كيف يوظف المستبدون الوطنية والخيانة؟
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
ماشيًا على رصيف في باريس واجهتني سيارة آتية في الاتجاه المعاكس. فجأة فتح سائقها نافذتها ليصرخ فيّ: يا كلب، يا بيوّع.. و"البيوّع" في اللهجة التونسية هو بائع الوطن، أي الخائن في أفظع تجلياته.
لا شكّ أنه من أنصار المنقلب- المغتصب الذي لا يفتح فمه في أي مناسبة إلا لإدانة المتآمرين والخونة أمثالي، وأمثال نخبة من رجالات تونس القابعين في سجونه إلى اليوم.
عبث مواجهة بيادق السلطة بحجج من نوع: وطنيتنا التضحية بأنفسنا من أجل قيم ومبادئ، ووطنيتكم التضحية بالآخرين من أجل امتيازات ومصالح. وطنيتنا نضال، ووطنيتكم تمثيل.. إلخ. فهذه الأبواق مجندة ليلَ نهار للادعاء بأن العكس هو الصحيح، ولها داخل شعب الرعايا من يصدّق ويصفق.
إنها الوطنيّة التي يمكن وصفها بالنظامية بما أنها تقرن آليًا بين الوفاء للوطن والوفاء للنظام السياسي، وهي بجانب الانتخابات التسعينية العلامة المسجلة لكلّ نظام استبدادي.
لقائل أن يقول إن مثل هذه الوطنية الزائفة لا تنطلي على أحد، وفي كل الحالات لا يجوز اعتبارها حجة على الوطنية "الحقيقية".
نعم، ولكن.
إعلانماذا لو كان المفهوم نفسه ملغّمًا بخصائص تسهّل على الاستبداد الاستيلاء عليه وتفويضه في صراعاته الخسيسة ضدّ معارضيه؟
يقول المفكر الصيني لاو- تسو: لا وجود للأنثى كأنثى إلا بوجود الذكر.. من أين لك أن تعرف ما الجمال إن لم تعرف ما القبح.. أي معنى للخير دون وجود الشرّ؟
في هذا السياق، يمكن القول إننا لا نخلق لغويًا وشعوريًا وسياسيًا مفهوم الوطني، إلا وخلقنا معه آليًا نقيضه. إذ كيف نعرف من هو الوطني إن لم يكن بمقارنته بهذا العدو الداخلي الذي نسمّيه الخائن، والذي لا بد من مجابهته بالكره والاحتقار، وضرورة الإجهاز عليه.
هكذا تقاس الوطنية عند الوطنيين بدرجة السخط الذي يبدونه، وهم منتفخو الأوداج يستنكرون ويدينون ويلعنون ويهددون خونة يعرّفون برفضهم الولاء للنظام الساهر وحده على أقدس القضايا، وهي حماية الوطن.
العنصر الضروري الثاني لوجود الوطنية هو العدو الخارجي. قد يكون كرهه هو الآخر في محلّه عندما يتخذ شكل الغازي والمستعمر (إسرائيل نموذجًا بالنسبة للوطني الفلسطيني). لكن قد يكون العدوّ مصطنعًا أو مخيّلًا. إنه ما يحدث حاليًا في كثير من البلدان الغربية، حيث يقدم المهاجرون على أنهم طابور غزو خارجي، ودرجة الوطنية عند اليمينيين المتطرفين تقاس بمدى كرههم للأجانب، وما يقدرون عليه من أذى يلحقونه بهم.
المكوّن الخطير الثالث للوطنية وهو ما أسميه الهُوية الضدية. فالهوية كما يفهمها الوطني أكان معتدلًا أم متشدّدًا، مبنية دومًا على مضادة هوية الآخر. داخل هذا الفهم للهوية يكمن عنصر مخفيّ بخبث أو مكشوف بوقاحة، وهو عنصر المفاضلة والتميز والتفوق.
قد يبقى هذا العنصر متحكّمًا فيه مسيطرًا عليه لا يفضح وجوده الصامت إلا ببعض النكت البائخة عن عيوب الآخر المفترضة، أو الهتافات للفريق الوطني في ملاعب كرة القدم. لكنه قد يتطوّر إلى ملاسنات فظة على صفحات التخاصم الاجتماعي، إلى أن ينتهي بصراعات يسيل فيها دم الإخوة الذين جعلت منهم الوطنية ألد الأعداء.
