الجزيرة:
2025-08-01@13:26:21 GMT

كيف يوظف المستبدون الوطنية والخيانة؟

تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT

كيف يوظف المستبدون الوطنية والخيانة؟

ماشيًا على رصيف في باريس واجهتني سيارة آتية في الاتجاه المعاكس. فجأة فتح سائقها نافذتها ليصرخ فيّ: يا كلب، يا بيوّع.. و"البيوّع" في اللهجة التونسية هو بائع الوطن، أي الخائن في أفظع تجلياته.

لا شكّ أنه من أنصار المنقلب- المغتصب الذي لا يفتح فمه في أي مناسبة إلا لإدانة المتآمرين والخونة أمثالي، وأمثال نخبة من رجالات تونس القابعين في سجونه إلى اليوم.

المسكين هو متأكد أنني "بيوع" لكنه متحيّر لا يدري لمن بعت الوطن، وكم قبضت، وأين خبّأت المال الحرام.

عبث مواجهة بيادق السلطة بحجج من نوع: وطنيتنا التضحية بأنفسنا من أجل قيم ومبادئ، ووطنيتكم التضحية بالآخرين من أجل امتيازات ومصالح. وطنيتنا نضال، ووطنيتكم تمثيل.. إلخ. فهذه الأبواق مجندة ليلَ نهار للادعاء بأن العكس هو الصحيح، ولها داخل شعب الرعايا من يصدّق ويصفق.

إنها الوطنيّة التي يمكن وصفها بالنظامية بما أنها تقرن آليًا بين الوفاء للوطن والوفاء للنظام السياسي، وهي بجانب الانتخابات التسعينية العلامة المسجلة لكلّ نظام استبدادي.

لقائل أن يقول إن مثل هذه الوطنية الزائفة لا تنطلي على أحد، وفي كل الحالات لا يجوز اعتبارها حجة على الوطنية "الحقيقية".

نعم، ولكن.

إعلان

ماذا لو كان المفهوم نفسه ملغّمًا بخصائص تسهّل على الاستبداد الاستيلاء عليه وتفويضه في صراعاته الخسيسة ضدّ معارضيه؟

يقول المفكر الصيني لاو- تسو: لا وجود للأنثى كأنثى إلا بوجود الذكر.. من أين لك أن تعرف ما الجمال إن لم تعرف ما القبح.. أي معنى للخير دون وجود الشرّ؟

في هذا السياق، يمكن القول إننا لا نخلق لغويًا وشعوريًا وسياسيًا مفهوم الوطني، إلا وخلقنا معه آليًا نقيضه. إذ كيف نعرف من هو الوطني إن لم يكن بمقارنته بهذا العدو الداخلي الذي نسمّيه الخائن، والذي لا بد من مجابهته بالكره والاحتقار، وضرورة الإجهاز عليه.

هكذا تقاس الوطنية عند الوطنيين بدرجة السخط الذي يبدونه، وهم منتفخو الأوداج يستنكرون ويدينون ويلعنون ويهددون خونة يعرّفون برفضهم الولاء للنظام الساهر وحده على أقدس القضايا، وهي حماية الوطن.

العنصر الضروري الثاني لوجود الوطنية هو العدو الخارجي. قد يكون كرهه هو الآخر في محلّه عندما يتخذ شكل الغازي والمستعمر (إسرائيل نموذجًا بالنسبة للوطني الفلسطيني). لكن قد يكون العدوّ مصطنعًا أو مخيّلًا. إنه ما يحدث حاليًا في كثير من البلدان الغربية، حيث يقدم المهاجرون على أنهم طابور غزو خارجي، ودرجة الوطنية عند اليمينيين المتطرفين تقاس بمدى كرههم للأجانب، وما يقدرون عليه من أذى يلحقونه بهم.

المكوّن الخطير الثالث للوطنية وهو ما أسميه الهُوية الضدية. فالهوية كما يفهمها الوطني أكان معتدلًا أم متشدّدًا، مبنية دومًا على مضادة هوية الآخر. داخل هذا الفهم للهوية يكمن عنصر مخفيّ بخبث أو مكشوف بوقاحة، وهو عنصر المفاضلة والتميز والتفوق.

