بحضور مفتي الجمهورية ووزير الأوقاف.. ندوة تناقش "الفتوى والشأن العام "بمعرض الكتاب
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
استمرارًا لدَورها الرائد في رعاية العلم والإفتاء وبحث كافة القضايا المجتمعية، شهد جناح دار الإفتاء المصرية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، اليوم الثلاثاء، ندوة هامة بعنوان "الفتوى والشأن العام"، وذلك بحضور فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عيَّاد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- شارك فيها كلٌّ من: معالي فضيلة الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري -وزير الأوقاف- وفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله النجار -عضو مجمع البحوث الإسلامية- والدكتور مصطفى الفقي -المفكر السياسي- وقد شهدت الندوة حضورًا كبيرًا وزخمًا من قِبل قيادات دار الإفتاء المصرية ووزارة الأوقاف وروَّاد المعرض وعدد من الباحثين والإعلاميين.
وخلال اللقاء قال فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عيَّاد، مفتي الجمهورية رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن موضوع ندوة اليوم يتعلق بقضية الفتوى والشأن العام، وثَمَّ العديد من النقاط المهمة التي يجب أن نأخذها في الاعتبار؛ من بينها أن الفتوى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة العامة للأفراد والمجتمعات، حيث تشمل جميع تصرفات المكلفين في علاقتهم بربهم، وبأنفسهم، وبغيرهم، وبالدولة التي يعيشون فيها، وكذلك علاقة الدولة بغيرها من الدول في زمن السلم والحرب. وأوضح فضيلته أن الفتوى تتصل بمختلف المجالات، بما يشمل العقيدة، والعبادة، والمعاملات، والمال والاقتصاد، والأسرة، والسياسة، والحكم، والقضاء، وغيرها من الجوانب الحياتية المهمة.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن الشريعة الإسلامية أولت عناية كبيرة بالشأن العام، حيث قامت على منظومة متكاملة من القيم الإسلامية والمبادئ والمقاصد الشرعية التي تهدف إلى ضبط هذا الشأن، باعتباره من أهم عوامل العمران في الدنيا والنجاة في الآخرة. وأضاف أن الفقه الإسلامي زاخرٌ بالتأصيل العميق لفكرة العناية بالشأن العام، والذي يشمل كل ما يتعلق بالمجتمع والدولة، مثل فقه الأمن المجتمعي، والصحة، والتعليم، والإدارة، والحكم، وحقوق الأفراد وواجباتهم.
وشدد فضيلة المفتي على أن الإفتاء في الشأن العام يخضع لضوابط دقيقة، أبرزها الموازنة بين المصالح والمفاسد والنظر في مآلات الأفعال، حيث أوضح أن هذه الموازنة تحتاج إلى عالم متمكن من علوم الشرع ومدرك لمآلات الأفعال، ليتمكن من ترجيح المصلحة على المفسدة وفقًا لضوابط دقيقة. كما أكد ضرورة مراعاة القوانين والنظم الحاكمة، إذ قررت الشريعة أن للحاكم أن يتدخل لتحقيق مصلحة المجموع، ومن القواعد الفقهية في ذلك أن "للحاكم تقييد المباح"، و"حكمه يرفع الخلاف"، و"تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"، مما يعني أن للحاكم تدبير الأمور الاجتهادية وفق اجتهاده المستند إلى البحث والتحري واستشارة أهل العلم الأمناء.
وأوضح فضيلته أن المفتي يتحمل مسؤولية توجيه المجتمع نحو الاستقرار، وحمايته من الفتن، وصيانة عقائد الناس وشعائر دينهم، مشيرًا إلى أن دوره في تحقيق الأمن المجتمعي يكون بمواجهة الغلو والتشدد، الذي أصبح عائقًا أمام الدعوة الإسلامية الصحيحة. كما شدد على مراعاة مبدأ المواطنة باعتبارها علاقة قائمة بين الفرد والدولة وفقًا لقوانينها وما تفرضه من حقوق وواجبات، حيث أكد فضيلته أن الحفاظ على وحدة الجماعة الوطنية واجب شرعي يجب أن يراعيه المفتي في فتواه المتعلقة بالشأن العام.
