تعيين تولسي جابارد كمديرة للاستخبارات الوطنية الأمريكية في 2024 لم يكن مجرد حدث روتيني، بل تحولًا استراتيجيًا يعكس رغبة إدارة ترامب في توظيف شخصيات "خارج الصندوق" لقيادة مؤسسات حيوية. الدور الجديد لجابارد، الذي يشرف على تنسيق عمل 17 وكالة استخباراتية، يضعها في قلب صناعة القرار الأمني الأمريكي. لكن الجدل حولها لا ينفصل عن تاريخها العسكري المليء بالإشادات، وسياساتها الخارجية المثيرة للانقسام، وعلاقاتها الدولية التي يرى البعض أنها تتعارض مع مبدأ الحياد الاستخباراتي.


أولًا: المسيرة العسكرية – من ساحات الحرب إلى الدبلوماسية العسكرية**
البدايات والتضحيات
التحقت جابارد بالحرس الوطني للجيش عام 2003 رغم إمكانية تأجيل تجنيدها كعضو في مجلس ولاية هاواي. اختارت الخدمة في العراق (2004-2005) والكويت (2008-2009) كضابطة طبية، حيث تعرضت لتفجيرات وكمائن متكررة، وهو ما شكل وعيها بثمن الحروب البشرية. حصولها على وسام النجمة البرونزية جاء بعد قيادتها فرقة إسعاف تحت النيران في معركة الفلوجة، مما أكسبها احترامًا واسعًا في الأوساط العسكرية.

الدور التدريبي
في 2015، قادت برامج تدريب لقوات خاصة في الإمارات والأردن، ركزت على مكافحة الإرهاب والتعامل مع الأسلحة الكيميائية. هذه الخبرة عززت توجهاتها المناهضة لتمويل الميليشيات في سوريا واليمن، والتي عبرت عنها لاحقًا في الكونغرس.

الإرث العسكري في سياستها
لم تكن خبرتها العسكرية مجرد "شهادة شرف"، بل أساسًا لفلسفتها التي ترفض "الحروب بالوكالة"، وتدعو لاعتماد الدبلوماسية الوقائية. في كتاباتها، تشير إلى أن التدخلات الأمريكية في الشرق الأوسط زادت من تفكك المجتمعات، وهو ما استغلته الجماعات المتطرفة.
ثانيًا: المسيرة السياسية من هاواي إلى واشنطن بين التمرد والانتماء
التجربة المحلية
كأصغر نائبة في مجلس ولاية هاواي (2002)، قادت حملات لحماية البيئة البحرية ودعم الطاقة المتجددة، مستفيدة من ثقافة هاواي المحافظة على الطبيعة. لكن استقالتها عام 2004 للخدمة العسكرية أظهرت أولوية "الوطنية" في سرديتها الشخصية.
الصعود إلى الكونغرس
في 2012، فازت بمقعد الكونغرس ببرنامج يجمع بين الليبرالية الاجتماعية (كحقوق المثليين) والحمائية الاقتصادية. لكن مواقفها من الشؤون الخارجية بدت أكثر محافظة:
- عارضت إسقاط نظام القذافي في ليبيا (2011)، ووصفته بـ"الفشل الاستراتيجي".
- صوتت ضد فرض عقوبات على روسيا بعد ضم القرم (2014)، بحجة أن ذلك يعيق الحوار.
- دعت لوقف تمويل المتمردين السوريين، معتبرة إياهم "إرهابيين محتملين".