قد يبقى هذا العنصر متحكّمًا فيه مسيطرًا عليه لا يفضح وجوده الصامت إلا ببعض النكت البائخة عن عيوب الآخر المفترضة، أو الهتافات للفريق الوطني في ملاعب كرة القدم. لكنه قد يتطوّر إلى ملاسنات فظة على صفحات التخاصم الاجتماعي، إلى أن ينتهي بصراعات يسيل فيها دم الإخوة الذين جعلت منهم الوطنية ألد الأعداء.

إعلان

لقائل أن يقول إن من الإجحاف اختزال الوطنية في كره عدو داخلي وخارجي أكان حقيقيًا، أم مخيّلًا، أو التبجح بتفوق حقيقي، أو خيالي على الآخرين. ماذا عن الوطنية كحبّ جارف لأرض الآباء والأجداد؟ أليس هذا الشعور، أيضًا، مكوّنًا لا مجال لإغفاله في أي تحليل موضوعي للمفهوم؟

مَن مني أكثر حبًا لأرض الآباء والأجداد، خاصة في هذه الأيام وأنا مضطر في خريف العمر لثالث نفي في حياتي بعد أحكام بالسجن في أكثر من قضية مفبركة؟ لا يمرّ يوم دون أن يشدني الحنين لنخيل الجنوب، لزيتون الساحل، لمزارع العنب والبرتقال في الوطن القبلي، لغابات البلوط في جبال الشمال الغربي عندما تغطيها ثلوج الشتاء. قد لا يشعر المرء بكل هذا الحب إلا عندما يحرم من أرض استولى عليها وطنيو الربع ساعة الأخيرة.

طيب، لكن أين يقودنا مثل هذا الكلام؟ بداهة لن نذهب به بعيدًا، فالطبيعي بين بشر كل زمان ومكان أن يحب كل إنسان الأرض التي نشأ فيها كما يحب الأم التي ولدته. قد نتجاوب مع محمود درويش في حنينه لخبز أمه وقهوتها، ومع فيروز وهي تغني لأمها الملاك.

لكن، تصور كم سيكون المشهد مضحكًا ونحن نغرق تحت سيل القصائد التي تمجد أمّنا وتضعها فوق كل الأمهات، وتؤكد استعدادنا للموت من أجلها. ثم أليس من خصائص الحب الحقيقي أنه بغير حاجة للصراخ وإلا كان هذا الصراخ دليل شبهة في صدق ما يدَّعى؟

ثمة أسئلة أخرى بخصوص هذه الوطنية، ولنسمِّها الجغرافية بما أنها مرتبطة بعلاقة مميزة مع فضاء معين له حدود واضحة.

ألا نعرف كلنا داخل حدود الوطن الواحد سموم الجهوية أو المناطقية، وهي توقّف حب البعض عند الرقعة الجغرافيّة الصغيرة لجهتهم أو منطقتهم، مع نفور، وحتى كره للجهات الأخرى. كم مضحكٍ تصور هؤلاء القوم المتقوقعين داخل قبَليّتهم وجهتهم ينشدون النشيد الرسمي الممجد لنفس الوطن، وهم داخل ذواتهم يكرهون بعضهم البعض، ويغارون من بعضهم البعض.

إعلان

لنأخذ المفهوم في الاتجاه المعاكس.

تطلب مني الوطنية التونسية أن ينخفض "محرار" الحبّ الوطني من الدرجة العاشرة إلى الدرجة الواحدة أو الثانية حالما أتجاوز معبر "ببوش" على الحدود الجزائرية؛ لأن حبّ الأرض الواقعة بين "ببوش" و "زوج ابغال" على الحدود المغربية مسؤولية الجزائريين وحدهم.

نعم، ولكن ماذا أفعل وأنا العروبي (غير القومي والحمد لله) بحبي لأزقة خان الخليلي والحميدية وسوق واقف وساحة جامع الفنا، ولي في كل هذه الأماكن أجمل الذكريات، ويشدّني الحنين إليها أحيانًا بنفس قوة الحنين لأزقة القيروان وسوسة وتونس العاصمة؟

صحيح أنني شعرت بالقلق عندما اندلعت الحرائق في شرق الجزائر؛ خوفًا من انتقالها لشمال غرب تونس والقضاء على ما تبقى فيه من غطاء نباتي. لكنني شعرت بنفس القلق عندما اجتاحت الحرائق منذ سنوات غابات أستراليا وكندا؛ لعلمي أن الآثار الكارثية لهذه الحرائق لن يسلم منها شعب أو وطن في عالم لا حدود فيه إلا الوهمية التي نرسمها على الخرائط.

