الظاهرة بشكل فج، الأمر الذي يمثل جريمة على المستويين الاجتماعي والقانوني، ويشوه المظهر الحضاري للمجتمعات.
بل إن الأمر لم يقتصر على التسول في الأماكن العامة، بل تعداه إلى اقتحام العمارات السكنية وطرق أبواب المنازل، وهو ما يزيد من خطورة هذه الظاهرة وانعكاساتها على الأمن المجتمعي، ويطرح تساؤلات حول مدى جدية التصدي لها قانونيًا وأمنيًا.
تعريف التسول في المفهوم الشرعي والقانونييُعرّف التسول بأنه استجداء الناس في الطرق والأماكن العامة باستخدام أساليب تُثير الشفقة وتستدر العطف، وهو من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تنتشر في مختلف المجتمعات. وقد تصدت له معظم التشريعات القانونية في العالم، وأولته اهتمامًا خاصًا نظرًا لتأثيراته السلبية على الأمن والسلم المجتمعي.
وفي هذا السياق، يشدد الإسلام على النهي عن سؤال الناس دون حاجة، كما جاء في قوله تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" (البقرة: 273).
وقد حثت السنة النبوية كذلك على الكف عن السؤال إلا لحاجة ماسة، وجعلت الكفاف والعفة من مظاهر كمال الإيمان.
إحصائيات صادمة: ملايين المتسولين حول العالمبحسب آخر الإحصائيات الصادرة عن مركز مكافحة الجريمة، فقد بلغ عدد المتسولين على مستوى العالم ملايين الأشخاص من مختلف الفئات العمرية، من الشيوخ إلى الشباب، من الرجال والنساء، الذين يجوبون الشوارع لطلب المال بطرق مباشرة وغير مباشرة، مستخدمين في كثير من الأحيان وسائل الغش والخداع لجذب تعاطف الناس.
ويجد العديد من المتسولين في "الشحاتة" وسيلة سهلة للربح السريع دون مشقة أو عناء، خاصة في ظل تعاطف المارة مع كبار السن أو النساء، وهو ما أثبتته وقائع تم ضبطها من قبل الجهات الأمنية، وكشفت أن بعض هؤلاء يمتلكون ممتلكات ومبالغ مالية ضخمة، ويزاولون التسول كمهنة مستمرة لا حاجة حقيقية لها، مدفوعين بغياب الوازع الديني والرقابة المجتمعية.
القانون المصري يواجه ظاهرة التسول منذ 1933وفي مواجهة هذه الظاهرة، كان للمشرع المصري موقف حاسم منذ عشرات السنين، حيث صدر القانون رقم 49 لسنة 1933 لمكافحة التسول، وتضمن نصوصًا صريحة لتجريم التسول وفرض العقوبات على من يثبت عليه الفعل.
وجاءت المادة الأولى من القانون لتنص على معاقبة كل من يتسول في الطريق العام وهو صحيح البنية، ذكراً كان أو أنثى، يبلغ من العمر 15 سنة أو أكثر، بالحبس مدة لا تتجاوز شهرين.
كما نصت المادة الثانية على الحبس لمدة لا تتجاوز شهرًا لكل شخص غير قادر بدنيًا على العمل، إذا وجد متسولًا في مدينة أو قرية توجد بها ملاجئ وكان من الممكن له الالتحاق بها.
أما المادة الثالثة، فقد شددت العقوبة إلى الحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة شهور، في حال ثبوت أن المتسول يتظاهر بجروح أو يستخدم وسائل خداع أو غش لكسب تعاطف الجمهور.
ووفقًا لـ المادة الرابعة، يُعاقب بذات العقوبة كل من يدخل دون إذن إلى منزل أو محل بهدف التسول، وهو ما يعكس شمول القانون لأشكال التسول كافة، بما فيها اقتحام الأماكن الخاصة.
جهود أمنية متواصلة: آلاف القضايا في شهر واحدوفي خطوة ميدانية حازمة، واصلت وزارة الداخلية المصرية شن حملات أمنية مكثفة في مختلف المحافظات لمكافحة التسول. وأسفرت جهود هذه الحملات خلال شهر مايو 2025 عن ضبط 21,455 قضية تسول في شوارع وميادين مصر، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المتورطين، في محاولة لفرض النظام واستعادة المظهر الحضاري للشارع المصري.
بين القانون والدين.. مسؤولية مشتركةرغم الجهود القانونية والأمنية، فإن القضاء على ظاهرة التسول يتطلب تعاونًا مجتمعيًا شاملاً، يقوم على تعزيز القيم الدينية والأخلاقية، ورفع الوعي لدى الأفراد بعدم تشجيع المتسولين، والحرص على توجيه الصدقات إلى مستحقيها الحقيقيين عبر الجمعيات الموثوقة.
كما يجب على المؤسسات المعنية بالدولة، لا سيما وزارات التضامن والتنمية المحلية والداخلية، أن تعمل على وضع خطط استراتيجية لاحتواء هذه الظاهرة من جذورها، وذلك من خلال توفير بدائل اقتصادية واجتماعية للمتسولين الحقيقيين، وملاحقة المتسولين المحترفين قانونيًا، حفاظًا على أمن المجتمع وصورته الحضارية.
وفي هذا السياق، شدد الخبير القانوني والمحامي بالنقض، سيد القصاص، على أن التسول "لم يعد حالة فردية استثنائية، بل بات ظاهرة منظمة يديرها بعض الأشخاص كوسيلة للربح السريع"، لافتًا إلى أن هذه الممارسة تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون المصري بموجب القانون رقم 49 لسنة 1933 الخاص بمكافحة التسول.
عقوبات التسول في القانون المصريأضاف المستشار سيد القصاص، في تصريحات لـ “صدى البلد”، أن القانون المصري يعاقب على التسول عبر عدة مواد قانونية، أبرزها الحبس مدة لا تتجاوز شهرين لكل شخص صحيح البنية (ذكرًا كان أو أنثى) يبلغ 15 عامًا أو أكثر يتسول في الطريق العام، والحبس لمدة لا تزيد عن شهر لمن هو غير صحيح البنية، وكان بإمكانه اللجوء إلى إحدى الملاجئ ولم يفعل، والحبس لمدة تصل إلى ثلاثة شهور لكل من يستخدم وسائل احتيالية كالجروح أو العاهات لاكتساب عطف الجمهور، كما أن العقوبة ذاتها تطبق على من يدخل أي منزل أو محل بغرض التسول دون إذن.
ولفت القصاص، إلى أن المواجهة القانونية لم تكن كافية وحدها، بل اتخذت الدولة المصرية خطوات تنفيذية حاسمة لمواجهة الظاهرة، حيث تطلق الدولة ممثلة في وزارة الداخلية حملات أمنية مكثفة باستمرار لمكافحة ظاهرة التسول والقضاء عليها.
ويؤكد القصاص أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في توقيع العقوبة، بل في إغلاق الأبواب التي يُتخذ منها التسول ذريعة، سواء كانت جهلًا أو فقرًا أو غيابًا للعدالة الاجتماعية، مشددًا على أن تكافل المجتمع مع جهود الدولة هو السبيل الفعلي للقضاء على هذه الظاهرة المشينة.