في 2025: الشباب اللاجئون بين حصار الحرب وآمال الهجرة الجديدة
تاريخ النشر: 29th, December 2024 GMT
مع بداية العام الجديد، يتوزع شباب السودان بين الأمل في نهاية قريبة للحرب التي دمرت وطنهم، وبين التطلع إلى بناء مستقبل جديد بعيدًا عن أهوال النزاع. في أرض بعيدة عن وطنهم، يعيش هؤلاء الشباب بين خيارين: العودة إلى ديارهم إذا توقف القتال، أو الهجرة بحثًا عن فرص أفضل في أماكن أخرى..
التغيير: فتح الرحمن حمودة
في أرض غريبة، بعيدًا عن وطنهم الأم، يتناثر آلاف الشباب السودانيين الذين دفعتهم نيران الحرب التي أوشكت على إتمام عامها الثاني إلى الخروج عن ديارهم.
أحمد ياسر، شاب في مطلع العشرينيات، ينظر إلى العام الجديد كفرصة لتطوير نفسه أكاديمياً، لكنه لا يخفِي فقدانه الأمل في توقف الحرب التي ما زالت تنهش بلاده. ويقول لـ”التغيير”: “تصاعد العنف وتفاقم خطاب الكراهية بين أطراف الاقتتال، إلى جانب تعقيدات المشهد السياسي، جعلني استبعد أي بارقة أمل قريبة”.
حياة جديدةويمضي قائلاً: “الآن، أوجه أنظاري نحو بناء حياة جديدة، هدفها الأساسي تأمين مستقبل أفضل لي ولعائلتي التي ما زالت متواجدة داخل السودان. أنا في محاولة لإخراجهم إلى دولة أخرى لبدء حياة جديدة ومستقرة بعيداً عن أهوال الحرب الدائرة حالياً”.
وتقول الطالبة العشرينية سوهندا فيصل: “ما زال لدي أمل في أن تتوقف الحرب في القريب العاجل”. وتضيف لـ”التغيير”: “خططي الحالية، على الأقل خلال الثلاث سنوات القادمة، لا تضمن العودة إلى البلاد، لأن الهجرة بالنسبة لي أصبحت خياراً مطروحاً، لكنه حتى الآن غير أكيد”.
أما محمد خليل، فيوضح أنه لا يحمل طموحاً للهجرة إلى أوروبا، رغم أن لديه الأمل في أن تتوقف الحرب. ويضيف، بحسب حديثه لـ”التغيير”: “أصبحت مقتنعاً بأن هذا الأمل صعب التحقيق، وعلى الرغم من تمسكي برغبة العودة، إلا أن ذلك لا يمنعني من التفكير في مستقبلي حتى وأنا في المنفى”.
في قلب مأساة النزاع، تتجلى قصص الرحيل القسري والهروب من الموت كحكايات إنسانية مؤلمة. ووفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أجبر هذا الصراع المستعر أكثر من سبعة ملايين شخص على ترك منازلهم وأحلامهم خلفهم، باحثين عن ملاذ آمن، من بينهم حوالي مليون ونصف شخص عبروا الحدود نحو دول الجوار.
ينظر الشاب عبدالرحمن محمد إلى العام الجديد باعتباره بداية جديدة، مؤمنًا أن الأمل ما زال موجودًا. ويقول لـ “التغيير”: “كل واحد منا يتمنى أن تنتهي هذه الحرب، ولكن مع ظروف الوضع الحالي، أصبح التفكير في الهجرة واقعًا للكثير منا. خصوصًا إذا استمرت الحرب، ليس هناك أجمل من أن نكون جزءًا من بناء بلدنا من أول وجديد”.
وما زال الشباب السوداني يقف على مفترق طرق بين حلم العودة إلى الديار واستعادة المسار الديمقراطي، وبين طموح الهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل في أعينهم. حيث تبدو الحياة وكأنها لعبة انتظار طويلة، تتخللها محاولات إنسانية بائسة للتمسك بخيط رفيع من الأمل.
وترى الشابة لينة جميل الله أن العام الجديد سيكون مليئًا بالتحديات، وتقول لـ “التغيير” إنه مع استمرار الحرب وغياب وضوح الأفق، أصبحت تركز على بناء حياة مستقرة تمنحها القدرة على المساهمة في مجتمعها من أي مكان. وتضيف أنها تفكر في الهجرة إلى البلاد الغربية لتحقيق طموحاتها.