وأكد فضيلة المفتي ضرورة أن يكون المفتي على دراية كاملة بالواقعة موضوع الفتوى، وبالواقع المحيط بها، والظروف الحياتية للمستفتي، حيث إن أي تقصير في هذه المرحلة، التي يمكن وصفها بمرحلة التصوير والتشخيص، سينعكس سلبًا على الفتوى. وأضاف أن العلماء حذروا من التسرع والعجلة في إصدار الفتاوى، معتبرين ذلك ضربًا من التساهل المذموم، لأن التصور الصحيح للواقعة يساعد على التكييف الصحيح لها، ومن ثم إصدار الحكم الشرعي المناسب.
وأكد فضيلة المفتي على أهمية مراعاة الأعراف والعادات عند إصدار الفتاوى، وكذلك ضرورة الرجوع إلى أهل التخصص وذوي الخبرة في القضايا التي تتداخل مع مجالات علمية أخرى، خاصة في الفقه المعاصر الذي يشهد تداخلًا مع تخصصات متعددة. وأضاف أن المفتي لا يمكنه إصدار فتوى في قضية طبية دون الرجوع إلى علماء الطب، ولا في نازلة اقتصادية دون استشارة الخبراء الاقتصاديين، وكذلك في المسائل الاجتماعية التي تحتاج إلى رأي علماء الاجتماع.
وشدد فضيلة المفتي على أهمية الاجتهاد الجماعي والتشاور بين علماء الشريعة، مؤكدًا أن الفتوى ينبغي أن تكون شورى بين أهل العلم، لضمان تحقيق المقاصد الشرعية والتوافق مع متغيرات العصر في إطار الضوابط الشرعية الدقيقة..
واختتم فضيلته كلمته مؤكدًا أن هذا اللقاء يأتي تأكيدًا على أهمية الاجتهاد الجماعي والعمل المؤسسي، وضرورة التعاون بين المؤسسات لتحقيق التكامل في العمل الإفتائي، بما يسهم في تقديم الفتاوى الدقيقة التي تراعي المصالح العامة وتحقق مقاصد الشريعة الإسلامية في بناء مجتمع متماسك ومستقر.
من جانبه تقدَّم معالي فضيلة الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري -وزير الأوقاف- بالشُّكر إلى فضيلة المفتي الأستاذ الدكتور نظير عيَّاد، مشيدًا بجهوده المبذولة في خدمة الفتوى وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال، كما أعرب عن تقديره للدكتور مصطفى الفقي، واصفًا إياه بالدبلوماسي والسياسي والبرلماني البارز والكاتب المتميز، مشيدًا بمؤلفاته ومذكراته التي تعكس عمق فكره وثقافته.
وأشاد الدكتور الأزهري أيضًا بالدكتور عبد الله النجار، مثنيًا على جهوده العلمية والفكرية والفقهية ودفاعه الدائم عن الإسلام، كما أكَّد على أهمية رؤيته في البناء الذي يبدأ بالوطن، ثم العروبة، ثم الإسلام، مشيرًا إلى الترابط الوثيق بين هذه الأبعاد الثلاثة.
كذلك رحَّب الدكتور الأزهري بالحاضرين في هذا الملتقى الفكري، الذي يُعد رمزًا للمعرض الدولي بوصفه ملتقًى للفكر والعلم والمعرفة من مختلف أنحاء العالم. وأكد على دَور مصر الرائد في استضافة اللقاءات العلمية التي تعكس رسالتها الثقافية والعلمية المستمرة.