إعلانلقائل أن يقول إن من الإجحاف اختزال الوطنية في كره عدو داخلي وخارجي أكان حقيقيًا، أم مخيّلًا، أو التبجح بتفوق حقيقي، أو خيالي على الآخرين. ماذا عن الوطنية كحبّ جارف لأرض الآباء والأجداد؟ أليس هذا الشعور، أيضًا، مكوّنًا لا مجال لإغفاله في أي تحليل موضوعي للمفهوم؟
مَن مني أكثر حبًا لأرض الآباء والأجداد، خاصة في هذه الأيام وأنا مضطر في خريف العمر لثالث نفي في حياتي بعد أحكام بالسجن في أكثر من قضية مفبركة؟ لا يمرّ يوم دون أن يشدني الحنين لنخيل الجنوب، لزيتون الساحل، لمزارع العنب والبرتقال في الوطن القبلي، لغابات البلوط في جبال الشمال الغربي عندما تغطيها ثلوج الشتاء. قد لا يشعر المرء بكل هذا الحب إلا عندما يحرم من أرض استولى عليها وطنيو الربع ساعة الأخيرة.
طيب، لكن أين يقودنا مثل هذا الكلام؟ بداهة لن نذهب به بعيدًا، فالطبيعي بين بشر كل زمان ومكان أن يحب كل إنسان الأرض التي نشأ فيها كما يحب الأم التي ولدته. قد نتجاوب مع محمود درويش في حنينه لخبز أمه وقهوتها، ومع فيروز وهي تغني لأمها الملاك.
لكن، تصور كم سيكون المشهد مضحكًا ونحن نغرق تحت سيل القصائد التي تمجد أمّنا وتضعها فوق كل الأمهات، وتؤكد استعدادنا للموت من أجلها. ثم أليس من خصائص الحب الحقيقي أنه بغير حاجة للصراخ وإلا كان هذا الصراخ دليل شبهة في صدق ما يدَّعى؟
ثمة أسئلة أخرى بخصوص هذه الوطنية، ولنسمِّها الجغرافية بما أنها مرتبطة بعلاقة مميزة مع فضاء معين له حدود واضحة.
ألا نعرف كلنا داخل حدود الوطن الواحد سموم الجهوية أو المناطقية، وهي توقّف حب البعض عند الرقعة الجغرافيّة الصغيرة لجهتهم أو منطقتهم، مع نفور، وحتى كره للجهات الأخرى. كم مضحكٍ تصور هؤلاء القوم المتقوقعين داخل قبَليّتهم وجهتهم ينشدون النشيد الرسمي الممجد لنفس الوطن، وهم داخل ذواتهم يكرهون بعضهم البعض، ويغارون من بعضهم البعض.
إعلانلنأخذ المفهوم في الاتجاه المعاكس.
تطلب مني الوطنية التونسية أن ينخفض "محرار" الحبّ الوطني من الدرجة العاشرة إلى الدرجة الواحدة أو الثانية حالما أتجاوز معبر "ببوش" على الحدود الجزائرية؛ لأن حبّ الأرض الواقعة بين "ببوش" و "زوج ابغال" على الحدود المغربية مسؤولية الجزائريين وحدهم.
نعم، ولكن ماذا أفعل وأنا العروبي (غير القومي والحمد لله) بحبي لأزقة خان الخليلي والحميدية وسوق واقف وساحة جامع الفنا، ولي في كل هذه الأماكن أجمل الذكريات، ويشدّني الحنين إليها أحيانًا بنفس قوة الحنين لأزقة القيروان وسوسة وتونس العاصمة؟
صحيح أنني شعرت بالقلق عندما اندلعت الحرائق في شرق الجزائر؛ خوفًا من انتقالها لشمال غرب تونس والقضاء على ما تبقى فيه من غطاء نباتي. لكنني شعرت بنفس القلق عندما اجتاحت الحرائق منذ سنوات غابات أستراليا وكندا؛ لعلمي أن الآثار الكارثية لهذه الحرائق لن يسلم منها شعب أو وطن في عالم لا حدود فيه إلا الوهمية التي نرسمها على الخرائط.
