محمد عبدالوهاب الشيباني

بين مولد عمر عبد الله السقاف (عمر الجاوي) في قرية الوهط، التابعة للسلطنة العبدلية في لحج، في العام 1938، وبين سفره ضمن بعثة طلابية للاتحاد اليمني في العام 1954 إلى القاهرة ضمت خمسة طلاب من قرية واحدة سيكون لأكثرهم شأن في تاريخ اليمن المعاصر في الشمال والجنوب، وهم: أبو بكر السقاف، ومحمد جعفر زين السقاف، وعمر الجاوي، ومحمد عمر إسكندر السقاف، وعلي عيدروس السقاف؛ تقتضي المقاربة الإشارة إلى التأثيرات المبكرة الثقافية والسياسية في وعي الطفل الذي بالكاد يقف على عتبة العاشرة من عمره وهو يتلقى تعليمًا نظاميًا حديثًا في عاصمة السلطنة العبدلية، مدينة الحوطة، وتحديدًا في المدرسة المحسنية العبدلية التي أسسها الأمير محسن بن فضل شقيق السلطان عبد الكريم فضل، واستقدم لها المناهج والمعلمين من مصر والسودان والعراق، وتخرَّج منها رواد العمل السياسي والثقافي في السلطنة والجنوب واليمن عمومًا.

وبعد اعتراف المعارف المصرية بشهادة المدرسة “المحسنية”، بدأت معارف السلطنة بإرسال البعثات إلى مصر، لإتمام تعليمهم الثانوي والجامعي، كما يقول السلطان علي عبد الكريم في مذكراته.

بعيد ثورة يوليو المصرية في العام 1952، كانت “رابطة أبناء الجنوب العربي” هي الطرف السياسي الفاعل داخل السلطنة العبدلية، وكان السلطان علي يتخذ من رئيسها محمد علي الجفري مستشاره الأقرب. كما جعلت خلافات الرابطة العميقة منذ تأسيسها في العام 1950 مع الجمعية العدنية، السلطانَ والرابطة أقرب للخطاب العروبي الذي بدأ يسطع في العاصمة المصرية، في الوقت الذي احتمت فيه الجمعية العدنية بخطاب انعزالي تغذيه السلطة الاستعمارية، لهذا كان العديد من رموز الطبقة الوسطى في المحميات الجنوبية ومدينة عدن يتواجدون في صفوف الرابطة، حتى أولئك كانوا لاحقًا على رأس الأحزاب والتنظيمات اليسارية والقومية.

في تلك الفترة نشطت وبشكل لافت بعثات الطلاب اليمنيين من الشمال والجنوب إلى المدارس والجامعات والمعاهد المصرية، فكان للسلطنة بعثتها التعليمية، ومثّلها نادي شباب لحج، وحزب الرابطة، والأندية القروية في عدن، والأهم الاتحاد اليمني الذي تحصل على عديد من المنح إلى مصر في العام 1953 إبان رئاسة الشيخ عبد الله علي الحكيمي له. وكانت أول منحة تضم أسماء رائدة، منها: سعيد الشيباني، وفتح الأسودي، وأحمد الشجني، وعبد الوهاب عبد الباري، وعلي الدعيس، ومحمد عبد الملك أسعد. وفي العام الموالي كانت بعثته الثانية التي استوعبت السقاقفة الخمسة إلى جانب محمد عبد الولي وعبد الله حسن العالم، وانضم إليها في ذات العام محمد علي الشهاري، وسلطان أحمد عمر.