وأشار وزير الأوقاف إلى اختيار موضوع الندوة وأهميته، موضحًا أن الإسلام يمتلك آليات متعددة للتفاعل مع الزمن ومواكبة المستجدات. وأكد أن هذا التفاعل يتجلى من خلال التجديد والفتوى، حيث قال: إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة علماء يجددون الدين؛ بمعنى إزالة ما علق به من أفكار ضالة وتيارات منحرفة ليعود نقيًّا كما هو في جوهره، وذكر قول الشيخ محمد أبو زهرة الذي أوضح أنَّ التجديد يعني عودة الإسلام نقيًّا كما كان في أصله.
وتحدَّث الدكتور أسامة الأزهري عن دَور مصر في حركة التجديد الفقهي، مشيرًا إلى أن غالبية المجددين خرجوا من مصر. كما تناول أهمية الاجتهاد الفقهي الذي تقوم به المؤسسات الفقهية المتخصصة، ودَور الفتوى التي يجب أن تصدر عن عالِم مدرك لطبيعة الأمور وأبعادها المختلفة، بحيث تنزل الفتوى لتُضيءَ العقولَ وتجمع الشمل وتزيل الحيرة.
وأكَّد فضيلته أن العالِم الحقيقيَّ هو مَن يتحدث في الشريعة وعينه تراقب أحوال الناس كافة، فلا تكون فتواه سببًا في تعطيل حياتهم أو تشتيتهم. وفي هذا السياق، شدَّد على أهمية أن تصدر الفتوى من المؤسسات المتخصصة في الشأن العام، مشيرًا إلى أنَّ الفتوى في الشؤون الخاصة مفتوحة لكلِّ من يمتلك المؤهلات العلمية اللازمة.
كما أكَّد على ضرورة وجود تشريعات تحمي مجال الإفتاء في الشأن العام من اقتحام غير المؤهلين الذين قد لا يدركون طبيعةَ الأمور وتداعياتها المختلفة؛ مما قد يؤدي إلى فتاوى تضرُّ بالمجتمع بدلًا من إصلاحه.
وفي سياق الندوة، أشار الدكتور أسامة الأزهري إلى قضية "المصلحة" باعتبارها محورًا هامًّا في الشريعة الإسلامية، مستشهدًا بالقاعدة الفقهية القائلة: "أينما وُجدت المصلحة فثَمَّ شرعُ الله"، هذه الجملة التي كُتبت حولها مؤلفات كثيرة وتناولها العلماء بالتأليف، والتحليل، والتحرير، والتطوير.
وتطرق إلى ما أوضحه الإمام العز بن عبد السلام بشأن مقاصد الشريعة التي قد تجتمع أحيانًا على غير المألوف، حيث أكَّد أن الشريعة جاءت لتحفظ المصالح وتدعم الديمومة والاستمرار، مع التركيز على حماية الحياة قبل الموت. ويمكن تلخيص ذلك في القاعدة الفقهية الشهيرة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح."
وأشار كذلك إلى مفهوم "الإحسان" كما تناوله العز بن عبد السلام، وأوجز كل هذه المعاني في تلك الكلمة موضحًا أنه يشمل الإحسان في التعامل مع الله، ومع النفس، ومع الناس، بل حتى مع الحيوانات. ومن محاسن الشريعة الإسلامية أنها تحثُّ الناسَ على الإحسان في جميع أمور حياتهم، مستشهدًا بقول الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء».
واختتم الدكتور أسامة الأزهري حديثه بتهنئة المصريين بقرب حلول شهر رمضان المبارك، داعيًا إلى استثمار أجوائه في تعزيز معاني الإحسان والتعايش والسلام.
من جانبه، استهلَّ الدكتور مصطفى الفقي -المفكر السياسي- كلمتَه بالترحيب بالحاضرين، خاصة فضيلة المفتي ومعالي وزير الأوقاف والدكتور عبد الله النجار، مشيدًا بدَور المعرض الدولي في تعزيز الثقافة بمصر.
