الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت سياسات الهوية السردية السورية
تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT
اقترب منّي مدفوعا على الأرجح بمكان ميلادي المسجل على البيوغرافيا المطبوعة على أغلفة كتبي بالإيطالية: "دمشق".. وبعد التأكد من انفضاض جميع القراء من حولنا وانتهاء جلسة التوقيع، عرّفني بنفسه وطرح علي سؤاله المباشر دون الكثير من المقدمات: هل صحيح ما يقال عن (النظام) في سوريا؟
حصل ذلك قبل حوالي 6 سنوات خلال حفل الوحدة "Festà dell’Unità" في تورينو، وهي واحدة من أهم التظاهرات الثقافية في إيطاليا، وقد كنتُ مدعوة لندوة مخصصة عن أدب الثريلر رفقة عدد من الكتاب والفنانين الإيطاليين.
والأمر يعود لكوني "ابنة البلد"، وأعلم أن القارئ الإيطالي يدرك تمام الإدراك أنه ما من كاتب في الغرب يُمنح منصة للحديث في السياسة والأيديولوجيا دون أن يكون وراءه "سيد" يمول خرجاته يطلقون عليه باللفظ الإيطالي اسم: Padrone (بادروني). ومن هنا أتى شعار شهير لصحيفة إيطالية كبرى هي "إل فاتو كوتيديانو": صحافة بلا "بادروني". ومفردة "بادروني" بالمناسبة من نفس عائلة Padrino بادرينو(العرّاب)!
إعلانواعتقادي أنه لا يجري على الأغلب إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه عن هوية "البادروني" الذي يقف وراء تمويل رحلته، ويتم الاكتفاء بإخباره عادة عن جمعيات مدنية تنظم الحدث الثقافي الذي يحضُره، لتقديم انطباع يوحي بأننا أمام مهرجان شعبي ممول "من الأسفل" بالتعبير الإيطالي (أي من الجماهير وليس "من فوق" أي من طرف السّاسة).
ولكن بالتأكيد ما من عاقل من شأنه أن يصدق أن أي جمعية أهلية في العالم تعيش على تبرعات الأفراد، بل إن أحدث الإحصائيات الإيطالية تتحدث عن "انحسار كبير ومطرّد للتبرع للجمعيات الأهلية" والسبب "تراجع الثقة في منظمات القطاع الثالث" كما ورد في تقرير لصحيفة" تورينو كروناكا" نُشر بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث أكد رئيس "المعهد الإيطالي للتبرع" أن واحدا من بين كل إيطاليَين "لا يثق في هذه المؤسسات"، لذا فهو لا يتبرع لها أساسا حتى إن اقتُطع المبلغ من ضرائبه، مما يجعل تمويل المنظمات المدنية يكاد يأتي بالكامل من جهات مؤسساتية تصب في برامج ثقافية تضمَن الترويج لسردياتها وتوجهها الأيديولوجي.
وعملية تمويه خطوط تمويل المهرجانات الثقافية في أوروبا (والتي يسهل تتبعها ولا تخفى على المواطن الغربي) غالبا ما تنطلي على الكاتب العربي غير المعتاد على هذه الديناميكية السلطوية المركّبة في تحريك العمل الثقافي، وهو من يجلس عادة في الندوات العربية وصورة الزعيم معلقة مباشرة فوق رأسه (ليفهم القاصي والداني دون كبير عناء هوية عرّاب الجلسة)، بينما في أوروبا يجد الكاتب العربي نفسه يُلقي بعضا من ندواته في بارات رخيصة تفوح منها رائحة العطن، للإيغال في إيهامه بقربه من الجماهير الشعبية، على الرغم من أنه يدرك يقينا أنّ مسوغ نقله للسوق الأوروبية يعود لأسباب سياسية أيديولوجية، ولكنه يجلس مع ذلك قبالة جمهور فضولي ينظر إليه بشفقة صادقة، وهو يتكلم عن الحروب الأهلية والذكورية والكويرية.