أذكر أنني ارتطمت يومًا بعنصريّ صرخ في وجهي: "أرجو يا سيدي أن تتذكر أنك في بلدي " فجاوبته ببرود: "وأرجو يا سيدي أن تتذكر أنك على كوكبي".
الخلاصة أنّ الوطنية إن بنيت على الكره فهي مصيبة؛ لأنها لا تخلق الخائن إلا وتخلق معه القاضي والجلاد وسجونًا من نوع برج الرومي، وأبو سليم، وتازمامارت، وأبو غريب، وصيدنايا. أما إذا بُنيت على حب جارف لقطعة من الفضاء مطوقة بحدود خيالية رسمتها ظروف تاريخية دون اعتبار لوحدة الأرض، فهي التي تجدها وراء جل الحروب العبثية التي جعلت تاريخ جنسنا البشري يكتب بمداد الدم.
لكل من نشؤُوا على أن التشكيك في قدسية الوطنية مثل التشكيك في وجود الله، لا تبقى إلا آخر حجة، وهي أن الوطنية بالرغم من انحرافاتها أقوى حافز للخلق والإبداع في تنافس ضروس مفروض على الشعوب والحضارات.
إعلانصحيح.. لكن انظر أيضًا الثمن.
إن أكبر قلب للحقائق يرتكبه وطنيو الاستبداد ليس جعل الوطنيين خونة والخونة وطنيين، وإنما تسمية رعاياهم مواطنين. هكذا تسمع في وسائل تضليل الأنظمة الاستبدادية أنه يرجى من المواطنين فعل كذا وكذا، وأن مواطني منطقة ما خصوا الرئيس باستقبال حافل، وأن المواطنين مدعوّون للانتخابات يوم كذا.. إلخ.
ابحث عن الحقيقة المقلوبة تجد شعبًا من الرعايا يخضع لكل مقاييس ومؤشرات الرعوية. فالنظام الاستبدادي له مطلق الحق في التصرف في الأجساد تعذيبًا وحبسًا ومنعًا من التنقل متى يشاء. له الحق أيضًا في التصرف في كرامة البشر وحرياتهم. حدث ولا حرج عن حقه غير القابل للتصرف في التصرف في أموالهم بكل أنواع الفساد.
مما لا جدال فيه أن الاستبداد حتى باعتبار كل ما فيه من "إيجابيات"، مثل؛ الاستقرار والأمن، وحتى التقدم الاجتماعي والاقتصادي، كما الحال في الصين هو ماكينة لصنع شعب من الرعايا؛ أي شعب من البشر الخائفين الذليلين الخانعين المنتقمين ممن صادروا حريتهم وكرامتهم بالمقاومة السلبية إلى لحظة الانفجار الثوري.
كذلك لا جدال أن الديمقراطية بمؤسساتها وقوانينها (على ما فيها من سلبيات مثل الإضرابات والأزمات السياسية)، هي ماكينة صانعة لشعب من المواطنين، ومصنوعة منه. ما يحرك ويتعهد ويحافظ ويصلح هذه الماكينة هي المواطنية لا غير.
للاقتراب من النواة الصلبة للمفهوم، يجب تفحص أين تقطع المواطنية بصفة جذرية مع الوطنية، وكيف تعيد رسم صورة الوطن الذي يشكل نقطة التواصل، ونقطة الخلاف بين المفهومين.