بالنسبة للشاب محمد محمود، فإن فكرة العودة تبدو أكثر صعوبة، قائلاً لـ “التغيير”: “ما دام الواقع لا يبشر بتغيير إيجابي، في الوقت ذاته أجد نفسي مضطراً للتأقلم مع الوضع الراهن.” ويضيف: “قررت أن أبدأ حياة جديدة تضمن لي مستقبلاً خالياً من الحروب، وأن أبحث عن مكان يوفر لي السلامة والحرية والكرامة.”
سياقات مُعقدةأما هيام الرضي، التي تعمل الآن بإحدى المنظمات، فقد عبرت عن واقع مختلف قائلة لـ “التغيير”: “كان لدي أمل في أن يتوقف النزاع وأستطيع العودة إلى الديار، إلا أن مع الوضع الحالي وسياقات الحرب التي أصبحت معقدة، بدأ حلمي يتلاشى. وبدأت أفكر بجدية في الهجرة ولا أفضل العودة للسودان مرة أخرى.”
وبين الحنين إلى الوطن الممزق والرغبة في الانطلاق نحو آفاق جديدة، يظل الشباب السوداني محاصرًا بأثقال الحرب وأحلام الهجرة، ممزقًا بين واقع يرفض الاستسلام وأمل يحلق في سماء المستقبل الذي بات مجهولًا بالنسبة لهم.
وعلى الرغم من غياب الأرقام الدقيقة حول نسبة الشباب بين اللاجئين، إلا أن التقارير تسلط الضوء على هذه الفئة التي تمثل العمود الفقري لأحلام الهروب من واقع النزاع. بالنسبة للكثير منهم، الرحلة ليست فقط بحثًا عن الأمان، بل أيضًا عن فرص تعليمية ومهنية تنير طريقهم نحو مستقبل مختلف، حيث لا مكان للحرب.
ومع حلول العام الجديد، وفي ظل رماد الحروب التي تشتعل في المنطقة، تتولد لدى الشباب أحلام بالعبور إلى آفاق أبعد من حدود القارة الإفريقية. فالحروب، التي غالبًا ما تحمل معها الخراب والمعاناة، أصبحت دافعًا قويًا لهم للبحث عن مسارات جديدة تعيد صياغة حياتهم.
الوسوماللاجئون السودانيون حرب الجيش والدعم السريع حرب السودان
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: اللاجئون السودانيون حرب الجيش والدعم السريع حرب السودان العام الجدید العودة إلى حیاة جدیدة الأمل فی
إقرأ أيضاً:
السياسي الحقيقي والسياسي الوهمي.. مشاتل التغيير (22)
في مدخل مبتكر، افتتح الشيخ الفيلسوف طه عبد الرحمن محاضرته حول السياسي الحقيقي والسياسي الوهمي، بمصطلح "ما بعد الحقيقة" وأقصى الأخلاق والدين كمصدر للقيم من العمل السياسي.. لفضح تلك المقولة (ما بعد الحقيقة) "التي افتتن بها بعض من ينتمون إلى مجال الأكاديميا بل جعلوا منها فلسفة"، ومنهم من أقرها "نظرية علمية". إنه عصر منطق الغموض الذي يخرج عن معاني الحد والتحديد إلى منطق الغموض الذي سماه البعض الغموض البنّاء والخلّاق، في محاولة الهجوم على معاقل اليقين ومعاقد الصدق؛ إلى ما لا نهاية ينعي على التحديد وينعدم اليقين وتتربع على عرشه النسبية في حالة عدمية وربما فوضوية.
ولهذا قال الشيخ في محاضرته إن الأولى تسمية كل ذلك "ما بعد الصدق"؛ في هذا العصر الذي صار فيه الغرب مغرما في فتح باب "الما بعديات". ما بعد الصدق؛ يتضمن مدى الأذى للإنسانية بصدد المعرفة والأخلاق.. الذي يتحكم بعالم التصورات، وعالم التصرفات لا يأبه بالمضار ولا يعير التفاتا للصدق الائتماني؛ فهذا ما بعد الحقيقة ليس إلا، وهو أبدا ودائما الوهم والسياسي التوهمي؛ والذي يقابله بالضرورة السياسي التحققي الذي يسلم بالائتمان والأمانة والصدق والمصداقية في جوهر الحقيقة والحق (الحقيقة). إن تقعيدا قرآنيا مكثفا لهذه الحال يكمن في هذه الآية: "فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" (يونس: 32).