إعلان سماسرة الأدب العربي في أوروباوعادة ما يكون الجمهور الأوروبي ممتنا فعلا لرؤية مخلوق أسمر لطيف يرتدي ثياب البشر أتاهم من وراء البحار للحديث بلغة عصرية، تماما كمن يشاهد عرضا لطيفا في السيرك، يحصل بعده السّائس/المترجم على مكافأته المادية مباشرة من المنظمين ضمن المهرجانات الكبرى، أما في إطلالات "البارات" والمكتبات الصغيرة فغالبا ما تكون المكافأة غير مباشرة، أي أنها تأتي من الجامعة التي ينتمي إليها المترجم.
وقد أقرّت أقسام الدراسات الاستعرابية في إيطاليا، قبل سنوات قليلة، ما يطلق عليه نشاطات "القطاع الثالث" ضمن سلم تنقيط الأساتذة، وذلك يعني أن إخراج الترجمات والدراسات العربية -من أسوار الجامعة إلى فضاء التقديم بالمكتبات والمهرجانات والمعارض (أو بتعبير أدق فضاء البيع والشراء)- يساهم مباشرة في رفع رتبة الأستاذ الجامعي المترجم.
وأما الكُتاب الذين يجري استدعاؤهم لرفع الدرجة المهنية للمستعربين (ومعها راتبهم الشهري) فتقتصر مكافأتهم عادة على التأشيرة، و"سيلفيهات" ظريفة أمام معالم المدينة الشهيرة، والأهم من ذلك ما يعتقد الكاتب العربي أنه ترويج يحظى به في السوق الأوروبية يوهمه بأنه تحول إلى كاتب عالمي.
والحقيقة هي أن القارئ الغربي لا يعتبر الكُتاب القادمين مع سماسرة الأدب العربي في أوروبا سوى وكلاء بيع لأكاذيب وسرديات زائفة ممولة من جهات لا تحظى أساسا باحترامهم، فيجد الأوروبي نفسه مضطر دوما للبحث على الحقيقة بعيدا عن آلة الكذب التي غدت مكشوفة بالنسبة له.
"على هؤلاء أن يتوقفوا عن الكذب" هذا ما قاله لي بصراحة فرانتشيسكو بورغونوفو، وهو واحد من أبرز صحفيي إيطاليا المعاصرين مشيرا للمستعربين الذين وصفهم بـ"مدعي الطيبة". وقبله، فاعل ثقافي إيطالي وجّه لي -على هامش التحضير لإحدى الندوات بخصوص الأدب العربي- سؤالا مربكا ".. هل تقول هذه الشاعرة الحقيقة أم أنها تكذب؟" هكذا ببساطة.
إعلانوالواقع أن سرديات الأدباء السوريين التي أتت محفوفة في السنوات الأخيرة بالكثير من جهات التمويل السلطوية الأوروبية (والمرتبطة بالجامعات والمنظمات غير الحكومية ذات التمويل المؤسساتي) جعلت الكثير من القراء الإيطاليين يشككون في سردية الثورة السورية من أساسها. والمفزع في كل هذا هو كيفية تحول صوت الأديب العربي الذي يفترض أن يكون صوت الشعوب إلى صوت الكذب في نسخته المترجمة؟ والجواب يكمن في الخطاب الأيديولوجي، والحديث هنا تحديدا عن "سياسات الهوية" Identity politics.
فما الذي يعنيه أدب يركز على ثيمة "اضطهاد الأقليات" في بلد كان رئيسه ينتمي لواحدة من أصغر الأقليات في المنطقة، بل في العالم بأسره، ولكنه حكم مع ذلك شعبا ينتمي إلى الأغلبية طيلة عقود، وبالحديد والنار؟ وما الذي يعنيه التباكي من الذكورية في بلد كانت مرجعية نظامه العقائدية هي الماركسية؟
وما الذي يعنيه التحذير من خطر "أسلمة" سوريا في حين أن الفئة المستباحة كانت هي نفسها المسلمة؟ كيف يمكن تركيب هذه العناصر مع بعضها على نظرية "سياسات الهوية" دون أن يقع الكاتب في تناقض صارخ مع كل خطوة يخطوها، ودون أن يتوقع أن يتهمه القارئ الأوروبي بفبركة سرديته ويضعه في خانة "دجالي الفكر"؟
وهل هذا يعني أن السردية السورية كانت ضحية عملية تشويش وتشويه ممنهجة في أوروبا طيلة سنوات الثورة، قادها "مدّعو الطيبة" بتعبير بورغونوفو، من خلال دفعها إلى زوايا ميتة؟ أم أننا حيال ظاهرة كسل فكري لمثقفين اختاروا الاستكانة لأيديولوجيا مستوردة بدل نحت سرديتهم بمفردات تحترم تاريخ وخصوصية بلدهم الحضارية، والأسوأ من كل هذا الحياد هو مهمة الأدب الذي يفترض أن يكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها بعيدا عن ضرورة سلخ نظريات أيديولوجية "على الموضة" لا تنتمي للتكوين الثقافي لمجتمعه من أجل صياغة خطاب يتواءم مع السرديات الرائجة.