أذكر أنني ارتطمت يومًا بعنصريّ صرخ في وجهي: "أرجو يا سيدي أن تتذكر أنك في بلدي " فجاوبته ببرود: "وأرجو يا سيدي أن تتذكر أنك على كوكبي".

الخلاصة أنّ الوطنية إن بنيت على الكره فهي مصيبة؛ لأنها لا تخلق الخائن إلا وتخلق معه القاضي والجلاد وسجونًا من نوع برج الرومي، وأبو سليم، وتازمامارت، وأبو غريب، وصيدنايا. أما إذا بُنيت على حب جارف لقطعة من الفضاء مطوقة بحدود خيالية رسمتها ظروف تاريخية دون اعتبار لوحدة الأرض، فهي التي تجدها وراء جل الحروب العبثية التي جعلت تاريخ جنسنا البشري يكتب بمداد الدم.

لكل من نشؤُوا على أن التشكيك في قدسية الوطنية مثل التشكيك في وجود الله، لا تبقى إلا آخر حجة، وهي أن الوطنية بالرغم من انحرافاتها أقوى حافز للخلق والإبداع في تنافس ضروس مفروض على الشعوب والحضارات.

إعلان

صحيح.. لكن انظر أيضًا الثمن.

إن أكبر قلب للحقائق يرتكبه وطنيو الاستبداد ليس جعل الوطنيين خونة والخونة وطنيين، وإنما تسمية رعاياهم مواطنين. هكذا تسمع في وسائل تضليل الأنظمة الاستبدادية أنه يرجى من المواطنين فعل كذا وكذا، وأن مواطني منطقة ما خصوا الرئيس باستقبال حافل، وأن المواطنين مدعوّون للانتخابات يوم كذا.. إلخ.

ابحث عن الحقيقة المقلوبة تجد شعبًا من الرعايا يخضع لكل مقاييس ومؤشرات الرعوية. فالنظام الاستبدادي له مطلق الحق في التصرف في الأجساد تعذيبًا وحبسًا ومنعًا من التنقل متى يشاء. له الحق أيضًا في التصرف في كرامة البشر وحرياتهم. حدث ولا حرج عن حقه غير القابل للتصرف في التصرف في أموالهم بكل أنواع الفساد.

مما لا جدال فيه أن الاستبداد حتى باعتبار كل ما فيه من "إيجابيات"، مثل؛ الاستقرار والأمن، وحتى التقدم الاجتماعي والاقتصادي، كما الحال في الصين هو ماكينة لصنع شعب من الرعايا؛ أي شعب من البشر الخائفين الذليلين الخانعين المنتقمين ممن صادروا حريتهم وكرامتهم بالمقاومة السلبية إلى لحظة الانفجار الثوري.

كذلك لا جدال أن الديمقراطية بمؤسساتها وقوانينها (على ما فيها من سلبيات مثل الإضرابات والأزمات السياسية)، هي ماكينة صانعة لشعب من المواطنين، ومصنوعة منه. ما يحرك ويتعهد ويحافظ ويصلح هذه الماكينة هي المواطنية لا غير.

للاقتراب من النواة الصلبة للمفهوم، يجب تفحص أين تقطع المواطنية بصفة جذرية مع الوطنية، وكيف تعيد رسم صورة الوطن الذي يشكل نقطة التواصل، ونقطة الخلاف بين المفهومين.

القطيعة الأولى: الوطن ليس قطعة من الجغرافيا مطوقة بحدود. هو جملة البشر الذين يسكنون هذه القطعة من الجغرافيا؛ أي أن الوطن هو المواطنون لا غير. القطيعة الثانية: خريطة الوطن مرسومة على جسد كل مواطن وكل مواطن هو الممثل الشرعي للوطن، ومن ثم فالقول بشرعية التنكيل به رفعة للوطن مقولة بغباء وإجرام مقولة أنه يجوز قطع أصابع اليدين وعور عين وكسر عظم الترقوة حفاظًا على صحة البدن. القطيعة الثالثة: المواطنون هم الذين يملكون الدولة التي تملك الأرض المسماة وطنًا، وليست الدولة هي التي تملكهم، أي أنهم هم من يملكون الوطن وليس الوطن من يملكهم. من تبعات الموقف أنه لا حق لأحد في الاستئثار بالوطن ولا ادعاء تمثيله إلا بتفويض ديمقراطي مؤقت من قبل شعب حرّ، وفي إطار شروط المواطنية. إعلان