 

في قراءته للتكوين الباكر لمحمد عبد الولي في فترة القاهرة، وهو ما يمكن أن يُسقط على كل زملائه القريبين ومنهم عمر الجاوي وأبو بكر السقاف، يقول الدكتور علي محمد زيد في كتابه “الثقافة الجمهورية”:

 

“في سنة 1954 حصل على منحة للدراسة في مصر ومعه مجموعة من الطلبة الذين سيكونون فيما بعد من العاملين للتحرر من ظلام القرون الذي يهيمن على اليمن، ونجومًا في المجال الثقافي، مثل عمر الجاوي، وأبو بكر السقاف، وخالد فضل منصور، وأبو بكر باذيب. ومن الملاحظ أن المنحة الدراسية التي حصلوا عليها كانت إلى الأزهر، وأنهم أقاموا في مدينة البعوث الإسلامية في القاهرة.

 

وحين وصلوا إلى مصر للدراسة كانت القاهرة في حالة غليان سياسي وثقافي؛ فهي السنة التي تحقق فيها جلاء القوات البريطانية من مصر، وزوال آخر مظهر من مظاهر الاستعمار البريطاني لمصر، وهي أيضًا السنة التي حُسم فيها الصراع بين قيادة الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 يوليو 1952 وأنهوا الملكية وأقاموا الجمهورية على أنقاضها، لصالح صعود نجم جمال عبد الناصر بدعوته إلى القومية العربية. وتوِّج هذا الصعود لمكانة مصر ولزعامة جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس سنة 1956، واستعادة مصر للسيادة عليها، ونجاح الدبلوماسية المصرية في التصدي للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على بور سعيد، وانسحاب القوات المعتدية. وكان للاتحاد السوفيتي السابق ولحركة عدم الانحياز دور مهم في دعم صمود مصر وتصديها للعدوان.

 

وكان المتوقع أن يقع الطالب وزملاؤه إما تحت تأثير التيار الإسلامي بفعل دراستهم في الأزهر، أو تحت تأثير الحركة الناصرية التي كانت في أوج صعودها، حتى حققت أكبر إنجازاتها بتوحيد مصر وسوريا وقيام “الجمهورية العربية المتحدة” سنة 1958، محققة حلم أجيال من القوميين العرب بوحدة أبناء الأمة العربية في دولة واحدة وتحت علم واحد، لكنهم فاجأوا الجميع بانتمائهم لليسار، واقترابهم من الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في مصر المعروفة اختصارًا بـ “حدتو”، وهي حركة يسارية سرية شارك ضباط منتمون إليها في تنظيم الضباط الأحرار الذي فجر الثورة في مصر، ومن أشهرهم خالد محيي الدين، ويوسف صديق.

 

وفي هذه الفترة برز مجموعة من زملائهم في الدراسة في القاهرة وفي حركة اليسار، مثل محمد أنعم غالب، وعبده عثمان، وإبراهيم صادق، وهي المجموعة التي تولت قيادة “مؤتمر الطلبة اليمنيين الدائم في مصر”، وأصدرت بيانًا ما يزال يعد وثيقة تاريخية تجاوزت غموض حركة الأحرار المعارضة، وظل هذا البيان وثيقة تاريخية مهمة تمسكت به المجموعة اليسارية التي كتبته وأصدرته وناضلت في سبيل تحقيقه، وكان عمر الجاوي أكثر من اعتبره رسالة حياته كلها حتى غادر الحياة دون أن يتخلى عن قناعاته الوحدوية، على الرغم من التراجعات والانهيارات السياسية التي شهدتها البلاد”؟

 

أمام هذه الجزئية توقف أيضًا الدكتور أحمد القصير في كتابه “إصلاحيون وماركسيون” حين قال:

 