والحقيقة أن ما لا يعرفه الكاتب العربي هو أن الوعي الشعبي الأوروبي بالقضايا العربية أكبر بكثير مما يتخيل. وهنا يحذر الصحفي الإيطالي الكبير "فولفيو غريمالدي" على قناة "بيوبلو" -في حوار أُجري معه بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2024- المشاهدين من فخ الوقوع في سرديات "سياسات الهوية" الملفقة على الواقع السوري، مؤكدا أن "المنطقة العربية منطقة إستراتيجية طالما أراد الغرب تفتيتها". ونبّه غريمالدي من ورقة الأقليات الذين سمى إحداها "رجال أميركا في سوريا الذين قد ترغب الولايات المتحدة في تحويلهم إلى كيان وظيفي آخر في المنطقة يشبه الكيان الصهيوني". وليس بعيدا عن كل هذا يرى الإيطاليون مستعربيهم يشتغلون طيلة سنوات على ترجمة أدبيات "الأقليات المتأمركة" والترويج المحموم لخطاباتها حول المنطقة العربية ضمن جميع الفضاءات الثقافية المتاحة.
إعلانلذا فأول ما ينبغي أن يبدأ الكاتب العربي بمعرفته عن القارئ الغربي أنه ليس بالسذاجة التي يتصورها، أو يخاله وعاءً فارغا ينتظر ملأه بأي سردية يتم تركيبها كيفما اتفق، ذلك أن فجوات السرديات المهلهلة لا تسدها حالات البكاء على المسرح وأجواء الانهيارات العاطفية التي تتخلل تقديمات المترجمين الإيطاليين لكتابهم وشعرائهم العرب. إنها مشهديات لا تدغدغ مشاعر أحد بقدر ما تثير شعور التقزز لدى الأوروبي من حالة استعراضية هزيلة تشبه تماما التقرير الذي سجلته مراسلة قناة "سي إن إن" بعد سقوط النظام السوري، والذي ادعت فيه أنها حررت معتقلا سوريا من سجون النظام ليتبين لاحقا أن المشهد كان تمثيليا، والأسوأ أن "المعتقل" المزعوم ضابط في فرع المخابرات الجوية.
ولعل ما لا يعرفه الكاتب العربي أيضا أن الجمهور الغربي قد سئم من كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له، وقد بات للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ معها. لذا قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير برسالةٍ كتبها جورجيو أغامبين، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الإيطاليين وفلاسفة الغرب في التاريخ المعاصر، تحدث فيها عن السعي المحموم لتدجين المثقفين في الغرب، وبشاعة الانصياع لصناع السرديات الزائفة.
لكن الأبشع من ذلك الادعاء بعدم معرفة ما يحصل في أروقة صناعة الكذب والاستمرار في طاعة أوامر "السادة": وفي الوضع الكئيب الذي نعيشه، ثمة أحيانا أخبار جيدة. أحدها بالنسبة لي هو قرار ما يسمى بكبريات الصحف عدم مراجعة كتبي أو مجرد ذكر اسمي بأي شكل من الأشكال.
والواقع أن ظهور اسمي على تلك الصفحات من شأنه أن يزعجني، لذا لا يسعني سوى أن أكون ممتنًا للصحفيين على قرارهم هذا. ولكن عندما يعود المؤرخون في يوم من الأيام للتحقيق في الماضي، ستظهر وسائل الإعلام في طليعة المتواطئين. تماما كما حدث خلال 20 عامًا من حكم الفاشية، كانوا بلا شك يعرفون ولكنهم يطيعون أوامر سادتهم.. ليختم صاحب "الإنسان المستباح" رسالته التي وقّعها بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2022، بسؤال مرير: "لماذا صمتوا؟ لماذا أطاعوا؟".