وأشار إلى ارتباط مصر الوثيق بالتراث الثقافي والديني، مؤكدًا أن الفاتحين عندما دخلوا مصر أدركوا أن مفتاح قلوب المصريين هو تعلقهم بدينهم وحبهم لآل البيت.
كما أشاد الدكتور مصطفى الفقي بموسوعة الدكتور أسامة الأزهري الإسلامية المتوفرة بمكتبة الإسكندرية، واصفًا إياها بأنها تأريخ وتأصيل للظواهر الدينية والعمل على تواصل الأجيال. وأكَّد ارتباطَ العالم بمصر الأزهرية، مشيرًا إلى أنها كانت أول دولة تعيِّن مفتيًا تحت اسم مفتي الديار.
وأشاد كذلك بشيوخ الأزهر، وخاصة الشيخ محمد عبده الذي كان ينقي الفتاوى من الشوائب. وتحدث عن مكانة الدكتور نظير عيَّاد، موضحًا أنه يحظى بالاحترام من أتباع مختلف الديانات. كما أثنى على الدكتور عبد الله النجار، واصفًا إياه بأنه أيقونة فكرية وقامة علمية بارزة.
وتطرق الدكتور مصطفى الفقي-المفكر السياسي- إلى أهمية دور الإفتاء كمهمة مصرية أصيلة، مشيرًا إلى موقف سابق حين طلبت سفيرة النمسا، بنيتا فيراو، افتتاح أكاديمية إسلامية لمحاربة الإرهاب، مؤكدة أن مصر وعلماء الأزهر هم الأجدر بهذه المهمة. وبناءً على هذا الطلب، تم التواصل مع شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي -عليه رحمة الله- الذي أوفد الدكتور أحمد عمر هاشم والدكتور محمود حمدي زقزوق للقيام بهذه المهمة.
وأكد الدكتور مصطفى الفقي أن الإفتاء مهمة ثقيلة لا يتحملها إلا أولو العزم من العلماء. وروى قصَّة الأمير الذي أراد تعيين عالِم للإفتاء وتأديب ابنه المدلل وإمامة المسلمين، إلا أن العالم رفض بسبب ظلم الحاكم. لاحقًا، دعا الأميرُ العالِمَ إلى مأدبة عشاء فقبل طلبه بعد ذلك، موضحًا كيف قد تتغيَّر المواقف بتغيُّر الظروف.
كما تحدَّث الدكتور عبد الله النجار -عضو مجمع البحوث الإسلامية- حول الفتوى المؤسسية في الشأن العام وكونها أحد عوامل الأمن واستتباب السلام الذي يعود على المجتمع بالنفع، موضحًا أن الشأن العام هو الحقُّ العامُّ الذي يتعلَّق بجانب الله عز وجل، ويعني الفقهاء بذلك أنَّ هذا الحق هو الذي يعود نفعه على الناس أجمعين في بلد من البلاد أو في أرض من الأراضي، موضحًا أن عائد هذا الحق يعود على الناس في وطنهم الذي يعيشون فيه.
وأضاف أن ارتباط الأرض بالحكم الشرعي يعني أن الوطن من لوازم الحكم الشرعي، فكل حكم لا بد له من زمان يقع فيه، فإن هذا الوطن يعد ركنًا من أركان الدين، ولا يمكن أن تستقيم أمور الدين إلا إذا كانت على أرض مطمئنة، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يصنع كرامته ينقصه شيء من أمور دينه، مشيرًا إلى أن جماهير الفقهاء قالوا إن حق الله يقدَّم على حقوق العباد، وإذا احتاج الحقُّ العامُّ إلى تضحية فمن الواجب على الإنسان أن يضحيَ بمصلحته من أجله.
وذهب إلى أن الفتوى التي تصدر من دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف تراعي هذا المعنى وتقدِّره وترفعه إلى درجةٍ يراها الناس في الفتاوى التي تصدر، وعلينا أن نتعاون في هذا الأمر.