“أسهمت الحركة الطلابية اليمنية في مصر بدور اتسم بالريادة فيما يتعلق بقضية الوحدة اليمنية، فقد طرحت تلك الحركة مفهوم الوطن الواحد ووحدة التراب اليمني، وكانت أول حركة سياسية يمنية تضم جميع أبناء اليمن الطبيعي. كانت التنظيمات السياسية اليمنية تعمل، في ذلك الوقت، في إطار واقع يقوم على تجزئة البلاد وتقطيعها ما بين الاستعمار والإمارات في الجنوب والإمامة في الشمال، غير أن الحركة الطلابية اليمنية تجاوزت، منذ إنشائها هذا الواقع على مستوى كل من الفكر والممارسة… كما أسهمت أعداد ليست قليلة -من المنتمين إليها- بفعالية في النشاط العام الذي كان يجري في مصر وفي تلك التطورات ذاتها؛ وكان ذلك من خلال انضمامهم إلى منظمة (الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني) المصرية المعروفة باسم (حدتو)؛ وهو ما أكسبهم معرفة ونضجًا وأغنى تجربتهم. وكان قادة الحركة الطلابية اليمنية بمصر يحرصون دومًا على أن يسخِّروا وعيهم وخبرتهم لخدمة قضية مستقبل اليمن ووحدته”.

لم يصل قادة العمل الطلابي إلى العام 1959 إلا وكان ناشطوهم من صفوف اليسار على رأس قوائم المخابرات المصرية، التي قامت بملاحقتهم، وطردهم من مصر، وكان أبرز المطرودين “عمر الجاوي، ومحمد عبد الله باسلامة، ومحمد جعفر زين السقاف”، فلم يجد بعض زملائهم من وسيلة للاحتجاج غير التضامن مع المطرودين بالعودة إلى الداخل اليمني، ومن المتضامنين العائدين كان: أبو بكر السقاف، ومحمد أحمد عبد الولي، وعلي حميد شرف، وحمود طالب، وأحمد الخربي، وعبد الله صالح عبده، وعمر غزال، ونجيب عبد الملك أسعد، وعبد الرحمن البصري، وعلوي جعفر زين، وخالد فضل منصور، وآخرون”.

عودة الجاوي ورفيقيه المطرودين، ولاحقًا بقية المتضامنين إلى تعز، شكلت محطة جديدة في تجربة التكوين عند الجاوي، إذ ستصادف إقامة المفكر اليساري عبد الله عبد الرزاق باذيب فيها أثناء إصداره لصحيفة “الطليعة”، بعد طرد السلطات الاستعمارية له من عدن، فاستغل الجاوي هذه الفرصة لنشر العديد من المقالات والمواد الصحافية في الصحيفة ذات التوجه اليساري.

لمدة عام بقي الجاوي وصحبه في تعز يتابعون منحًا دراسية، حيث عمل ولي العهد محمد البدر، وبعد مراسلات وتظلمات، وبعد موافقة والده المريض في إيطاليا، على إعادة ابتعاثهم للدراسة الجامعية في عدد من دول المعسكر الاشتراكي مثل روسيا وألمانيا، ومن الذين اُبتعثوا: محمد جعفر زين إلى ألمانيا الشرقية لدراسة القانون، وأبو بكر السقاف وعمر الجاوي ومحمد عبد الولي وعبد الله حسن العالم إلى موسكو، فتخصص الأول بالفلسفة، والثاني بالصحافة، والثالث هرب من الهندسة إلى الآداب، أما الرابع (العالِم) فدرس العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة موسكو.

 

تخرج الجاوي من كلية الصحافة في جامعة موسكو صيف العام 1966، حاملًا درجة الماجستير عن رسالته الموسومة (الصحافة النقابية في عدن)، لكن قبل ذلك كان قد عاد إلى تعز في العام 1963 حيث عمل مدرسًا ومترجمًا في المركز الحربي، وعن هذه المحطة يقول سلطان أحمد زيد في كتابه “محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن”:

 

“أتذكر حينها وصل إلى تعز من كانوا يوصفون “بالحُمر” أصحاب الهامات المرتفعة ذات الوزن والثقل الثقافي والفكري –كما كنا نطلق عليهم– وهم: الجاوي عُمر، والسقاف أبو بكر، وعبد الله حسن العالم، وحسين السقاف، من موسكو تاركين دراستهم وملتحقين بمسار موكب الثورة ومدها بكوادر من الشباب مثلهم مثل شباب البعث يحي الشامي، وسيف أحمد حيدر الذين وصلوا من القاهرة، فقد كان يقوم الجاوي ورفاقه بمهمة الترجمة للخبراء السوفييت”.