وهكذا جرى عزل فيلسوف عملاق بحجم أغامبين من النقاش العام لمجرد تعارض رؤيته مع السرديات المهيمنة، في حين أن سرديات الكتاب الغثة والمستلة من نظريات اجتماعية مرقّعة على الواقع العربي تُدرّس ضمن مقررات الأدب والحضارة العربية في الجامعات الأوربية، وتُمنح أيضا الجوائز المتنوعة، وكل ذلك لإنتاج تاريخ ملفّق لشعوب المنطقة. ليغدو الأدب العربي مترجمًا أداة المستعمرين الجدد في تزييف الوعي وصناعة تاريخ مفبرك لأوطان لا يزالون يحلمون باستباحتها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الکاتب العربی سیاسات الهویة الأدب العربی فی أوروبا بعیدا عن
إقرأ أيضاً:
كيف تفكك سياسات السيسي مراكز الثقل الاستراتيجية بمصر في ظل حروب الجيل الخامس؟
في عالم تتسارع فيه وتيرة التحديات الأمنية، وتتشابك خيوط الحروب لتتجاوز ميادين القتال التقليدية إلى الفضاء السيبراني، والوعي الجمعي، والتحكم بالإدراك البشري، تجد مصر نفسها في مفترق طرق حاسم. لم تعد حماية الأمن القومي تعتمد فقط على قوة الجيش أو الموقع الجغرافي، بل على قدرة الدولة على بناء "مراكز ثقل استراتيجية" مرنة وقادرة على التكيف مع حروب الجيل الخامس الخفية. هذه الحروب تتسم بالخفاء، والتلاعب بالواقع، واستغلال التقنيات المتقدمة لاستهداف العقول قبل الأراضي. لكن، ورغم إدراك أهمية هذا التحول، يبدو أن سياسات الرئيس عبد الفتاح السيسي لا تسهم في تقوية هذه المراكز، بل قد تعمل على تفكيكها من الداخل، ما يجعل مصر أضعف في مواجهة تهديدات المستقبل غير المرئية التي قد تتسلل كـ"شبكة العنكبوت".
من القلاع التقليدية إلى هشاشة عصر الوعي المستهدف: دروس من "عملية شبكة العنكبوت"
لطالما اعتمدت مصر على ركائز تقليدية في صيانة أمنها. الجيش النظامي كان الضامن الأول، وقناة السويس شريان اقتصادي ودبلوماسي حيوي، بينما مثلت الكتلة السكانية عمقا بشريا وسوقا استهلاكيا. هذه المراكز، وإن كانت أساسية، تواجه اليوم تهديدات متعددة الأوجه: من الحروب السيبرانية المعقدة التي تستهدف البنية التحتية والبيانات الضخمة، إلى حروب الإدراك والتلاعب بالوعي الجمعي التي تسعى لزعزعة الثقة الداخلية وتغيير المفاهيم دون إطلاق رصاصة واحدة، مرورا بالحرب الاقتصادية والعقوبات الذكية، وصولا إلى التهديدات غير المتماثلة كالإرهاب الذي يتسلل عبر الفضاءات الافتراضية.
القوة التقليدية، على الرغم من قدرتها على الردع العسكري، تجد نفسها عاجزة أمام عدو غير مرئي يهاجم الثقة الشعبية ويسعى لشل قدرات الدولة بالسرعة والتأثير النفسي والتلاعب بالحقائق واللاوعي الجمعي
القوة التقليدية، على الرغم من قدرتها على الردع العسكري، تجد نفسها عاجزة أمام عدو غير مرئي يهاجم الثقة الشعبية ويسعى لشل قدرات الدولة بالسرعة والتأثير النفسي والتلاعب بالحقائق واللاوعي الجمعي. هذا العدو لا يرتدي زيا عسكريا بل يستخدم البيانات والذكاء الاصطناعي لاختراق العقول، هنا تبرز الحاجة الملحة لنظام دفاعي "هجين" يمزج بين الصلابة والمرونة، ويفهم أبعاد حرب الإدراك.