"ما بعد الحقيقة" مفهوم احتُفي به في الغرب وجعلوه مصطلح العام، خاصة بعد تولي ترامب في رئاسته الأولى (2016) وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. "post truth" كان يشير لدراسة ظاهرة مصنّعة تتسم بالخطورة في منطقها وفلسفتها ورؤيتها؛ يردها الشيخ إلى إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948، ولا تزال آثارها تتراكم بفعل التواطؤ العالمي على الحقيقة؛ والتعدي الدولي على المصداقية والحقيقة في غزة.
ما زال "صراع السرديات" قائما حول طبيعة هذا الصراع المصيري والحضاري والأخلاقي والقيمي والإنساني والكوني والتحليل الائتماني؛ صراع السرديات وصدام المفاهيم والإدراكات كشعبة من "صدام الحضارات"
وما زال "صراع السرديات" قائما حول طبيعة هذا الصراع المصيري والحضاري والأخلاقي والقيمي والإنساني والكوني والتحليل الائتماني؛ صراع السرديات وصدام المفاهيم والإدراكات كشعبة من "صدام الحضارات" الذي بشّر به "صمويل هنتنجتون" وما تبناه "فوكاياما" من "نهاية التاريخ" معلنا انتصار الحضارة الغربية انتصارا مؤزرا بلا معقب؛ لقد كتب التاريخ نهايته.
ورغم أننا نؤكد على قيمة هذا الأمر الملفت في الحضارة الإنسانية بالنشأة المصطنعة للكيان الصهيوني ودولته الوظيفية على حد تعبير "عبد الوهاب المسيري"، والذي شكل انعكاسا حقيقيا لما بعد الحقيقة؛ وعملا فاضحا لا يكتفي بطمس الحقائق ولكنه تفنن في الكذب والتزوير عليها ضمن سرديات الافتراء والتزييف، إلا أن ذلك كان يشير إلى ولادة جديدة لعلم السياسة وتصنيع مفهوم جديد للسياسة يفصل فصلا تاما بين الأخلاق والدين والسياسة بقيمها الخاصة وقاموسها المبتذل؛ الذي أنتج بحق ما أشار إليه الشيخ الفيلسوف بنموذج السياسي التوهمي في مواجهة السياسي التحققي والحقيقي.
التحليل الائتماني لما بعد الحقيقة يعني ضرورة تجاوز الظاهرة الأزمة التي لم تتوقف عن إطلاق العنان للكذب والافتراء.. وإطلاق العنان للهوى والغرائز من عقالها.. واستخدام مقولات مريبة من مثل شعب بلا أرض وأرض بلا شعب.. وأنه لا وجود لشعب فلسطيني الذي لم يوجد قط.. كما أوحت بذلك رئيسة الوزراء السابقة للكيان الصهيوني جولدا مائير، والتشكيك في الحقائق التاريخية ومحاولة طمسها؛ في مهزلة لا تستند لعلم وتصطنع مغالطات بحجج فكاهية من مثل أن حرف "P" لم يوجد في العربية، إشارة إلى منطوقها الغربي "Palestine" على ما أشارت عضوة في "الكينيست" الصهيوني. وشاهد ذلك إنكار المعرفة العلمية أو الموضوعية وكذا الخبرات العيانية والتاريخية، والتشكيك والدفع بتهم معاداة السامية والإرهاب كمسلك ابتزاز حتى على أجهزة الأمم المتحدة، واستغلال الشبكة العنكبوتية كوسائل لطمس الحقائق وعزل المجموعات بعضهم البعض، والفصل العنصري الرقمي حيث يتقصدون هؤلاء المؤثرين والرأي العام والتلاعب به.
إن نقض هذا المفهوم وكل ما يترتب عليه من مآلات هو القمين برفع الأذى المترتب على ما بعد الحقيقة والتجاوز إلى ما بعد الصدق الكاشف والفاضح.. والوقوف في مواجهة محاولة تمرير ما بعد الحقيقة كحقيقة.. والارتباط بعروة وثقى بين الحقيقة والحق.. وفضح التعدي علي تلك العلاقة.
