سودانايل:
2025-07-30@22:35:22 GMT

انجلز والدفاع عن فلسفة هيجل

تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT

عبد المنعم عجب الفَيا

مقدمة:
في كتابه (لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية) يقدم انجلز قراءة لفلسفة هيجل تبدو مغايرة للفهم السايد والمختزل لهيجل في الادبيات الماركسية. ومع ان العنوان الذي اختاره انجلز لهذا للكتاب يوحي بأنه رد على مادية فيورباخ ، الا ان الكتاب يمكن أن يعد دفاعا عن فلسفة هيجل وشرحا عميقا لها أكثر من كونه ردا على فيورباخ.


وفيما يلي نورد اهم النقاط المفصلية في دفاع انجلز عن فلسفة هيجل والتي تكشف عن مكانتها السامية والمهيمنة في الفلسفة بعامة والنظرية الماركسية بخاصة.
**
" إن الواقع، تبعا لهيجل، ليس صفة ملازمة لنظام اجتماعي وسياسي معين في جميع الأحوال وفي كل الأزمان.. فان كل شيء كان واقعا فيما مضى، يصبح في مجرى التطور غير واقع، ويفقد ضرورته وحقه في الوجود، وصفته المعقولة. ومحل الواقع المتحضر يحل واقع جديد صالح للحياة، يحل محله سلميا، اذا كان القديم عاقلا وتقبل مصيره دون مقاومة، وبالعنف اذا عارض القديم هذه الضرورة. وهكذا فان موضوعة هيجل (كل ما هو واقع معقول، وكل ما هو معقول واقع) تتحول بفضل الديالكتيك الهيجلي، إلى نقضيها: كل ما هو واقع في مجال التاريخ الإنساني يغدو مع مرور الزمن منافيا للعقل، فهو إذن في طبيعته بالذات غير معقول، مطبوع مسبقا بخاتمة اللاعقلية. وكل ما هو معقول في اذهان الناس، محكوم عليه بأن يغدو واقعا مهما كان مناقضا للواقع المتصور القايم.
فالموضوعة التي تقول بأن كل ما هو واقع. معقول، تتحول وفقا لجميع قواعد طريقة التفكير الهيغلية، الي موضوعة أخرى، هي ان كل ما هو قايم مصيره الزوال.
أن الاهمية الحقيقية، والطابع الثوري للفلسفة الهيجلية، والتي ينبغي أن نقصر بحثنا عليها بوصفها المرحلة الختامية لكامل الحركة الفلسفية منذ كانط، فيقومان بالضبط، في ان فلسفة هيجل وضعت حدا نهائيا لكل تصور عن الطابع النهائي لنتايج فكر الإنسان وفعله. فالحقيقة التي كان ينبغي أن تعرفها الفلسفة، لم تبد لهيجل في شكل مجموعة من العقايد الجامدة الجاهزة، التي ليس للمر بعد اكتشافها الا ان يحفظها عن ظهر قلب.
لقد انحصرت الحقيقة مذ ذاك في مجرى المعرفة نفسه، في التطور التاريخي الطويل للعلم الذي يصعد من درجات دنيا إلى درجات أعلى، فأعلى، في سلم المعرفة، ولكن دون أن يبلغ ابدا نقطة لا يستطيع أن يستمر سيره منها بعد إيجاد ما يسمى الحقيقة المطلقة. ولم يعد له بتاتا ان يبقى حيث هو، مكتوف الأيدي، يتأمل بإعجاب الحقيقة المطلقة التي حصل عليها.
هكذا يجري، سوا في ميدان المعرفة الفلسفية ام في ميدان اي معرفة كان، وفي ميدان النشاط العلمي كذلك. ان التاريخ شانه، شان المعرفة، لن يكتمل نهائيا في وضع مثالي كامل للانسانية. فالمجتمع الكامل والدولة الكاملة، إنما هما شيان لا يمكن لهما وجود الا في المخيلة. بل الأمر علي النقيض من ذلك، فجميع النظم الاجتماعية التي تتعاقب في التاريخ ليست سوى مراحل مؤقتة لتطور المجتمع الإنساني، الذي لا نهاية له، من درجة دنيا إلى درجة عليا. فكل درجة ضرورية، يبررها بالتالي العصر والظروف التي ترجع إليها بنشاتها. ولكنها تغدو زايلة وغير مبررة ازا ظروف جديدة أرقى، تتطور شيا فشيا في احشايها بالذات. فهي مضطرة إلى أن تخلي المكان لدرجة أعلى، تنحط وتزول بدورها هي الأخرى. فكما ان البرجوازية تحطم عمليا، بواسطة الصناعة الكبيرة والمزاحمة والسوق العالمية، كل المؤسسات القديمة المثبتة التي قدستها العصور، كذلك تحطم هذه الفلسفة الديالكتيكية جميع التصورات عن الحقيقة المطلقة النهائية، وعن أوضاع الإنسانية المطلقة المناسبة