وفي ختام حديثه عبَّر فضيلة الدكتور عبد الله النجار عن امتنانه بهذه الندوة قائلًا: إن هذا اللقاء هو لقاء ذهبي نُظم في جناح دار الإفتاء المصرية. مشيدًا بدَور فضيلة مفتي الجمهورية في تعزيز دَور الفتوى في الشأن العام.
كما أشار إلى أهمية هذا اللقاء في تعزيز التواصل بين المؤسسات الدينية والمجتمع، موضحًا أنَّ مثل هذه الندوات تسهم في تجسيد الفَهم الصحيح للفتوى وتوجيهها نحو خدمة مصلحة المجتمع ككلٍّ، وأن دَور مفتي الجمهورية يظل محوريًّا في تقديم الفتاوى التي تعكس تطلعات المجتمع وتواكب التغيرات، مع الحفاظ على القيم الدينية والشرعية.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: أسامة الأزهري الدكتور مصطفى الفقي الدكتور عبد الله النجار الدكتور أسامة الأزهري دار الافتاء المصري معرض القاهرة الدولي للكتاب الدکتور عبد الله النجار الدکتور أسامة الأزهری فضیلة الأستاذ الدکتور دار الإفتاء المصریة الدکتور مصطفى الفقی الشریعة الإسلامیة مفتی الجمهوریة فی الشأن العام فضیلة المفتی وزیر الأوقاف مشیر ا إلى أن المفتی على الإفتاء فی على أهمیة أن الفتوى فضیلته أن موضح ا أن وأضاف أن فی تعزیز مفتی ا مشید ا
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية يفتتح المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء: «ارحموا عجز أهل غزة» ودعوة لإنسانية ضمير العالم وتحذير من استغلال الذكاء الاصطناعي في العدوان على فلسطين
مفتي الجمهورية يفتتح المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء..ويؤكد:
"ارحموا عجزَ أهلِ غزَّة".. مفتي الجمهورية يوجِّه نداءً إنسانيًّا إلى أصحاب الضمائر الحيَّة في الشرق والغرب
- إذا انفصل الذكاء الاصطناعي عن القيم تحوَّل إلى أداة قمعٍ وعدوان
- غزة ليست مجرد مأساة إنسانية بل اختبار فقهي وأخلاقي يفضح صمتَ الضمير العالمي
- ما يحدث في غزة يكشف خطورة تسليح الذكاء الاصطناعي دون ضوابط
- على علماء الأمة أن يدركوا أن نصرة غزة ليست خيارًا سياسيًّا، بل فريضةٌ وواجب أخلاقيٌّ
- مصر تؤدي واجبها تجاه فلسطين بوعي وشرف رغم حملات التشويهافتتح فضيلةُ أ.د نظير محمد عيَّاد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- فعاليات المؤتمر العالمي العاشر للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء، الذي يُعقد هذا العام تحت عنوان: «صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي». ورحَّب مفتي الجمهورية بالضيوف من مختلف دول العالم، مُعبِّرًا عن اعتزازه الكبير بالرعاية الكريمة التي يُوليها فخامةُ الرئيس عبد الفتاح السيسي لهذا الحدث العِلمي المتميز، مؤكدًا أنَّ الرعاية تمثل دعمًا مستمرًّا من القيادة السياسية لمسيرة الإفتاء الرشيد، وتهيئة بيئة علمية متقدمة تُعِدُّ جِيلًا جديدًا من المُفْتينَ القادرين على مواكبةِ التحولات الرَّقْمية وتِقنيات الذكاء الاصطناعي.