 

فترة التكوين الباكرة لعمر الجاوي ارتبطت بدرجة رئيسة بالتعليم الحديث، الذي تحصل عليه أولًا في المدرسة المحسنية في حوطة لحج، بمدرسيها العرب المستنيرين حين كان طالبًا بها مطلع الخمسينات، وتاليًا بالتعليم العصري الذي نعم به في المدارس والكليات المصرية في ذروة المد الناصري، والذي كان يمثل القيمة المتعاظمة لتأسيسات الخطاب العام الذي تشربه مع صعود حركة التحرر الوطني بعيد الحرب العالمية الثانية، وثالثًا بدراسته للصحافة في جامعة موسكو في ذروة الاستقطاب الأيديولوجي، لهذا كان من الطبيعي جدًا أن يصير الهم الوطني على رأس شواغل الطالب المتمرد الذي لم يكل أو يمل طيلة حياته من مقارعة الاستبداد والقوى الرجعية المعيقة لبناء الدولة وتطور المجتمع”.

 

(2)

 

قليلون هم الذين عرفوا أن النصوص الشعرية العديدة التي نشرت في مجلة “الحكمة” و”الثقافة الجديدة” و”14 أكتوبر” و”اليمن الجديد” في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وكانت توقع تحت اسم “ذو نواس” لم تكن سوى للمثقف الوطني (عمر عبد الله الجاوي 1938ـ 1997)، لأن المتحقق الكتابي والمتعين الواضح في مسيرة الرجل، كانت تختزله ككاتب سياسي مختلف، مشكلًا في حضوره الصاخب امتدادًا لافتًا لمدرسة الأحرار اليمنيين، الذين زاوج منتسبوها بين انصرافاتهم الثقافية ـ كشعراء وكتّاب ـ وهمومهم الوطنية (كمناضلين) ضد منظومة الحكم الثيوقراطي المنغلق في الشمال اليمني، والحكم الاستعماري السافر في الجنوب اليمني. أما المتواري الحقيقي في هذه السيرة هو الشاعر الذي ازداد استتارًا خلف المرموز الإشكالي في تاريخ اليمن القديم، “يوسف أزار”، أحد الأذواء الحميريين أو ما يعرف تاريخيًا بذي نواس الحميري، الذي تنسب إليه محرقة نجران حسب المدونات التاريخية والأسطورية.

 

لكن التكشف والإبانة الكاملة لمنجز هذا الشاعر عند الكثير من القُراء، ستكون بعد رحيله بستة أعوام بصدور مجموعته الشعرية اليتيمة التي حملت عنوان “صمت الأصابع” (منشورات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عام 2003) والتي لم تُقرأ بعناية نقدية كافية، بعد سبعة عشر عامًا من صدورها.

 

المجموعة في محصلتها استبصارات كتابية لموضوعات متجسمة وملتقطات لوقائع وحالات لم تسلْ في الكتابة السياسية عند صاحبها بل تقطرت جماليًا في نصوص شعرية، بمستدركات ظرفية لا يمكن أن تحاكم بأدوات قراءة تتقدم بعض نصوصها بأكثر من نصف قرن.

 

فالنص الأول في المجموعة الذي حمل عنوان “خواطر عكفة” أُشير في تذييله الزمني أنه كتب في العام 1955، وهو عام انتقاضة الثلايا وجنوده في تعز، غير أن الصيغة النهائية للنص ستتم في أواخر الخمسينيات وتحديدًا في العام 1959، وفق التذييل ذاته.