لها. فليس هناك، بالنسبة الفلسفة الديالكتيكية، شي نهايي، مطلق، مقدس. إنها ترى حتمية الانهيار في كل شيء، ولا يوجد شيء يستطيع الصمود في وجهها الا المجرى المستمر للنشو والزوال، الصعود اللامتناهي من أدنى الي أعلى. وهي نفسها ليست سوى انعكاس بسيط لهذا المجرى في الذهن المفكر. ولها أيضا في الحقيقة، جانبها المحافظ. فهي تبرر كل مرحلة معينة من مراحل تطور المعرفة والعلاقات الاجتماعية في زمانها وظروفهما، لا أكثر. والصفة المحافظة لهذه الطريقة في الفهم نسبية، وطابعها الثوري مطلق. وهذا هو الشي الوحيد المطلق الذي تقبله الفلسفة الديالكتيكية..
ويشير هيجل لا سيما في كتابه (المنطق) إلى أن هذه الحقيقة الخالدة ليست سوى المجرى المنطقي التاريخي نفسه. ويجد هيجل بالذات نفسه، مضطرا إلى أن يضع لهذا المجرى نهاية. إذ كان عليه أن ينهي منهجه بشكل من الأشكال. ففي (المنطق) يستطيع أن يصنع من هذه النهاية بداية جديدة، لان النقطة النهائية، اي الفكرة المطلقة - التي ليست مطلقة الا لانه لا يستطيع مطلقا ان يقول عنها شيء - تنقل هناك نفسها اي تتحول إلى الطبيعة، وتعود من جديد إلى نفسها في الروح اي في الفكر والتاريخ..
كل ذلك لم يمنع منهج هيجل من ان يشمل ميدانا أوسع بكثير من اي منهج سبقه. وان يعطي في هذا الميدان ثروة من الأفكار ما زالت تدهشنا الي اليوم. كما في نظرية تطور الروح، التي تعد تصويرا للوعي الفردي في مختلف مراحل تطوره والتي تعتبر موجزا للدرجات التي مر بها الوعي الإنساني تاريخيا، وفي المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح، وهذه الأخيرة موضحة في فروعها التاريخية المنفصلة: فلسفة التاريخ والحقوق والدين، وتاريخ الفلسفة، وعلم الجمال الخ.
في كل ميدان من هذه الميادين التاريخية المختلفة، يحاول هيجل ان يجد خط التطور الذي يمر عبر هذا الميدان أو ذاك،أو يشير إلى هذا الخط. ولما كان هيجل ليس نابغة وحسب، بل كان علامة ذا معارف واسعة جدا، فإن عمله، أينما قام به، قد شكل عصرا كاملا.
ومن المفهوم ان ضروريات المنهج قد ارغمته كثيرا على اللجوء إلى إنشاءات قهرية، لا يزال خصومه الحقرا يطلقون بصددها الزعيق المزعج. غير أن هذه الإنشاءات لا تقوم الا بدور اطارات أو صقالات الصرح الذي يبنيه. ومن لم يتوقف هنا طويلا بل يتوغل في أعماق الصرح الجليل، سوف يجد فيه كنوزا لا عد لها، ولا تزال تحتفظ بكل قيمتها حتى أيامنا هذه.
أن المنهج بالضبط هو الشي الزايل عند جميع الفلاسفة. وذلك أن المناهج ناشية عن حاجة للروح الإنساني غير زايلة، هي حاجة التغلب على جميع التناقضات. ولكن لو ان جميع التناقضات كانت قد ازيلت نهاييا، لكنا وصلنا إلى ما يسمى الحقيقة المطلقة، ولكان انتهى التاريخ العالمي، ولكنه كان يجب على التناقض، في الوقت نفسه، أن يستمر حتى ولو لم يبق له شيء للعمل، الي ان يظهر تناقض جديد، تناقض لا يمكن حله.
أن الطلب من الفلسفة ان تحل جميع التناقضات، يعني الطلب من الفيلسوف الواحد ان يفعل فعلا لا تستطيعه الا البشرية جمعا في تطورها إلى الأمام. وحين ندرك هذا، والفضل في ذلك يعود إلى هيجل أكثر مما إلى أي شخص آخر، تنتهي كل الفلسفة، بالمعنى القديم للكلمة. ونترك الحقيفة المطلقة التي لا يمكن أن يدركها بهذا الطريق كل إنسان لوحده، ونسعي بالمقابل ورا الحقايق النسبية التي يمكننا أن ندركها، في طريق العلوم الإيجابية، معممين نتايجها بمساعدة الفكر الديالكتيكي.
فمع هيجل تنتهي، بوجه عام، الفلسفة، لان منهجه، هو نتيجة جليلة لتطور الفلسفة السابق كله،. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لانه يرينا، ولو عن غير ادراك منه، الطريق الذي يقود من تيه المناهج هذا، إلى معرفة العالم معرفة حقيقية إيجابية".