كما أوضح مفتي الجمهورية أنَّ العالم اليوم يشهد تحوُّلات غير مسبوقة بفِعل ثورة الذكاء الاصطناعي، التي أثَّرت بشكل جذري على مختلف المجالات، مثل الطب والتعليم والإدارة، وفتحت آفاقًا جديدة للبحث العلمي وتطوير العمل المؤسسي، ولكنه شدَّد على أنَّ هذه التطورات التقنية تستوجب توظيفًا مسؤولًا يخدم الإنسانية، خصوصًا في مجال الفتوى التي تتطلَّب توازنًا دقيقًا بين المرجعية الشرعية وأدوات العصر الرقمي. وأشار إلى أن الخطر يكمن في برمجة الفتوى دون ضوابط دقيقة؛ ما قد يحوِّل الدينَ من خطابِ هدايةٍ إلى خطابٍ ماديٍّ جامد، ينفصل عن روحه وأهدافه.
وقد طرح فضيلة المفتي مجموعةً من الأسئلة الفقهية الجوهرية المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى، مثل قدرة الآلة على فَهْم تعارض النصوص، ومراعاة النيَّات الإنسانية، والسياقات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وأَثَر اختلاف الزمان والمكان في صياغة الفتاوى، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعيَّ يجب أن يكون أداة مساعدة للمفتي، لا بديلًا عنه، بحيث يظل المفتي هو صاحب الرؤية المسؤولة، المبنية على خشية الله وبصيرة القلب وحكمة المقصد.
وشدَّد فضيلة المفتي على أهمية تطوير الفتوى لتواكب تحوُّلات العصر الرقْمي، حيث لا يكفي أن تكون دقيقة فحسْب، بل يجب أن تحمل ضميرًا حيًّا ووعيًا أخلاقيًّا، مؤكدًا دَوْرَ المؤسسات الدينية في وضع أُطُرٍ رقابية وأخلاقية صارمة لإدارة نُظم الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى، عبر إشراف هيئات علمية متخصصة تضم علماء شرعيين وخبراء تقنيين وفلاسفة الشريعة، لضمان شرعية المُخرجات وموثوقيتها.
في السياق ذاته أوضح فضيلة مفتي الجمهورية أن إدماج تِقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى لا يمكن أن يكون بديلًا عن المفتي الرشيد، وإنما وسيلةٌ لتوسيع أدواته وتعزيز وعيه بمتغيرات العصر، محذرًا في الوقت ذاته من مخاطر استحواذ الخوارزميات الجامدة على مرجعية الفتوى الدينية، وما قد يترتب على ذلك من ترويج لأقوال شاذة، وتشويه للوعي الديني، وفصلٍ للنصوص عن مقاصدها الشرعية والأخلاقية. كما أكَّد أن التعامل مع الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى ينبغي أن يكون بحذر عميق، وأن يظلَّ مرتبطًا بمركزية الإنسان بوصفه فاعلًا أخلاقيًّا ومجتهدًا مسؤولًا أمام الله والتاريخ، مشددًا على أنَّ الأنظمة الذكية لا تملك خشية الله، ولا بصيرة القلب، ولا حكمة المقصد، وهي الأركان الأساسية التي تقوم عليها صناعة الفتوى الرشيدة.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي قد يكون مفيدًا في المراحل التحضيرية للعملية الإفتائية، لا سيما في تصوير المسائل، وتحليل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، وجمع النصوص وتنظيمها، لكنه لا يملك صلاحية إصدار الحكم الشرعي الذي يظل منوطًا بالمجتهد الرشيد، القادر على الترجيح بين الأدلة، ومراعاة سياقات النوازل، لافتًا النظرَ إلى أنَّ من أبرز التحديات التي تواجه الفتوى في هذا العصر الرقمي هو ما يُعرف بـ"هلوسة الذكاء الاصطناعي"، حيث قد تنتج هذه النماذج فتاوى مختلقة بصياغة مقنعة، ما يُظهر ضرورة أن تظل المؤسسات الدينية حارسةً لشرعية الوعي، وقائدة لعَلاقة واعية بين النص والآلة.