 

فالشاب الذي لم يتجاوز عمره السابعة عشرة، لم يجد أمامه سوى أدوات الشاعر للتعبير عما يعتمل بداخله إزاء موضوع يشغل تفكير الكثيرين، وهو علاقة العسكري بالمواطن. غير أن التعبير السياسي عنه بوضوح سيكون بعد أربعة أعوام، حين سينتقل الطالب المبعد من القاهرة إلى موسكو، فيعيد صياغة النص المكتوب بمقتربات إنسانية واضحة ستتعاكس مع النظرة الكلية عن العسكري البسيط، الذي اقترن حضوره في حياة الفلاحين، وقبل هذا في الذهنية الشعبية بوصفه الأنموذج المكتمل والواضح للحظة اعتساف نظام الحكم الإمامي.

 

وحين تأخذنا المقارنة إلى نص آخر سردي أنجزه الراحل محمد عبد الولي في ذات الفترة تقريبًا، وتضمنته مجموعته القصصية الأولى “الأرض يا سلمى” الصادرة ببيروت مطلع ستينات القرن الماضي، سنجد ثمة مؤثرات ومشغلات سياسية وجمالية جعلت من رفيقين وصديقين تلازما في القاهرة وعدن وموسكو ينتجان نصين إبداعيين متقاربين زمنيًا، يحفران بعيدًا في العمق الإنساني لكائن قادته الظروف ليكون عسكريًا مذمومًا، لأن إنسانًا مثل هذا سيغدو هو الآخر ضحية للمجتمع، والنظام السياسي. ومما جاء في نص محمد عبد الولي “يا خبير”.

 

المشغلات الكتابية في مجموعة “صمت الأصابع” التي غطت نصوصها ثلاثة عقود وقليل، حسب التثبيتات الزمنية لها توزعت على ثلاث موضوعات رئيسية هي الوطني، والعاطفي، والجمالي، إن صح توصيف مثل هذا للأخير. واختزل الموضوع الوطني حضور الشاعر وانغماسه بعمق اللحظة السياسية الضاجة، وخصوصًا إرهاصات الثورة اليمنية وتحولاتها اللاحقة التي أفضت إلى الوحدة التي كان الشاعر أحد الأصوات العالية المنادية بها.

 

على قلة النصوص ذات البعد العاطفي الصريح في المجموعة، فقد مثلت استحضارًا لافتًا لامرأة تدعى “ليدا نيكولايفنا” التي تحضر في ثلاثة نصوص.

 

سيعبر الاشتغال على الموضوع الفني في مجموعة “صمت الأصابع” عن تلك الخبرات الكتابية لقلم لم يبتعد عن عوالم الصحافة والأدب بالتعايش أو المزاولة لقرابة أربعين عامًا، فكان الشعري المتخفف من حمولة السياسي أشبه بشرفة واسعة أبصر منها الشاعر ما لم يستطع السياسي الضاج والمباشر أن يراه من كُوات ضيقة ظنها ملكًا للجميع.

 

السياسي والشاعر والمثقف، صفات يختزلها عمر الجاوي بدون إقسارات أو فذلكات بما يتيح للمتتبع لتجربته في الكتابة، إسقاط ما شاء عليه من خلال هذا التنويع في التأليف والترجمة والإنجاز الفني. فاذا كان التأليف سيُختزل في كتبه: (الزبيري شاعر الوطنية، والصحافة النقابية في عدن، وافتتاحيات الحكمة، وربورتاج حصار صنعاء) وترجمته عن الروسية لكتاب “السياسة البريطانية في جنوب اليمن”؛ فإن الإنجاز الفني سيتيحه ديوان “صمت الأصابع”، كون نصوصه الباكرة تحيلنا إلى موضوع إشكالي يتعلق بموضوع الريادة الشعرية للقصيدة الجديدة في اليمن، فقبل العام 1955 لم أتحقق شخصيًا من خلال القراءة والمتابعة من نصوص شعرية كتبت متحررة من أوزان الخليل في الشعرية اليمنية المعاصرة قبل هذا التاريخ إلا تلك التي أنجزها الشاعر الفذ محمد أنعم غالب التي ستؤلف بعضها مجموعته الرائدة “غريب على الطريق” التي سيصدرها مطلع سبعينيات القرن الماضي، وربما قصيدة “عودة بلقيس” لإبراهيم صادق، التي نشرت في ذات الفترة تقريبا، وكل ذلك بعيدا عن مجموعة “ولائد الساحل” لحسين بن عبيد الله السقاف التي يُشار إليها كبوابة ريادة لأسباب فنية تتصل بالتمييز بين المرْسَل والحُر.