الانشقاق عن الحزب الديمقراطي
استقالتها من اللجنة الوطنية الديمقراطية في 2016 لم تكن فقط احتجاجًا على تفضيل هيلاري كلينتون، بل تعبيرًا عن رؤية مختلفة لسياسة الحزب، التي وصفها أعضاء في فريقها بأنها "خاضعة لنخبة واشنطن". علاقتها المتوترة مع أوباما – خاصة بعد انتقادها لسياسة "التغيير النظامي" في الشرق الأوسط – جعلتها شخصية هامشية داخل الحزب.
ثالثًا: الانتخابات الرئاسية 2020 – حملة الأجندة المناهضة للحرب
الخطوط العريضة لبرنامجها
رغم فشلها في تحقيق انتشار واسع، قدمت جابارد رؤيةً فريدةً تجمع بين:
الانعزالية العسكرية: سحب القوات من سوريا وأفغانستان، وإغلاق 800 قاعدة عسكرية أمريكية خارجية.
التقدمية الداخلية:- التأمين الصحي الشامل، وإصلاح نظام العدالة الجنائية.
النقد الجذري للمؤسسة :- هاجمت "الصناعة العسكرية-الأمنية" ووصفتها بـ"المافيا التي تبتلع الميزانية".
الاتهامات بالولاء لروسيا
تصريحها بأن "روسيا لا تشكل تهديدًا وجوديًا لأمريكا" عام 2019، ولقاؤها المثير مع بشار الأسد في دمشق (2017)، دفعا البعض للشك في نواياها. تقارير إعلامية أشارت إلى تمويل غير مباشر لحملتها عبر جماعات ضغط موالية لموسكو، لكن لم تثبت أدلة قاطعة.
تراجع التأييد:
انسحابها من السباق الرئاسي ودعمها لبايدن في 2020 لم يُنهِ الانقسام حولها. انتقدها الليبراليون لتصويتها ضد مساءلة ترامب في قضية أوكرانيا، بينما رأى المحافظون فيها "ديمقراطية معتدلة" يمكن التعاون معها.
رابعًا: مديرة الاستخبارات الوطنية – التحديات والسيناريوهات المحتملة
سياساتها المتوقعة
إعادة هيكلة الوكالات:- تخطط لدمج أقسام مكافحة الإرهاب في CIA وNSA تحت إدارة موحدة، لتجنب التكرار.
تحديث الأساليب- تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، مع تشديد إجراءات حماية الخصوصية.
التركيز على الصين:- في أول خطاب لها، وصفت الصين بأنها "الخصم الاستراتيجي الأول"، مما أثار تساؤلات عن توجهها لتصعيد الاستخبارات في المحيط الهادئ.
الإشكالات القانونية:-
معارضوها في الكونغرس يستندون إلى:
نقص الخبرة و عدم عملها سابقًا في مجتمع الاستخبارات، على عكس أسلافها مثل دان كوتس.
التحيز المحتمل وهنالك تقرير من "مركز النزاهة الحكومي" أشار إلى تلقّيها تبرعات من جماعات ذات صلة بتركيا وأذربيجان خلال حملاتها الانتخابية.
التأثير الدولي
و هنالك دول مثل أوكرانيا وإسرائيل تعرب عن قلقها من تعيينها، خوفًا من تغيير الأولويات الأمريكية. في المقابل، رحبت روسيا والصين بالتعيين، معتبرتين أنها "تفهم مصالحهم الأمنية".
ما بين العسكرية والاستخبارات – أي مستقبل لسياسة أمريكا؟
تعيين جابارد قد يمثل تحولًا في فلسفة الاستخبارات الأمريكية من "التركيز على التهديدات الخارجية" إلى "إعادة تقييم الأولويات الداخلية"، مثل مكافحة التطرف اليميني وتأثير التغير المناخي على الأمن. لكن نجاحها مرهون بقدرتها على تجاوز الانقسامات السياسية، خاصة مع اقتراب انتخابات النص الثاني وسواءٌ أثبتت جدارتها أو سقطت تحت وطأة الجدل، فإن تجربتها ستكون درسًا في إدارة التوازن بين الخلفية العسكرية والحياد الاستخباراتي.

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

قيادة المستقبل في عصر الذكاء الاصطناعي

 

د. علي بن حمدان بن محمد البلوشي

تطوَّر مفهوم القيادة بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، فلم يعد القائد هو ذلك الشخص الذي يعتمد فقط على الكاريزما أو السلطة الرسمية؛ بل أصبح الدور أكثر شمولًا وتعقيدًا.