يمكننا استلهام ذلك من "عملية شبكة العنكبوت" التي نفذتها أوكرانيا. هذه العملية لم تعتمد على المواجهة التقليدية المباشرة، بل على شبكة معقدة من العمليات السرية والتسلل، باستخدام طائرات مسيرة أُخفيت داخل شاحنات وأُطلقت من داخل الأراضي الروسية، مستهدفة قواعد جوية استراتيجية بعيدة عن خطوط الجبهة. ما يميز هذه العملية هو توقيتها، ودقتها، وخفاؤها، وتأثيرها الإعلامي والنفسي. فبعد أن ظهرت الأضرار الجسيمة في عمق الخصم، حرص الجانب الأوكراني على التناول الإعلامي الواسع للعملية، مؤكدا نجاحها وضرباته الموجعة، بينما سعى الخصم إلى التقليل من شأنها أو نفيها. هذا التناول الإعلامي المكثف لم يكن مجرد تغطية، بل كان جزءا أصيلا من العملية نفسها، يهدف إلى زعزعة الروح المعنوية للخصم، وإظهار قدرة المهاجم على اختراق العمق، وتأكيد فعالية أساليب حرب الجيل الخامس.
هذا النموذج يجسد جوهر حروب الجيل الخامس: الخفاء، والتخطيط المعقد، والاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة غير التقليدية، واستهداف مراكز الثقل الحيوية للخصم بطرق غير متوقعة، والعمل من الداخل أو من خلال نقاط ضعف غير ظاهرة، مع استغلال الأبعاد الإعلامية والنفسية لتعظيم التأثير. فإذا كانت مصر تريد حماية مراكز ثقلها الاستراتيجية، يجب أن تدرك أن التهديد قد يأتي من داخل "شاحنات" تبدو بريئة، ويستهدف "مراكز ثقلها الاستراتيجي" في العمق، وأن التناول الإعلامي الدقيق والموجه للحقائق، أو للتضليل، هو جزء لا يتجزأ من المعركة.
سياسات السيسي: عامل تفكيك داخلي في مرمى الجيل الخامس
على الرغم من أهمية بناء مراكز ثقل استراتيجية مبتكرة، يبدو أن بعض سياسات النظام الحالي تعمل ضد هذا التوجه الحيوي، وتساهم في تفكيك قلاع مصر الاستراتيجية، ما يجعلها عرضة لهجمات الجيل الخامس، تماما كما استهدفت "شبكة العنكبوت" مراكز الثقل الروسية من الداخل، وعُزز تأثيرها بالتناول الإعلامي:
• تركز السلطة وتهميش الخبرات المدنية: إن احتكار القرار في يد مؤسسة واحدة، وتهميش دور الخبراء المدنيين والمتخصصين في مجالات حيوية كالاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني المتقدم، وتحليل البيانات الضخمة، يعيق بناء مراكز ثقل حديثة ومتنوعة. فالابتكار والقدرة على التكيف مع التهديدات المعقدة في الجيل الخامس يتطلبان بيئة تتيح للمفكرين والمبدعين من مختلف القطاعات، خاصة التقنية، المساهمة الفاعلة. هذا النهج يغلق الباب أمام العقول القادرة على كشف "شاحنات العنكبوت" الخفية التي يمكن أن تستهدف مصر من الداخل، ويجعل الدولة أقل قدرة على تخطيط وتنفيذ دفاعات معقدة ومبتكرة، أو حتى صياغة خطاب إعلامي فعال مضاد للتلاعب.
تذهب أجزاء كبيرة من الميزانية، وغالبا ما تكون ممولة بالدين الخارجي، إلى مشاريع إنشائية ضخمة قد لا تخدم بشكل مباشر تعزيز قدرة مصر على مواجهة الحروب الهجينة. هذا يزيد من المديونية ويقلل من المرونة الاقتصادية للبلاد، مما يجعلها أكثر عرضة للضغوط الاقتصادية الخارجية والعقوبات الذكية الموجهة عبر الشبكات المالية العالمية، تماما كاستنزاف قدرات العدو دون مواجهة مباشرة
• الإفراط في الإنفاق على مشاريع ضخمة غير مدروسة: بينما تحتاج مراكز الثقل الحديثة في الجيل الخامس إلى استثمارات هائلة في البنية التحتية الرقمية المؤمنة، ومراكز البيانات، والبحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وتنمية رأس المال البشري المتخصص في حروب المعلومات والإدراك، تذهب أجزاء كبيرة من الميزانية، وغالبا ما تكون ممولة بالدين الخارجي، إلى مشاريع إنشائية ضخمة قد لا تخدم بشكل مباشر تعزيز قدرة مصر على مواجهة الحروب الهجينة. هذا يزيد من المديونية ويقلل من المرونة الاقتصادية للبلاد، مما يجعلها أكثر عرضة للضغوط الاقتصادية الخارجية والعقوبات الذكية الموجهة عبر الشبكات المالية العالمية، تماما كاستنزاف قدرات العدو دون مواجهة مباشرة.