ودعا فضيلته إلى ضرورة بناء نماذج ذكاء اصطناعي شرعية، مدرَّبة على قواعد الاستنباط، والضوابط اللُّغوية، وفهم المقاصد الشرعية، مع ضرورة إخضاعها لإشراف علمي مشترك بين علماء الشريعة وخبراء الذكاء الاصطناعي وفلاسفة المقاصد، مشيرًا إلى أهمية إنشاء مِنصَّات رقْمية موثوقة للفتوى تخضع لمراجعة مستمرة من لجان شرعية مؤهَّلة، ويُحدَّد لعملها ميثاق أخلاقي خاص، على غرار ما هو معمول به في المجالات الطبية والقضائية.
وفي جزء مؤثر من كلمته، ركَّز فضيلةُ مفتي الجمهورية على ما تتعرض له غزَّة من عدوان ممنهج، قائلًا: "إنَّ غزة اليوم ليست مجرد بلد منكوب يُعاني الجوع والتشريد وبطش الاحتلال، بل هي اختبار حقيقي لنبض الفقه، ومرآة لصدق كلمة الفتوى، وصيحة مظلومين لا يجوز أن تغيب عن ضمير الأمة".
وأشار إلى أن الفتوى في جوهرها ليست محصورة في مسائل العبادات، بل هي أداة لبناء الوعي، وغرس قيم العزة والكرامة والدفاع عن الأرض، داعيًا المُفتينَ والعلماء إلى عدم الصمت إزاء المظالم التي يتعرض لها أهل غزَّة. وفي هذا السياق، كشف فضيلة المفتي عن توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مروِّع في استهداف سكان غزَّة، موضحًا أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدمه لتحليل الصور والتنبؤ بالتحركات واستهداف الأحياء بدقَّة قاتلة؛ ما أسفر عن سقوط آلاف الضحايا وتدمير البنية التحتية، وقال: "إن هذا المشهد يبرز خطورة التقنية إذا انفصلت عن القِيَم، ويؤكد الحاجة إلى وضع ميثاق عالمي يضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي على أساس العدل والرحمة، وصيانة الكرامة الإنسانية"، مؤكدًا أن التقدم التقني إذا لم يصحبه ضمير أخلاقي، تحوَّل إلى أداةِ قمعٍ وعدوان.
كما وجَّه فضيلة المفتي نداءً إنسانيًّا إلى أصحاب الضمائر الحيَّة في الشرق والغرب، قائلًا: "ارحموا عجزَ أهلِ غزَّة، فإنَّ لهم عند الله موقفًا يُقتصُّ فيه من الطغاة الذين سفكوا دماءهم ودمَّروا بيوتَهم، وشرَّدوا مَن بَقِيَ من أطفالِهم ونسائِهم وشيوخِهم". كما وجَّه تحيةَ إجلالٍ لأهل غزة الصامدين، القابضين على جمر الكرامة، وبشَّرهم بأنَّ النصر آتٍ لا محالة، وإن تأخرت بوادرُه أو بعدت أسبابُه.
وفي خلال حديثه عن الموقف المصري، أكَّد مفتي الجمهورية أنَّ مصر ما زالت تؤدي واجبها التاريخيَّ تجاه القضية الفلسطينية بوَعْيٍ وشرف، على الرغم من الهجمة الشرسة التي تستهدف دَورها، مشيرًا إلى أن القيادة المصرية رفضت بكلِّ وضوح محاولات تهجير الفلسطينيين أو تصفية قضيتهم، وتمسَّكت بحقوقهم الثابتة في وجه الابتزاز السياسي، في موقف سيخلِّده التاريخ بمِداد الشرف والكرامة.
وفي ختام كلمته، توجَّه فضيلةُ المفتي بالشكر إلى السادة العلماء والوزراء والمُفتين المشاركين في المؤتمر، كما عبَّر عن تقديره العميق للجهات الرسمية والتنفيذية والإعلامية التي ساهمت في نجاح فعاليات المؤتمر.