وفي مدخلين آخرين يمكن استصحابهما في هذا المقام؛ مدخل الفلسفة السياسية، ومدخل السياسة في الرؤية الإسلامية. الأول منهما يشير إلى السياسي الميكيافللي الذي يستقي مصدره من كتاب "ميكيافللي" الأشهر "الأمير"؛ بل اشتُقت منه النظريات ليس في علم السياسة فحسب ولكن في علوم النفس والاجتماع؛ من مثل الذكاء الميكافيلي (بالإنجليزية: Machiavellian intelligence) الذي يعبر عن قدرة الكائن الحي على المشاركة السياسية الناجحة مع المجموعات الاجتماعية. جاءت المقدمة الأولى لهذا المفهوم من كتاب "سياسة الشمبانزي" (1982) لفرانس دي فال، والذي وصف المناورة الاجتماعية مع اقتباس مكيافيلي الواضح. تفترض هذه الفرضية أن تطور الأدمغة الكبيرة والقدرات المعرفية المميزة للإنسان حدثت بفعل المنافسة الاجتماعية الشديدة، حيث قام المتنافسون الاجتماعيون بتطوير استراتيجيات "مكيافيلية" متطورة كوسيلة لتحقيق نجاح أعلى في الحياة الاجتماعية. يشير المصطلح إلى الفرضية القائلة بأن التقنيات التي تؤدي إلى أنواع معينة من النجاح السياسي داخل مجموعات اجتماعية كبيرة قابلة للتطبيق أيضا داخل مجموعات أصغر، بما في ذلك وحدة الأسرة. قدّم مصطلح "السياسة اليومية" لاحقا في إشارة إلى هذه الأساليب المختلفة.
في مجال علم نفس الشخصية، تعتبر المكيافيلية سمة نفسية ترتكز على التلاعب بالآخرين، والفتور العاطفي، واللامبالاة بالأخلاق. على الرغم من أن المكيافيلية لا علاقة لها بشخصية مكيافيلي التاريخية أو بأعماله، إلا أنها سميت بهذا الاسم نسبة لفلسفته السياسية.
تعتبر المكيافيلية واحدة من سمات ثالوث الظلام، إلى جانب النرجسية والسيكوباتية، وترتكز على منظومة من مفاهيم تواكب هذا المفهوم؛ اللاأخلاقية والاستهتار ولعبة الثقة وخداع الجماهير والخداع عامة والنزعة للهيمنة الاجتماعية والسياسية.
يقول ميكيافللي في صدر كتابه موجها كتابه ونصائحه للأمير: "فَسُموّكم يعرف أنّي لا أستطيع أن أهديكم أعظم من هذا الكتاب.. فهو سيمكّن سموّكم من التعرف في وقت قصير على كلّ ما اكتسبته طوال حياتي، وهو ما تحملت لأجله الكثير من الأخطار والفقر، طوال سنوات عمري الطويل".
يخلص الدكتور "عادل حدجامي" في مقاله المهم "نيكولا ماكيافيلي.. السياسة فيما وراء الخير والشر"؛ إلى القول: "لكل هذه الاعتبارات، فإنّ قراءة الكتاب ينبغي أن تكون مقلوبة، وهذه أهم المفاتيح الممكنة لقراءة هذا النص بحسب ما يبدو لنا، فعوض أن تكون السياسة فعلا وفق معيار هو الأخلاق، تصير الأخلاق ذاتها "وسيلة" سياسية، فلا يتم فهمها إلا في إطار اقتصاد الوسيلة، ثم عوض أن نبحث للسياسة عن نموذج متعالٍ، نطرحها كفعل محايث لا نموذج يرد إليه، لأنّ العالم نفسه خالٍ من النماذج الكليّة والأوثان المتعالية التي يمكن أن نفزع إليها".