• تقييد الحريات وقمع المجتمع المدني: مركز الثقل المجتمعي، وهو الدرع الأقوى ضد حروب الإدراك والتأثير النفسي وحملات التضليل الإعلامي الموجهة عبر السوشيال ميديا، يتطلب بيئة من الثقة والوحدة الوطنية. إلا أن تضييق الخناق على الحريات العامة، واعتقال المعارضين، وتهميش المجتمع المدني، يُضعف النسيج الاجتماعي، ويُفقد الثقة بين الدولة والمواطن، مما يجعل الجبهة الداخلية أكثر هشاشة أمام أي محاولات للاختراق الرقمي والمعنوي، ويزيد من فعالية حملات "الأخبار الزائفة" و"التزييف العميق" الموجهة. هذه السياسات تسمح بانتشار "شبكات عنكبوت" داخلية تفتت اللُحمة الوطنية وتجعل المجتمع هدفا سهلا للتلاعب، وتمنع الدولة من صياغة سرديتها الخاصة ومواجهة الروايات الكاذبة بفاعلية عبر إعلام حر وموثوق.
• ضعف الشفافية والمساءلة: غياب الشفافية في اتخاذ القرارات الاقتصادية والأمنية، وضعف آليات المساءلة، يخلق بيئة خصبة لسوء الإدارة والفساد، مما يستنزف الموارد ويضعف القدرة الكلية للدولة على بناء قدرات استراتيجية مستدامة وقوية. هذا النقص في الحوكمة يترك مساحات شاسعة لاستغلالها من قبل الفاعلين في حرب الجيل الخامس لاختراق الأنظمة أو التلاعب بالمعلومات من الداخل، تماما كما تم إدخال طائرات "عملية شبكة العنكبوت" المتسللة عبر قنوات تبدو طبيعية، ويُصعّب على الإعلام الوطني والمجتمع المدني كشف الحقائق وتقديمها للجمهور، تاركا الساحة خالية للروايات الخارجية المضللة.
رؤية لتقوية مراكز الثقل: ضرورة تتجاوز العوائق وتستعد لـ"عناكب" المستقبل
لصمود مصر أمام التحديات المستقبلية، من الهجمات السيبرانية المعقدة إلى الضغوط الاقتصادية الذكية والحملات الإعلامية الممنهجة التي تستهدف العقول والإدراك، لا بد من تبني نظام هجين حقيقي. هذا يتطلب تحويل نقاط القوة التقليدية إلى مراكز ثقل متكاملة ومرنة، مع إرادة سياسية حقيقية تتجاوز العوائق الحالية والتوجهات التي تُفكك لا تُبنى، وتستعد لمستقبل صراعات الجيل الخامس التي تعتمد على التسلل والتخفي:
• مركز ثقل دفاعي هجين: يجب دمج الجيش النظامي مع وحدات متخصصة في الدفاع السيبراني المتقدم، مكافحة الإرهاب الرقمي، وحرب الإدراك. ينبغي إنشاء مركز عمليات مشترك يجمع بين القوات النظامية والأمن السيبراني والاستخبارات، ليتمكن من الاستجابة السريعة والمتكاملة للتهديدات المتنوعة، مع التأكيد على أهمية الشراكة مع القطاع المدني المتخصص في هذه المجالات وتطوير كوادر قادرة على فهم وتحليل المعلومات المعقدة، وكشف "شبكات العنكبوت" قبل إطلاقها.