انحياز الجاوي للكتابة بطريقة شعر التفاعيل المتحرر (قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر كما درجت العادة على تسميته) جاء للتعبير عن الاستجابة للتحولات التي شهدتها بنية الشعر العربي في المراكز الثقافية الفاعلة: بيروت، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، بفعل التحولات الجديدة في المنطقة التي بشرت بولادة الدولة الوطنية منذ مطلع الخمسينات، وتحيل بدرجة رئيسية إلى تلك التفاعلات الإيجابية للشاعر مع محيطه الثقافي الذي أبرز إلى السطح شعراء الريادة، مثل: السياب، والبياتي، وعبد الصبور، ونازك، وبعدهم الماغوط، وأدونيس، وأنسي الحاج، إلى آخر القائمة.

الجاوي لم يكن جامدًا، بل ديناميكيًا، وظف كل ملكاته الإبداعية للتعبير عن الإنسان الجديد، وكان الشعر أحدها.

___________

المصدر: موقع حيروت الإخباري

إقرأ أيضاً:

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير

ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة:

“يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟”

البروفيسور آمال قرامي

أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس

قلنا في مستهل الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات: “بتخطيط وتنسيق مسبق وبمؤامرة شارك فيها قطاع واسع ممن يسمون برجال الدين في الفضاء الإسلامي، والقضاة الشرعيين، و هيئة علماء السودان، و جماعة الإخوان المسلمين، وبعض رجال الطائفية والقادة السياسيين في السودان، ومشايخ جامعة أم درمان الإسلامية السودان)، ومشايخ الأزهر (مصر)، كان انعقاد المحكمة المهزلة، محكمة الردة في مثل هذا اليوم، 18 نوفمبر من العام 1968. مثَّل انعقاد المحكمة وصدور حكمها الباطل، بداية المواجهة بين الفهم القديم للإسلام، و الفهم الجديد للإسلام، كما طرحه المفكر محمود محمد طه. أتبع الأزهر شراكة مشايخه في مؤامرة المحكمة، بإصدار فتوى بكفر المفكر محمود محمد طه “الكفر الصراح”. كما لحق بالأزهر رابطة العالم الإسلامي حيث أفتى مجلسها التأسيسي وبالإجماع بردة محمود محمد طه عن الإسلام. يتكون المجلس التأسيسي للرابطة من ستين عضواً يمثلون مختلف دول العالم الإسلامي، وتتخذ الرابطة من المملكة العربية السعودية مقراً لها”.

شكَّل حكم محكمة الردة الذي صدر في 18 نوفمبر 1968، سابقة خطيرة، حيث تم استدعاؤه والأخذ به مع فتوتي الأزهر و رابطة العالم الإسلامي في محاكمة يناير 1985، التي حكمت على المفكر الإنساني محمود محمد طه بالإعدام، كما سيرد التفصيل لاحقاً. نواصل الحديث عن المؤامرات المحلية، فبعد أن وقفنا عند تآمر رئيس وأعضاء مجلس السيادة السوداني، نقف اليوم عند مؤامرات القضاة. (ملاحظة: كل ما يرد في هذه السلسلة يجد سنده التوثيقي في الكتاب المشار إليه، أعلاه، وقد أخذنا فيه بمنهج توثيقي صارم).