القطيعة الأولى: الوطن ليس قطعة من الجغرافيا مطوقة بحدود. هو جملة البشر الذين يسكنون هذه القطعة من الجغرافيا؛ أي أن الوطن هو المواطنون لا غير. القطيعة الثانية: خريطة الوطن مرسومة على جسد كل مواطن وكل مواطن هو الممثل الشرعي للوطن، ومن ثم فالقول بشرعية التنكيل به رفعة للوطن مقولة بغباء وإجرام مقولة أنه يجوز قطع أصابع اليدين وعور عين وكسر عظم الترقوة حفاظًا على صحة البدن. القطيعة الثالثة: المواطنون هم الذين يملكون الدولة التي تملك الأرض المسماة وطنًا، وليست الدولة هي التي تملكهم، أي أنهم هم من يملكون الوطن وليس الوطن من يملكهم. من تبعات الموقف أنه لا حق لأحد في الاستئثار بالوطن ولا ادعاء تمثيله إلا بتفويض ديمقراطي مؤقت من قبل شعب حرّ، وفي إطار شروط المواطنية. إعلانلاحظ هنا أنه باختفاء "الخائن العميل المتآمر" من منظومة المواطنية، يتبخّر البوليس السياسي والجلادون والقضاة الفاسدون والسجون المخيفة. تقول: لكن كيف تحل ّالخلافات والتصرفات "اللامواطنية" مثل انتهاك حقوق الآخرين، وعدم الاضطلاع بالواجبات التي يفرضها العقد الاجتماعي؟
طبعًا ستكون هناك صراعات نرجسيات ومصالح وقيم، لكنها تحلّ بالاحتكام للصندوق أو لقضاء مواطني، أي مستقل وعادل قولًا وفعلًا. تصور لحظة الكم الهائل من الآلام التي توفرها المواطنية، مقارنة بالكم الهائل من الآلام التي تتسبب فيها الوطنية.
يمكننا الآن بعد مرحلة فشّ الغيظ في الوطنية والوطنيين البحث عن شروط ومواصفات المفهوم:
المواطنية هي جملة المواقف والتصرفات الفردية والجماعية المتفق عليها بين أفراد نفس المجتمع، والمبنية على قبولهم بأن لهم جميعًا نفس الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق في الحرية والكرامة والمساواة، ولهم نفس الواجبات، أي احترام حقوق الآخرين المنصوص عليها في هذا الإعلان، مع رفض التخلي عن أي من هذه الحقوق مهما كانت قوة الضغط، والاضطلاع بكل الواجبات التي تنجرّ عن هذه الحقوق دون حاجة لأي إكراه. المواطنية هي أساس العقد السياسي، الذي يربط بين المواطنين ودولة قانون ومؤسسات تستمد شرعيتها من إرادتهم الحرة، ولا وظيفة لها غير تمكينهم من كل حقوقهم، وتسهيل الاضطلاع بواجباتهم. المواطنية هي التزام أخلاقي وسياسي لا يتوقف عند الحدود الوهمية للوطن الجغرافي، وإنما يتعداه إلى كل البشر أكانوا من بني جلدته أم لا؛ لأن المواطن لا يبني هويته على كل ما يفرق بين البشر، وإنما على أهم ما يجمعهم أي إنسانيتهم المشتركة وشعاره الذي رفعه العظيم مانديلا: الإنسان الحر ليس الذي يدافع عن حريته وإنما الذي يدافع عن حرية الآخرين. إعلانفرق جذري أخير بين الوطنية والمواطنية. الأولى موجودة في الواقع أكان في شكلها الصادق أم في شكلها الوظيفي. لكن المواطنية غير موجودة في أغلب المجتمعات، أو بصفة ناقصة ومهددة حتى في الديمقراطية التمثيلية التي تضمن بعض شروطها كالحرية، وتعجز عن توفير أخرى كالمساواة.
المواطنية، إذن، مشروع لا معطى، وهذا المشروع لن يتوسع ويتعمق إلا بتطوير الديمقراطية نفسها. المواطنية نضال ما زال في بدايته ويجب أن يتواصل حتى يصبح الوطن الأرض التي نهرب إليها بعد أن جعلتها الوطنية الأرض التي نهرب منها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
الشطر: الموظف الذي يفقد ذاكرتين كل يوم
عندما بُثَ مسلسل Severance عام 2022، والذي أنتجته آبل تي في، لم أستطع تحمل مشاهدة الحلقات، رغم الاحتفال العالمي به، كان لديّ مشكلة حقيقية مع كون العمل ديستوبيًّا، ورغم التحايل على حصره في ذلك عبر الصورة، الألوان، والتمثيل الذي وصف بالقوة، لم يكن ذلك كله كافيًا لأهضم العمل وفكرته. بدا كما لو أنه يتملقني في كثير من الأحيان، يحاول استخدام خبرتي في العمل كموظفة بطريقة سلبية، وفي النهاية لا يقول شيئًا حقيقيًّا عما يحدث بالفعل وراء النظام العبثي الذي تفرضه منظومة العمل العنيفة.