* المصدر:
لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ماركس انجلز، مختارات، الجز الرابع، دار التقدم، موسكو. ص 8-15

*كتابات ذات صلة:
لمن يرغب في التوسع في هذا النهج الذي مضى فيه انجلز هنا لقراءة هيجل يمكنه الرجوع إلى اهم مصدرين في هذا الاتجاه وهما:
1- الكسندر كوجيف، مدخل الي قراءة هيجل، ترجمة، عبد العزيز بمسهولي، رؤية، ٢٠٢١
٢- هربرت ماركيوز، العقل والثورة: هيجل ونشاة النظرية الاجتماعية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للنشر والتاليف، ١٩٧٠

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کل ما هو

إقرأ أيضاً:

مقاربة جديدة: كيف يوظف ترامب التعريفة الجمركية كآلية ردع في ملفات الأمن والدفاع؟

بطريقة مبتكرة، يستخدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التعريفة الجمركية كآلية للعقوبات في مواجهة المعارضين والمنافسين في النظام الدولي لتحقيق أهداف تتعلق بملفات الأمن والدفاع؛ فعلى سبيل المثال، حدث ذلك ضد إسبانيا عندما حذرت في قمة لاهاي من عدم الامتثال لزيادة الإنفاق العسكري. ولاحقاً استخدم ترامب نفس الورقة في الضغط على روسيا، من أجل وقف الحرب على أوكرانيا. وفي السياق ذاته، أكد أن على الصين مراجعة الاستثمارات ذات الصلة بالأمن القومي الأمريكي.

تشكل مقاربة ترامب هذه آلية مستحدثة للردع والعقوبات، فبغض النظر عن الدوافع والتداعيات الاقتصادية للتعريفة الجمركية؛ فهي قد أصبحت توظف كوسيلة لردع الحلفاء في حلف الناتو عن تقليص نفقاتهم الدفاعية، كما أنه يستخدمها لتوجيه ضغوط استراتيجية على روسيا والصين، في إطار ما يعرف بسياسة الاقتصاد القائم على الثالوث (اقتصاد، أمن، دبلوماسية).

الربط بين الإنفاق الدفاعي والتعريفة الجمركية الأمريكية:

1. الإنفاق الدفاعي للناتو والتعريفة الجمركية: في قمة الناتو التي عقدت في لاهاي (25 يونيو 2025) طالب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أعضاء الحلف برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل منهم بحلول 2035، مهدداً إسبانيا بفرض تعريفات جمركية “مضاعفة” لتعويض النقص في مساهمتها، وذلك بعد إعلان مدريد أنها سترفع مستوى الإنفاق لكن أقل من الهدف الأمريكي المعلن. وتجدر الإشارة إلى أن إسبانيا هي الأقل بين دول أعضاء الحلف في الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج؛ حيث لا تتعدى هذه النسبة لديها 1.24%.

صدر إعلان قمة لاهاي متضمناً موافقة كافة أعضاء الحلف (32 عضواً) بمن فيهم إسبانيا، على زيادة الإنفاق العسكري إلى المستوى الذي طالب به الرئيس الأمريكي؛ ومن ثم أفلحت الطريقة التي استخدمها ترامب. كما تشير العديد من التقارير التي تناولت كواليس القمة إلى أنه قد ساد اتجاه عام بين الأعضاء بعدم معارضة طلب الرئيس الأمريكي، بالنظر إلى العواقب المحتملة لذلك.