لاحظ هنا أنه باختفاء "الخائن العميل المتآمر" من منظومة المواطنية، يتبخّر البوليس السياسي والجلادون والقضاة الفاسدون والسجون المخيفة. تقول: لكن كيف تحل ّالخلافات والتصرفات "اللامواطنية" مثل انتهاك حقوق الآخرين، وعدم الاضطلاع بالواجبات التي يفرضها العقد الاجتماعي؟

طبعًا ستكون هناك صراعات نرجسيات ومصالح وقيم، لكنها تحلّ بالاحتكام للصندوق أو لقضاء مواطني، أي مستقل وعادل قولًا وفعلًا. تصور لحظة الكم الهائل من الآلام التي توفرها المواطنية، مقارنة بالكم الهائل من الآلام التي تتسبب فيها الوطنية.

يمكننا الآن بعد مرحلة فشّ الغيظ في الوطنية والوطنيين البحث عن شروط ومواصفات المفهوم:

المواطنية هي جملة المواقف والتصرفات الفردية والجماعية المتفق عليها بين أفراد نفس المجتمع، والمبنية على قبولهم بأن لهم جميعًا نفس الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق في الحرية والكرامة والمساواة، ولهم نفس الواجبات، أي احترام حقوق الآخرين المنصوص عليها في هذا الإعلان، مع رفض التخلي عن أي من هذه الحقوق مهما كانت قوة الضغط، والاضطلاع بكل الواجبات التي تنجرّ عن هذه الحقوق دون حاجة لأي إكراه. المواطنية هي أساس العقد السياسي، الذي يربط بين المواطنين ودولة قانون ومؤسسات تستمد شرعيتها من إرادتهم الحرة، ولا وظيفة لها غير تمكينهم من كل حقوقهم، وتسهيل الاضطلاع بواجباتهم. المواطنية هي التزام أخلاقي وسياسي لا يتوقف عند الحدود الوهمية للوطن الجغرافي، وإنما يتعداه إلى كل البشر أكانوا من بني جلدته أم لا؛ لأن المواطن لا يبني هويته على كل ما يفرق بين البشر، وإنما على أهم ما يجمعهم أي إنسانيتهم المشتركة وشعاره الذي رفعه العظيم مانديلا: الإنسان الحر ليس الذي يدافع عن حريته وإنما الذي يدافع عن حرية الآخرين. إعلان

فرق جذري أخير بين الوطنية والمواطنية. الأولى موجودة في الواقع أكان في شكلها الصادق أم في شكلها الوظيفي. لكن المواطنية غير موجودة في أغلب المجتمعات، أو بصفة ناقصة ومهددة حتى في الديمقراطية التمثيلية التي تضمن بعض شروطها كالحرية، وتعجز عن توفير أخرى كالمساواة.

المواطنية، إذن، مشروع لا معطى، وهذا المشروع لن يتوسع ويتعمق إلا بتطوير الديمقراطية نفسها. المواطنية نضال ما زال في بدايته ويجب أن يتواصل حتى يصبح الوطن الأرض التي نهرب إليها بعد أن جعلتها الوطنية الأرض التي نهرب منها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟

أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.

ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.

فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.

النكبة

لقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.

فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.

قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

إعلان

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.

فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

أمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

إعلان النكسة

لقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

إعلان حرب العبور

لقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.

مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • صعدة تواصل حشدها المليوني تحت شعار “ثباتا مع غزة وفلسطين، ورفضا لصفقات الخداع والخيانة”
  • “رونالدو… نجم النصر الذي لا يبتسم للإعلام النصراوي”
  • خالد بن محمد بن زايد يشهد عروضاً تخصصية لمجندي الدفعة الـ 22 من منتسبي الخدمة الوطنية في مركز تدريب سويحان
  • نصرة الأقصى تدعو للخروج المليوني بمسيرات “ثباتا مع غزة ورفضاً لصفقات الخداع والخيانة”
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • صنعاء: دعوة لخروج مليوني الجمعة رفضا لصفقات الخداع والخيانة
  • لجنة نصرة الأقصى تدعو للخروج الواسع بمسيرات “ثباتا مع غزة وفلسطين ورفضا لصفقات الخداع والخيانة”
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • الجبهة الوطنية: الدول التي تسقط لا تنهض مجددا وتجربة مصر العمرانية هي الأنجح
  • قائد عام شرطة أبوظبي يشهد عروضاً تخصصية لمجندي الخدمة الوطنية في العين