مؤامرات القضاة

كشف المدعي الأول في محكمة الردة الأمين داود في كتاباته، عن شراكة قاضي القضاة والقضاة الشرعيين في المؤامرة. فقبل أن يتم تقديم الدعوى للمحكمة، قام الأمين داود بالاتصال بقاضي القضاة وبالقاضي الذي ترأس محكمة الردة فيما بعد، وقد أوضح موقف كل منهما.

موقف قاضي القضاة، عبد الماجد أبو قصيصة

حكى الأمين داود في كتابه: نقض مفتريات محمود محمد طه وبيان موقف القضاء منه، وتحت عنوان: “موقف القضاء من محمود محمد طه”، مبيناً بأنه تقدم بالدعوى بعدما رأى “استعداداً طيباً وروحاً عالياً من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الماجد أبوقصيصة قاضي قضاة السودان لقبول دعوى الحسبة”. كما أضاف بأن قاضي القاضي قد قال له بأن الدعوى من صميم عمل المحاكم الشرعية.

قاضي محكمة الردة

روى الأمين داود في كتابه آنف الذكر، بأنه قد أتصل بالقاضي توفيق أحمد صديق، وطرح عليه خطته قبل انعقاد المحكمة، بل لم يتقدم بالدعوى، كما قال، إلا بعد ما لمسه من الهمة العالية والوقوف مع الحق من الشيخ توفيق أحمد صديق عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية، وبعد ذلك: “تقدمنا بدعوى الحسبة”.

تبين من الاعترافات الموثقة أن قرار محكمة الردة قد تم الاتفاق عليه قبل تقديم الدعوى نفسها. فالمدعي الأول، كما أورد في كتابه، رتب الأمر مع قاضي القضاة ومع رئيس المحكمة، ووجد موافقتهم وقبولهم فماذا بقى؟ لا شيء سوى تنفيذ المؤامرة.

يتضح مما تقدم أن التحالف الذي تشكل من رجال الدين والطائفية والزعماء السياسيين والقضاة الشرعيين، قد اجتمع على التآمر على المفكر محمود محمد طه، فدبروا تلك المكيدة السياسية. ومما لا شك فيه أن معظم هؤلاء السياسيين من الطائفيين والقضاة الشرعيين والفقهاء، لهم امتداداتهم الخارجية في مصر والسعودية، كما أن كثير منهم يتحرك بتوجيهات مصر الرسمية وبتوجيهات مشايخ الأزهر وبالتنسيق بينهما. وقد فصلنا كل ذلك في كتبنا.

إكتمال حلقات التنسيق والتآمر

“ولكن لا بأس، فإن من جَهِلَ العزيز لا يَعِزَّه!! ومتى عرف القضاة الشرعيون رجولة الرجال، وعزة الأحرار، وصمود أصحاب الأفكار؟”.

محمود محمد طه، 19 نوفمبر 1968

بعد اكتمال حلقات التنسيق والتآمر بين القضاة الشرعيين، ورجال الدين، والقادة والسياسيين، تقدم الأمين داود، الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية (مدعي أول)، وحسين محمد زكي، الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية (مدعي ثاني)، بدعوى ضد محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، بالردة عن دين الإسلام، حسبة لله تعالى. تم تقييد الدعوى لتكون القضية رقم 1035/1968 أمام محكمة الخرطوم العليا الشرعية، التي تشكلت برئاسة القاضي توفيق أحمد صديق، عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية المنتدب للنظر والفصل في الدعوى.

عدم اختصاص المحكمة

إن المحكمة التي عُهد إليها بالنظر في القضية رقم 1035/1968، وهي محكمة الخرطوم العليا الشرعية، لم يكن من اختصاصها إصدار حكم بإعلان ردة أي إنسان من الإسلام. فالمحاكم الشرعية في السودان أنشأها الاستعمار بموجب قانون أصدره الحاكم العام، وهو قانون المحاكم الشرعية السودانية لعام 1902. ولم يتضمن هذا القانون أي نص يدل على صلاحية المحكمة الشرعية في الحكم بردة أو تكفير مسلم. فاختصاص هذه المحاكم قد حددته المادة السادسة التي تنص على أن للمحاكم الشرعية الصلاحية للفصل في:

أ‌.    أية مسألة تتعلق بالزواج والطلاق والولاية والعلاقات العائلية بشرط أن يكون الزواج قد عقد على الشريعة الإسلامية أو أن يكون الخصوم من المسلمين.