القيادة الحديثة تقوم على مزيج من المهارات الإنسانية والتقنية، وعلى قدرة القائد على التأثير في الآخرين والإلهام واتخاذ القرارات ضمن بيئات سريعة التغيّر. وبعض القادة يولدون بسمات تساعدهم مثل الحزم أو الذكاء العاطفي، لكن النجاح الحقيقي يعتمد بشكل أساسي على مهارات مكتسبة عبر التجربة والتعلم المستمر؛ مثل القدرة على التواصل، التفكير الاستراتيجي، إدارة فرق متنوعة، فهم البيانات، والتعامل مع التقنية.

وفي عصر العولمة والذكاء الاصطناعي، يواجه القادة تحديات لم يشهدوها من قبل. أولى هذه التحديات هو تسارع التغيير التقني الذي يفرض على القائد مواكبة الابتكار دون فقدان البوصلة الإنسانية. إضافة إلى ذلك، فإن تنوع ثقافات ومهارات المرؤوسين يجعل إدارة التوقعات وبناء فرق متجانسة أكثر تعقيدًا. كما تُعد حماية البيانات والالتزام بالأخلاقيات الرقمية من أبرز التحديات، في وقت أصبحت فيه القرارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي جزءًا من العمليات اليومية. كذلك تواجه المؤسسات ضغوطًا عالمية تتعلق بالاستدامة والمسؤولية المجتمعية، ما يتطلب من القادة فهم البيئة الدولية واتخاذ قرارات مبنية على قيم واضحة.

ولمواجهة هذه التحديات، يحتاج القائد إلى مجموعة من الاستراتيجيات والأدوات. من أهمها تعزيز ثقافة الابتكار داخل الفريق وتشجيع التعلم المستمر، بما في ذلك تعلّم مهارات العمل جنبًا إلى جنب مع أنظمة الذكاء الاصطناعي. كما يجب على القائد بناء جسور للثقة عبر الشفافية في القرارات، والإفصاح عن كيفية استخدام البيانات والتقنيات. ويُعد الالتزام بالأخلاقيات- سواء في استخدام التكنولوجيا أو إدارة الأفراد- ركيزة أساسية للحفاظ على سمعة المؤسسة ومتانة بيئتها الداخلية. كما ينبغي استخدام أدوات التحليل الرقمي لأخذ قرارات دقيقة، دون إغفال البعد الإنساني في قيادة الأفراد وفهم دوافعهم الثقافية والاجتماعية.

وفي الختام.. فإن قادة المستقبل بحاجة إلى مزيج فريد من البُعد الإنساني والرؤية التقنية. عليهم أن يعزّزوا الثقة داخل منظوماتهم، ويجعلوا الأخلاق معيارًا أساسيًا في كل خطوة، وأن يبنوا ثقافة عمل تتقبّل التغيير وتحتفي بالابتكار. والمستقبل سيكافئ القادة القادرين على التوازن بين العقل والآلة، وبين التقنية والقيم، وبين الطموح والمسؤولية؛ فهؤلاء وحدهم سيقودون التغيير في عصر الذكاء الاصطناعي.

** مستشار اكاديمي

مقالات مشابهة

  • بعد عامين… تحرّك في الكونغرس لمساءلة إسرائيل عن استهداف صحافيين
  • الجامعة الأمريكية تحتفل باختتام برنامج قيادة التغيير في المنظمات الديناميكية
  • السجن 14 عاما لرئيس الاستخبارات الباكستاني السابق
  • قيادة عُمانية لحدث عالمي
  • الكونغرس:تجميد 50%من المساعدات الأمريكية للعراق إلا بعد حل الحشد الشعبي الإيراني الإرهابي
  • العراق يرحب بتصويت الكونغرس على إلغاء استخدام القوة العسكرية ضد البلد لعامي 1991 و2002
  • ترشح براد لاندر لعضوية الكونغرس عن نيويورك.. يهودي حليف لممداني
  • الكونغرس يمهد لإلغاء قيصر… تحوّل مفصلي في الملف السوري
  • قيادة المستقبل في عصر الذكاء الاصطناعي
  • عصابة الثمانية.. مجموعة لمراقبة الاستخبارات الأميركية في الكونغرس