• مركز ثقل اقتصادي-دبلوماسي: يجب أن تتجاوز نظرتنا لقناة السويس كونها مجرد ممر مائي، إنها مركز اقتصادي عالمي متعدد الأنشطة، يمكن استثماره لإنشاء موانئ ومناطق لوجستية ومراكز رقمية. كما أن بناء شبكات تحالفات اقتصادية وتكنولوجية قوية مع دول رائدة في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني سيخلق دروعا اقتصادية ضد الضغوط الخارجية، مع ضرورة تنويع الشركاء وعدم الاقتصار على محور واحد. هذا التنويع يقلل من نقاط الضعف التي يمكن أن يستغلها الخصم لنسج "شبكة عنكبوت" اقتصادية حول مصر.
الانتقال إلى نظام هجين ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو ضرورة استراتيجية قصوى لضمان الأمن القومي المصري في ظل تهديدات الجيل الخامس. لكن هذه الضرورة تصطدم بواقع سياسي يُهدد، لا يُمكّن من بناء هذه المراكز الحيوية
• مركز ثقل إعلامي-سيبراني (مركز الإدراك والتأثير): في زمن المعلومات المفتوحة وحروب الوعي، تعد السيطرة على السردية أمرا حيويا. يتطلب ذلك تأسيس وحدات متخصصة في الإعلام الاستراتيجي الموجه، والأمن السيبراني العميق، وإدارة حملات التضليل الإعلامي المضادة. استخدام الذكاء الاصطناعي المتقدم لتحليل البيانات الضخمة، ورصد الشائعات والتزييف العميق، وتحليل الرأي العام بدقة؛ يمكن أن يكون أداة قوية في بناء الثقة الشعبية وتحصين الجبهة الداخلية ضد التلاعب، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الشفافية في التعامل مع المعلومات. هذا المركز يجب أن يعمل كشبكة استخبارات داخلية مضادة لـ"عناكب" التضليل الإعلامي، وأن يكون قادرا على إدارة الرواية الإعلامية الوطنية بفاعلية واحترافية عالية، على غرار الدور الذي لعبه التناول الإعلامي لعملية "شبكة العنكبوت" في تعظيم تأثيرها.
• مركز ثقل مجتمعي (الحصانة الفكرية): لا يمكن لأي نظام دفاعي أن يصمد دون جبهة داخلية قوية ومتماسكة تمتلك حصانة فكرية ضد التلاعب. يتطلب ذلك تعزيز الوحدة الوطنية من خلال برامج التعليم التي تركز على التفكير النقدي، والتدريب على تمييز المعلومات المضللة، والتنمية المحلية الشاملة. كما أن دعم الابتكار وريادة الأعمال في القطاعات التكنولوجية سيخلق اقتصادا مرنا ومتنوعا، يصعب استهدافه بالحروب الاقتصادية، مع ضرورة إفساح المجال للمبادرات الشعبية وعدم تهميش دور المجتمع المدني في بناء هذه الحصانة. هذا الحصن المجتمعي هو ما يمنع "خيوط العنكبوت" من الالتفاف حول الوعي العام، ويعزز من قدرة المجتمع على الصمود أمام محاولات التلاعب الإعلامي.
طريق الصمود: هل تتجاوز مصر عوائق الداخل لمواجهة حرب الوعي؟
إن الانتقال إلى نظام هجين ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو ضرورة استراتيجية قصوى لضمان الأمن القومي المصري في ظل تهديدات الجيل الخامس. لكن هذه الضرورة تصطدم بواقع سياسي يُهدد، لا يُمكّن من بناء هذه المراكز الحيوية. تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية لا تلين، واستثمارات استراتيجية في التكنولوجيا المتطورة، وتطوير كوادر بشرية قادرة على العمل في بيئة هجينة تفهم أبعاد حرب الإدراك. والأهم من ذلك، يتطلب إصلاحا شاملا للسياسات التي تعيق التقدم وتضعف قدرة مصر على بناء مراكز ثقلها الاستراتيجية في هذا العصر الجديد.
فهل تدرك القيادة المصرية حجم التحدي المتزايد الذي تمثله "عملية شبكة العنكبوت" على المستويات كافة، بما في ذلك الأبعاد الإعلامية والنفسية، وتتخذ الخطوات اللازمة لتقوية مراكز الثقل الاستراتيجية بدلا من تفكيكها، لتصوغ مستقبل مصر في زمن حروب الجيل الخامس الخفية؟