لم يكن «موضوع» المسلسل مشكلتي الوحيدة معه، - لا أحب كلمة موضوع فيما يتعلق بقراءة عمل فني، لكنني مضطرة لاستخدامها هنا، بسبب مباشر من المسلسل نفسه، وهو ما قد يشرح أيضًا تحفظي على الأسلوب الذي يُروى من خلاله «الموضوع» فهو يقع داخل عالم الديستوبيا المحكم، عندما تصبح إشاحة النظر على سبيل المثال محبوكة على نحو ستؤدي فيه وبشكل مباشر وواضح لمعنى محدد سلفًا، واستعارة ينبغي أن لا يفوتها المشاهد، هكذا حتى لا يعود للحياة أي براءة، ولا لعبثيتها ملهى، فالعفوية مطرودة، ومُسيطر عليها، ومكبوحة جماحها التي تتحدى النظام وأي سلطة كانت! أما خصم السلطة اللدود في عالمنا اليوم وهو الغموض، ذلك الشيء السحري، الشفاف، المنفلت الذي لا يمكن لمسه ولا الإمساك به، المتلاعب، اللجوج، مقصيٌ بلا عودة للهرب من حقيقته ووطأتها.
يعيش موظفو شركة لومون في حالة من الانفصال القسرية، بعد مرورهم بعملية شطر، تجعلهم مزدوجي الشخصيات والحيوات، فلدى كل موظف شخصية (ini أي داخلي وهي شخصية الموظف داخل الشركة و outi شخصيته خارجها، لا تتذكر الشخصيتان عالم الشخصية الأخرى وظروفها. وعبر الولاء المطلق للشركة والوظيفة، والضبط المحكم للموظفين عبر الامتيازات الممنوحة لهم، أو طبيعة تنظيم وبيروقراطية العمل، والتي تعبر عن شكل عبودية ما، نعيش تفاصيل ما يسميه الناقد ستيفن براغر «هراء العمل». جميعنا يألف الأعمال التي لا نعرف لم تؤدى بهذه الطريقة أو بتلك، ذلك الإبهام هويتها وتُستخدم لصالح النظام/السلطة مع استمرارنا تأديتها بلا مسائلة. فجأة يحدث ما يحدث دومًا أمام كل استبداد، يتمرد بعض الموظفون ليحاولوا إنهاء عملية الفصل هذه، ودمج عالمهم الخارجي بالداخلي، مما يهدد الشركة وعملهم فيها.
شجعني برغر تحديدًا في قراءته التي نشرت خلال الأسبوع الماضي عن العمل، للكتابة عنه. خصوصًا بعد نشر الجزء الثاني من المسلسل بداية من يناير الماضي وملاقاته النجاح الكبير ذاته الذي حققه الجزء الأول. إن أطروحته ببساطة عبرت عما أزعجني، فرغم ادعاء المسلسل ظاهريًّا نقده الجذري للرأسمالية، إلا أنه لا يفعل ذلك. بل وأستطيع أن أقول بأنه يكرسها بطريقة ما، عبر فرض البنى نفسها في صناعة مسلسل قابل للاستهلاك يُعبر عن أزمة حقيقية، فظيعة، وعنيفة، ليحول هذه الأزمة لتكون مدرة للربح! إنه التقليد الأول والأساسي للرأسمالية أليس كذلك؟
يشير برغر في مقاله للعديد من الأفكار المهمة فهو يقول: إن العمل لا يهدف للتحريض ضد النظام القائم، بل يأمل في الاستفادة منه عبر عكس خيبة أمل المشاهدين المتزايدة وتجسيدها في العمل والاكتفاء بذلك فقط. يشير برغر لموضوع ساخر حقًّا يتناوله المسلسل بإسهاب، وهو «رعاية المتعة الإلزامية» عندما يقوم مكان العمل بدعوة الموظفين للرحلات الجماعية، أو جلسات التشافي، أو الحفلات الموسمية الخاصة داخل المؤسسة، وحماس الموظفين لهذه المكافآت التافهة، إذ يظهر هذا كله كنكتة مركزية في المسلسل. بكل تأكيد تُستخدم هذه الامتيازات للتلاعب بالموظفين وإجبارهم على الطاعة. لكن من المهم بعد ذلك أن نرى كيف أن المسلسل لا يملك الكثير ليقوله عن الثروة والربح كقوة دافعة لهذا الاستغلال.