ب‌.  أية مسألة تتعلق بالوقف أو الهبة أو الميراث أو الوصية … إلخ.

ج‌.  أية مسألة سوى ما ذكر في الفقرتين السابقتين على شرط أن تتقدم الأطراف المتنازعة بطلب كتابي ممهور بتوقيعاتهم يلتمسون فيه من المحكمة أن تقضي بينهم مؤكدين أنهم عازمون على الالتزام بحكم الشريعة في الأمر المتنازع عليه.

مما يدل على عدم اختصاص المحكمة التي نظرت في القضية، أن حكمها جاء غيابياً، بسبب عجزها عن احضار المتهم أمامها أو إجباره على الحضور، كما أنها لم تستطع تنفيذ الحكم الذي أصدرته، لا في ذلك الوقت، ولا في أي وقت لاحق، وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه، خاصة وأن للحكم عقوبة مقررة شرعاً هي أعلى مراتب العقوبات المدنية. وهذا ما أكدته المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في العام 1986 حينما قررت عدم اختصاص المحكمة الشرعية العليا، وقضت ببطلان حكمها، كما سيرد التفصيل لاحقاً.

ما يجب التأكيد عليه هو أن المحاكم الشرعية غير مختصة في إصدار حكم بإعلان ردة أو تكفير أي إنسان من الإسلام. إن تسمية هذه المحاكم محاكم شرعية فيه تضليل وإيهام للناس بأن شريعتهم قائمة. والاسم الصحيح لهذه المحاكم إنما هو “المحاكم الملية” أي أن الحكم الاستعماري كان عندما يحتل بلداً يخصص محاكم لكل ملة من أهل ذلك البلد مسلمين، نصارى، يهود، لتحكم لهم في قضايا الأحوال الشخصية حسب أديانهم، وأسوأ من ذلك فإن ما يسمى عندنا بالمحاكم الشرعية لم يكن ينفذ حكماً من أحكامها إلا بواسطة المفتش الإنجليزي لأن السلطة التنفيذية قد كانت بيده هو لا بيد (القضاة الشرعيين). نقف هنا ونلتقي في الحلقة السادسة.

[email protected]

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام (4-11)

الوسومالأمين داود الدكتور عبد الله الفكي البشير الزواج الطلاق توفيق أحمد صديق عبد الماجد أبو قصيصة محكمة الردة محمود محمد طه

مقالات مشابهة

  • مختص يحدد فترة ظهور نتائج التمارين على التكوين العضلي
  • وزير الثقافة يعلن موعد انطلاق فعاليات المؤتمر العام لأدباء مصر في دورته الـ37 بمدينة العريش 26 ديسمبر جاري
  • حكم نهائي يُفجّر أزمة شيرين عبدالوهاب مع شركة The Basement
  • الأهلي يضع شرطا لرحيل أفشة إلى بنغازي الليبي
  • السيّد: هل تكفي الدولارات القليلة التي تحال على القطاع العام ليومين في لبنان ؟
  • الجزائر تُحيي الذكرى الـ 65 لمظاهرات 11 ديسمبر 1960
  • 451 الف زائر وحجم مبيعات تجاوز 5 ملايين دينار لمهرجان الزيتون الوطني الخامس والعشرون
  • الشاعر جمال بخيت يُعلق على أزمة محمد صلاح عبر فيسبوك
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»
  • “الديمقراطية” تدعو في الذكرى الـ37 للإنتفاضة الكبرى لضرورة استعادة الوحدة الوطنية