وفقاً لأحدث مؤشر إنفاق سنوي لحلف الناتو في 2024، بلغ إجمالي الإنفاق العسكري للولايات المتحدة نحو 967 مليار دولار؛ بما يعادل 3.38% من ناتجها المحلي الإجمالي، كما تشير بيانات الناتو إلى أن المساهمة الأمريكية تناهز نحو 66% من الميزانية الدفاعية للحلف؛ وهو ما يجد فيه ترامب مبرراً لموقفه المطالب لباقي الأعضاء بزيادة الإنفاق. هذا الإنفاق الدفاعي الأمريكي يتجاوز قرابة 42 مرة حجم إنفاق إسبانيا التي بلغ حجم إنفاقها الدفاعي في نفس العام نحو 19.7 مليار يورو (≈ 22.9 مليار دولار)؛ أي ما يعادل 1.24% من ناتجها المحلي الإجمالي.

 

في ضوء ما سبق، هناك إشكاليات عديدة تتعلق بالتزام أعضاء الناتو بتعهدهم برفع الإنفاق، وكذلك بالقدرة على الوفاء بذلك التعهد، لكن ثمة إشكالية أخرى؛ إذ كيف يمكن الربط بين الإنفاق الدفاعي للناتو وعائد الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على الدول غير الملتزمة بتعهدها؛ بمعنى هل ستخصص حصيلة تلك الرسوم لصالح موازنة الناتو؟ وكيف سيتم ذلك؟ ولا ريب أن طرح هذه التساؤلات ينطوي على أهمية كبيرة في هذا التوقيت، إضافة إلى أنه يقوم على فرضية أن هناك ربط سيتم بين الإنفاق الدفاعي للناتو وعائد الرسوم الجمركية على أساس توجيه جزء من الإيرادات الجمركية الجديدة إلى تمويل الالتزامات الأمنية عبر تخصيص برلماني في الموازنة الفدرالية، وهو ما يمكن توضيحه في النقاط التالية:

• آلية توليد الإيرادات الجمركية: حيث تحصل الحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة رسوماً جمركية على الواردات، وتذهب هذه الإيرادات إلى الصندوق العام (General Fund) للخزانة الأمريكية. وقد تجاوزت هذه الإيرادات 100 مليار دولار منذ بداية السنة المالية 2025، ومن المتوقع أن تصل إلى 300 مليار دولار بحلول نهاية العام؛ ما يجعلها رابع أكبر مصدر دخل للحكومة الفدرالية (يعادل 5% من إجمالي الإيرادات).

• عملية التخصيص للإنفاق الدفاعي: لا توجد آلية تلقائية تحوّل هذه الإيرادات إلى ميزانية دفاع الناتو؛ حيث يقوم الكونغرس بإقرار ميزانية سنوية تتضمن تخصيص حصص محددة من الصندوق العام لوزارة الدفاع (DoD) أو لبرامج محددة ذات صلة بالناتو؛ بعبارة أخرى، يمكن للرئيس أو وزير الخزانة اقتراح استخدام جزء من عائدات الرسوم لتغطية نفقات دعم الحلف، لكن الأمر يتطلب تشريعاً من الكونغرس يحدد حجم هذا التخصيص وصياغته في قانون الموازنة.

وعلى الرغم من وجاهة الأسانيد السياسية والقانونية التي طُرحت؛ فإن التطبيق العملي يعكس قدراً من الاحتقان المكتوم بين الولايات المتحدة وحلفائها، من منظور تسليع الأمن والدفاع، أكثر من الارتباط بنهج حلف دفاعي يقوم على مشتركات سياسات دفاع في المقام الأول، دون تجاهل تقاسم الأعباء.

2. استهداف روسيا والصين: ربط ترامب أوامره بشأن العقوبات التجارية الإضافية على وادرت بلاده من شركاء روسيا التجاريين بضرورة إنهاء الحرب مع أوكرانيا خلال 50 يوماً، مهدداً بفرض رسوم جمركية بنسبة تصل إلى 100% على واردات النفط والغاز الروسية الموردة عبر أطراف ثالثة، بالتوازي مع خطة لإرسال منظومات باتريوت إلى كييف عبر حلف الناتو.

أدخل قرار ترامب الصين في المعادلة، فمن خلال هذه الآلية اعتمد ترامب على المادة 232 من قانون توسعة التجارة عام 1962 لفرض تعريفات بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على الألومنيوم من الصين في مارس 2018، مبرراً القرار بحماية الأمن القومي من “تهديد إمدادات المعادن الحيوية” وتقييد ما وصفه بالإغراق السلعي والسرقة الفكرية.