تستخدم الشركات كما يظهر في المسلسل العلاقة بالعائلة كأداة من أدوات السيطرة. بالإضافة لأطروحة برغر أجدني هنا أقول بأنها سمة نيوليبرالية واضحة، إذ تصبح رغبتنا في تحصيل الرفاه وحصتنا من الموارد قهرية، وبكل تأكيد لن تحدث متعتنا الكاملة ولا راحتنا إلا إذا كانت العائلة أو من نحب مركزيًّا في حياتنا، هذه الأخيرة بدلًا من أن تكون حاسمة في العيش براحة ورفاهية، تصبح مصدر كدرنا خوفًا من عدم قدرتنا على إعالة من نحبهم، الأمر الذي يجعلنا محاصرين في وظائف وضيعة أو ذات ظروف عنيفة.
في عملية الضبط داخل شركة لومون لا يتم الحديث عن المال! حتى وإن كان سبب انتساب الموظفين وموافقتهم على عملية الشطر بسبب ارتفاع أجور الشركة إلا أننا لا نعرف شيئًا عن هذه الأجور وفيما يستخدمونها! لا يبدو أن أصحاب هذه الشركة الكبيرة يهتمون بالمال مطلقًا ألا يشبه ذلك وعلى نحو قاطع الرأسماليين الذي يحكمون عالمنا؟ ما يختار المسلسل عرضه لنا والطريقة التي يُعالج بها الكثير من المسائل المعقدة تخبرنا على -حد تعبير برغر- عن الحدود حول استعداد المسلسل أن يذهب بعيدًا بالفعل في التعليق والنقد الاجتماعي والجذري للظاهرة التي يدعي تبنيها. وفي الوقت الذي ينبغي فيه أن ينقد المنظومة ينحاز لاجترار الإجراءات اليومية التافهة التي نتعامل معها كموظفين ساخرًا منها دون أن يبتعد كثيرًا عن ذلك.
يقدم العمل هذه الشركة - كشركة استثنائية - مكانًا غرائبيًّا محكومًا من طائفة ما، وهو مليء بالأسرار والشخصيات الكاريكاتورية وهو أمر آخر يدعو للسخرية حقًا! هل كل الشركات والمدراء محكومون بهذه الظروف الكبرى والقصوى التي تجعلهم يسيئون إلينا في العمل؟ طبعًا لا. لكن المسلسل يحاول إقناعنا بالعكس.
في النهاية لا يبدو أن المسلسل يستخدم مسألة الشطر هذه التي تفقد الموظفين ذاكرتهم داخل مكان العمل وخارجه وتفصل بينهما في سبيل التعليق على النظام في هذه الشركات، بل هو يلمح وفي أكثر من مناسبة أن رغبتهم في نسيان ما يحدث خارج العمل قادمة من ظروفهم الشخصية في الخارج، فهنالك الحزين على خسارة زوجته مثلًا والذي يهرب بالعمل من حداده الشخصي. كثيرون منا يريدون نسيان أعمالهم بمجرد مغادرتها مع آخر دقيقة في الشركة، شخصيات المسلسل اتخذت قرارًا بتغيير أدمغتها لتحقيق ذلك، يبدو أن المطلوب منا كموظفين أن نجد طريقة ما، لننسى عنف الداخل والخارج، أما أن نواجه الرأسمالية وبشاعتها وعنفها والمستفيدين منها وهم قلة تحكمنا فذلك أمر لا يمكن حتى لعمل «فني» أن يتخيله.