أما المدخل الثاني فهو يرتبط بمفهوم السياسة وحقيقة الفعل السياسي وشيوع مفهوم السياسة مرتبطا بأوصاف سلبية؛ فصارت كما يراها البعض في جوهرها كذلك، حتى تسلل ذلك إلى المعاجم الغربية ذاتها والعربية خاصة المستحدث منها؛ واستدل بممارسات عدة كلها تشير إلى صفات المراوغة والخداع والكذب والنفاق والمداهنة، حتى أتى من يلعن السياسة في لفظها ومعناها "لعن الله ساس ويسوس وكل فعل يأتي من السياسة"؛ وارتكن البعض إلى فعل السياسة لا معناها ومغزاها الحقيقي المرتبط بالصلاح والإصلاح والمصلحة، وأهمل وأغفل متعمدا هذه المعاني؛ ضمن قانون اقتصادي غربي "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة"، وبات مفهوم السياسة العربي والإسلامي مردودا مغفلا؛ متروكا مهملا، وهو ما حدا بنا إلى الكتابة حول مفهوم السياسة والسياسي ورد الاعتبار لهما؛ "القيام على الأمر بما يصلحه"، أو كما أثبت الإمام ابن القيم عن أستاذه؛ "السياسة ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد". وبدا الأمر أننا أمام منظومتين منظومة تجعل السياسة جوهرا وأساسا صراعا من أجل السلطة؛ وأخرى تجعل من السياسة عملا إصلاحيا بالمفهوم الواسع للإصلاح.
نموذج السياسي التوهمي هو القائم بالعمل في معاقل الاستبداد والاستعمار؛ وأن السياسي الحقيقي هو العامل الفاعل في مشاتل التغيير والإصلاح. ولهذا بقية حول الوظيفة الكفاحية للعالم والتزامه الائتماني ومسئوليته السياسية في عمله التغييري والنهضوي
ولعل هذا الكتاب -كتاب الأمير- قد وضع إشكالية السياسة والأخلاق على المحك. لقد كان مالك بن نبي، فيلسوف الحضارة، وكذا الرئيس الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش؛ على دراية تامة بهذه المعاني التي تربط بين السياسة والأخلاق. كان مالك موضحا الفارق الكبير والمناقضة الأساسية بين السياسة والبولوتيك، وقد أولى اهتماما بالغا لفاعلية "الدستور الخلقي في العمل السياسي" كما أشار البعض؛ وذلك بعد أن أهدر الانحراف السياسي في العالم العربي والإسلامي مسار نهضتها، وهذا ما استدعى ضرورة تفكيك العوامل الداخلية والخارجية التي أعاقت مساعي العمل السياسي النزيه والناجح، فحصر هذا الفشل في جملة من المعوقات اعتبرها أخلاقية بالأساس؛ حيث تفشت أمراض الدجل السياسي التي أهدرت المشاريع الجادة التي تخدم الصالح العام للمجتمع، وبناء على ذلك رصد منظومة من القيم الأخلاقية التي توجه العمل السياسي. وكما قال المفكر الجزائري مالك: "إذا كان العلم دون ضمير خراب الروح فإن السياسة بلا أخلاق خراب الأمة".
وفي 1984 نشر الرئيس بيجوفيتش كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب". وللكتاب قصة، فقد بدأ تحريره سنة 1946، ولكن أثناء ملاحقاته أخفته شقيقته ولم يُعثر عليه إلا في نهاية الستينات، فأعاد صياغته ثم أرسله إلى صديق في كندا. فنُشر وهو يقضي فترة سجنه. وميزة هذا الكتاب من وجهة نظر كاتبه؛ التركيز على القيم التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء؛ فكان هذا الكتاب "هو دعوةٌ للغرب، على مستويَي الفِكر والممارسة، إلى فضاءٍ أرحبَ وَسَطٍ بين تناقضاتِه التي ما انفكّ يُطحَن بينها ويَطحنُ معه فيها سائر شعوب العالَم في هذا العصر، إنّها دعوةٌ إلى الانعتاق من مثاليّاتِه المنحطّة إلى واقعيّة الإسلام المتعالية، ومِن أحاديّته اللا إنسانية إلى ثنائية الإسلام التي لا اعتراف بحقيقة الإنسان إلا بها".
من رحم المصفوفتين يولد نموذج السياسي التوهمي والسياسي الحقيقي لدى الشيخ الفيلسوف، ويتحقق معنى الرؤية الائتمانية والميثاقية بين هذين النموذجين. ولعل نموذج السياسي التوهمي هو القائم بالعمل في معاقل الاستبداد والاستعمار؛ وأن السياسي الحقيقي هو العامل الفاعل في مشاتل التغيير والإصلاح. ولهذا بقية حول الوظيفة الكفاحية للعالم والتزامه الائتماني ومسئوليته السياسية في عمله التغييري والنهضوي؛ قال تعالى: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقا حَسَنا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" (هود: 88).
x.com/Saif_abdelfatah