ويرمي هذا النهج إلى أمرين رئيسيين: أولاً، إعادة توزيع أعباء الدفاع داخل الناتو وخفض الاعتماد المالي الأمريكي، وثانياً، استهداف موارد تمويل العمليات العسكرية الروسية وفرض قيود على نمو القوة الصناعية الصينية المرتبطة بالتطبيقات الدفاعية.

إضافة لما سبق، سيرتب القرار آثار جيوسياسية على روسيا، فقد يؤدي خنق صادرات الطاقة عبر فرض رسوم على المستوردين إلى تقليص عائدات الكرملين العسكرية؛ لكنه بالتزامن قد يحفز موسكو على رد إجراءات انتقامية شاملة تشمل التعريفات المضادة، مع أن هيكل التبادل أصبح أقل من مستوي التأثير عليه من الجانب الاقتصادي.

بالنسبة للصين أيضاً، يعتقد أن توسع تحقيقات المادة 232 ليشمل قطاعات جديدة مثل الرقائق والمعادن الحيوية يحمل رسالة واضحة للقيادة الصينية بضرورة إعادة النظر في سياسات الاستثمار والتكنولوجيا ذات الصلة بالأمن القومي الأمريكي.

تدخل ترامب في سياسات الدفاع بدول الناتو:

إن التعقيد الشديد في العلاقة بين الاقتصاد بأدواته من ناحية، والسياسة والأمن بأدواتهما من ناحية أخرى؛ يجعل من الحكم على توجه ترامب الجديد ومآلاته أمراً محفوفاً بالمخاطر ومهمةً يشوبها الكثير من الصعوبة؛ كما أن التداخل الشديد في الأدوات التي دأب ترامب على استخدامها من أجل الوصول إلى غاياته، سواءً خلال ولايته الرئاسية الأولى أم منذ توليه السلطة في بلاده للمرة الثانية مطلع العام الجاري، هو بدوره عامل إضافي يعزز صعوبة تلك المهمة.

بجانب ذلك فإنه، هو أنه برغم أن ترامب قد أعلن أن الأموال المحصلة من الرسوم الجمركية التي ستفرضها بلاده على دول الناتو غير الملتزمة برفع الإنفاق العسكري، ستأخذ طريقها إلى ميزانية الحلف؛ فإن هذا الأمر لا يجب التعامل معه بأنه مسلم به، وذلك في ظل اعتبارات عدة، أهمها شخص ترامب ذاته، الذي يتميز بالمراوغة وبالتراجع عن قراراته وتعهداته في معظم الأحيان؛ هذا بجانب أنه وإن كان جزء من حصيلة الرسوم الجمركية التي تحصلها الولايات المتحدة بالفعل يذهب إلى ميزانيتها الدفاعية؛ فإن هذا شأن أمريكي داخلي لا يمكن التعويل عليه كثيراً لدى الحكم على إمكانية تحويل حصيلة الرسوم الجديدة – محل الحديث هنا- إلى ميزانية حلف الناتو.

إن نهج ترامب الجديد داخل حلف الناتو يثبت مجدداً أنه لا يتوانى في البحث عن آليات اقتصادية لتحقيق غاياته السياسية. والأمر الأكثر أهمية، الذي يمكن الإشارة إليه في هذا الإطار، هو أنه وإن صدق ترامب فيما ذهب إليه بشأن تحويل الأموال المحصلة للحلف، وإن تم تمرير ذلك بالفعل وفق الآليات التشريعية داخل الولايات المتحدة؛ فإن تحويل تلك الأموال سيكون في الغالب ضمن مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية الحلف، ولن تكون محولة تحت اسم الدولة أو الدول التي حُصِلت تلك الأموال عبر فرض رسوم جمركية أمريكية على منتجاتها؛ وهذا سيعني المزيد من المصالح والتأثير الأمريكي داخل الحلف، وبتمويل غير أمريكي، أو على أقل تقدير توفير مصادر تمويل غير أمريكية للمساهمة الأمريكية في ميزانية الحلف، حتى وإن بقيت تلك المساهمة عند مستواها الحالي.

وينقل نهج ترامب هذا استخدام سلاح الرسوم الجمركية إلى مساحات جديدة، فبينما كان هذا السلاح موجهاً في بادئ الأمر – وفي الغالب- ضد المصنفين كأعداء لبلاده ككوريا الشمالية وإيران، وروسيا نوعاً ما، أو في أفضل الأحوال ضد المنافسين الاقتصاديين كالصين؛ فإنه أصبح الآن موجهاً ضد الحلفاء، بل والحلفاء العسكريين، مع الأخذ في الاعتبار أن التحالف العسكري يُعد من أعلى مستويات التحالف بين الدول. كما أن نهج ترامب الجديد ينقل سلاح الرسوم الجمركية إلى مساحة جديدة أخرى تتعلق بسياسات الردع والدفاع، أو بمعنى أدق للضغط على الحلفاء من أجل تغيير سياساتهم الداخلية المتعلقة بالردع والدفاع، بما يلبي الرغبات الأمريكية، وهذا أمر لم يحدث من قبل؛ لأنه يمثل نوعاً من التدخل شبه المباشر – وبأدوات اقتصادية- في صياغة سياسات الدفاع للدول، والتي تُعد من أكثر المساحات حساسية وخصوصية بالنسبة لها.

الربح والخسارة والنجاح والفشل:

مثَّل قدوم ترامب إلى السلطة نقطة فارقة في النظام السياسي الأمريكي؛ نظراً لانحداره من سلالة رجال الأعمال؛ ما يجعله يميل إلى ممارسة السياسة عبر وسائل اقتصادية، تقوم على مبدأ الربح والخسارة. كما أن الطابع الشعبوي الذي تصطبغ به شخصية ترامب، يدفعه إلى تبني سياسات ذات بعد قومي تميل للانغلاق على الداخل في إدارة الحكم في بلاده، ويتبدى ذلك في شعار “أمريكا أولاً”، الذي يتبناه. ولا ريب أن نهج ترامب الجديد تجاه حلفاء الناتو، يمكن فهمه في ظل هذه المعطيات؛ وثمة وجهتا نظر متعارضتان في هذا السياق، الأولى: ترى أن ترامب لا يتورع عن استخدام أي من الوسائل، ضد أي من الأطراف الأخرى، من أجل تحقيق مصلحة بلاده، من دون النظر إلى تبعات ذلك مهما كانت. والثانية: ترى أن ترامب يمكن أن يستخدم آلية التهديد ضد أعضاء الناتو، لكن من الصعوبة بمكان أن يعاملهم في الأخير بنفس الطريقة التي يتعاطى بها مع الصين وروسيا.

النتائج المحتملة:

إذا كانت التجربة التاريخية أثبتت في معظم الأحيان أن العقوبات الاقتصادية قد لا تنجح في تحقيق أهدافها، وأن هناك العديد من القيود التي تحد من فعاليتها، والتي من أهمها قوة اقتصاد الدول المستهدفة، وحجم سوقها المحلي وتنوعه، وقوة ميزان مدفوعاتها، وقوة عملتها الوطنية، وكذلك مدى مشاركة الدول الأخرى في العقوبات وغير ذلك؛ فإن نهج ترامب الجديد تجاه حلفاء بلاده في حلف الناتو قد يواجه صعوبات كبيرة في تحقيق المراد منه.

كما أنه وإن كان نهج ترامب الجديد ذا طابع اقتصادي، فإنه يمثل نقطة تحول بالنسبة لآليات صناعة القرار داخل حلف الناتو؛ فإذا كانت الدول الأعضاء قد أذعنت بشكل أو بآخر لضغوط ترامب، فهذا لا يعني أنها ستفي جميعها بتعهداتها؛ نظراً للصعوبات الاقتصادية الداخلية في المقام الأول. بجانب ذلك، فقد تتسبب ضغوط ترامب من ناحية، وعدم التزام الأعضاء الآخرين بتعهداتهم من ناحية أخرى، في حدوث شرخ داخل الحلف، وهي مسألة لن يكون لها تبعات سهلة على مستقبل الحلف.

 

 

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


مقالات مشابهة

  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • افتتاحية: عن الفلسفة الضائعة من سياق حياتنا
  • مؤشرات الأسهم الأوروبية تغلق تعاملات الثلاثاء على ارتفاع
  • مقاربة جديدة: كيف يوظف ترامب التعريفة الجمركية كآلية ردع في ملفات الأمن والدفاع؟
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الحب.. القوة الناعمة
  • د. نزار قبيلات يكتب: فلسفة القيم
  • ضياء رشوان: الأصوات التي تهاجم مصر لا تبحث عن الحقيقة بل عن التحريض
  • شرطة أبوظبي والدفاع المدني تتعامل مع حريق في العين
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • فلسفة الذم والشتائم في الأدب.. كيف تحوّل الذم إلى غرض شعري؟