الانسداد السياسي وآفاق الحل الدائم
تاريخ النشر: 16th, February 2025 GMT
على مدى عقد ونيف من الزمن، ونحن على أبواب العيد الرابع عشر لثورة السابع عشر من فبراير المجيدة، واجهت الأمة الليبية أكبر أزمة سياسية في تاريخها الطويل، من تشظي أوصال الوطن، إلى إنقسام مزمن للمجتمع والحكومات، الى انتشار الفساد، وتغول المجموعات المسلحة، إضافة إلى تشبث المؤسسات التشريعية والتنفيذية فاقدة الشرعية باستمرارها في المشهد.
هذا يوضح بجلاء عدم وجود نخبة تقود الجموع، ولا موروث سياسي يعتمد عليه، ولا مؤسسات سياسية فاعلة مثل الاحزاب، ولا مؤسسات مجتمع مدني قوية خلال 70 سنة من عمر الدولة الليبية.
نعم الشعب الليبي فسيفساء اجتماعية ودينية واضحة، يوجد طيف مدني مرن التعامل معه، وهناك طيف قبلي متشدد وآخر إسلامي بألوانه المختلفة من الاصولي الماضوي إلى الاسلام الديموقراطي، وهناك العسكري المتربص. وللعلم لا يتطلب من الدولة أن تكون متجانسة اجتماعيا، بل يتطلب أن يكون هناك وعي سياسي ومجتمعي يكفل تبني قواسم مشتركة يمكن بناء الدولة على أساسها، وهو ما يعرف بالهوية الوطنية.
لتحليل الأزمة، يتطلب الرجوع إلى جذورها، إلى بدايات الاستقلال. في زمن الاستعمار الإيطالي، لم يكن هناك دراية لليبين بالسياسة، ومعظم المتصدرين للمشهد هم شيوخ قبائل وشيوخ دين، خاضت حروب ضد المستعمر باسم الدين وليس باسم الوطن. كما خاضوا حروب كثيرة فيما بينهم، عدا قلة مثل سليمان الباروني بما في جعبته من علم وفكر في مجتمع لم يستطيع إنتشاله مما فيه من تاخر.
إلا أن انتهاء الاستعمار الإيطالي في ليبيا بفعل قوات الحلفاء، وانتقال ليبيا إلى الإدارة البريطانية، أوجد أجواء مناسبة للعمل السياسي، فكان هناك قرابة خمسة أحزاب، لكل منها برامجه وأهدافه. فمثلا الحزب الوطني نشأ في سنة 1944 كنادي أدبي، تحول إلى حزب سياسي بنادي الوحدة، وينادي بالوحدة الوطنية وقيام الجمهورية على كل ليبيا، أما الجبهة الوطنية المتحدة فتم إنشاؤها في سنة 1946م، وتنادي بإنشاء دولة وطنية ديمقراطية، وهناك حزب الكتلة الوطنية، الذي نشأ في 30 مايو 1946م وينادي بالجمهورية، ويرفض الإمارة في الشرق بشدة، واخيرا حزب المؤتمر الوطني، الذي ظهر في 11 مايو 1949م ينادي بأن تكون ليبيا مستقلة موحدة تحت الإمارة السنوسية.
رغم هذه التنظيمات إلا أنه لم تُبني مؤسسات حزبية فاعلة، فتقرير لجنة التحقيق الرباعية التي تتكون من أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي سنة 1948 بخصوص تقرير مصير المستعمرات الإيطالية، يقول “إن الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في إقليم طرابلس يغلب عليها طابع الولاءات العائلية والحزازات القبلية والتنافس الشخصي بين الزعامات القبلية “.
أما في برقة، فمن الواضح أن العمل السياسي قد توقف بها، بعد صدور مرسوم أميري من إدريس السنوسي بتاريخ 7-12-1947م، مفاده توحيد جمعية عمر المختار وغيرها من الاجسام في المؤتمر البرقاوي برئاسة الأمير نفسه، ولذا لم يكن هناك أحزاب في برقة زمن الاستقلال. الجناج الثالث الجنوبي كان غارقا في الأمية والفقر مع قلة عدد السكان التي لم تتجاوز 40 الف نسمة في منتصف القرن العشرين، ولذا، لم يكن هناك عمل سياسي والأمر كله منوط للزعامات القبلية.
تم الإعلان عن القانون الانتخابي في يناير 1957م وأجريت الانتخابات النيابية في 19 فبراير 1957م والتي يتزعمها مجموعتان في طرابلس حيث الحراك السياسي، وهما مجموعة الحكومة بقيادة محمود المنتصر والاخرى بزعامة حزب المؤتمر ورئيسها بشير السعداوي، أم البقية الباقية في برقة وفزان فهم من المستقلين. وإستطاع حزب المؤتمر الحصول على 8 مقاعد في مجلس النواب.
نتيجة الاستقطاب وغياب التجربة النيابية حدث تزوير للانتخابات قاد إلى مظاهرات وأعمال شغب في المنطقة الغربية، على أثرها، وجد الملك فرصة لاصدار قرار بحل الأحزاب ( وكان قرار غير دستوري)، وإبعاد السعداوي ومن معه إلى الخارج، وبذلك انتهى أمل تكوين منظومات سياسية وإنتاج مناضلين سياسيين، وتراكم معرفي حزبي.
في نهاية الستينات كان هناك حراك سياسي كبير للمنظومات الحزبية، (وكان جلها غير قانوني تبعا لقرار الملك)، تشتغل بسبب ضعف النظام الملكي، من هذه حزب الإخوان وهو الأقوى، ثم القوميين العرب، وحزب التحرير الاسلامي، والشيوعيين والبعثيين وغيرهم، وكان هناك حوار فكري عميق بينهم في المنابر الاعلامية أكثر من برامج سياسية.
مع وصول القدافي للحكم في انقلاب 1969 م أصدر قرار تجريم الحزبية سنة 1972م، ثم كان له خطاب بمناسبة المولد النبوي في مدينة زوارة الموافق 15 إبريل 1973 أعلن فيها ما يسمى بالثورة الثقافية، وكان هدفها حظر وتجريم العمل الحزبي وقمع رموزها، ثم الزج بهم في السجون تحت شعار “من تحزب خان”.
في الحقيقة يمكن تصور حياة ديموقراطية سليمة ذات كفاءة وفاعلية في تحقيق حرية وإرادة جمهور الأمة، ولا يمكن تخيل حياة سياسية حرة للمواطنين إلا بوجود أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة، تنور وتحرك الرأي العام وتقدم للأمة الخيارات المختلفة لتختار من بينها ما يعتقد جمهور الأمة صحته وجديته بكل حرية وأمان بل ولتحمي هذه التنظيمات السياسية المستقلة عن السلطة الشعب من تغول الدولة وأجهزتها المنظمة والبوليسية.
بعد ثورة 2011 صدر القانون 29 لسنة 2012 بشأن تنظيم العمل الحزبي، وكان بادرة طيبة، ولكن القانون لم يجد مؤسسات حزبية ليقوم بتنظيمها. قرأ النشطاء والقادمون من المهجر والمتربصون والمتسلقون القرار وسمعو همسا من الحكومة لدعم العمل الحزبي، فتفاقمت هبة تسجيل الاحزاب حتى زادت عن مئة حزب ووصل دروة عددها 125 قبل الانتخابات التي لم تقام سنة 2020.
لم تكن هذه الأحزاب فاعلة سياسيا وليس لها قاعدة شعبية كبيرة تستند عليها، بل دكاكين تقوم بتسجيل أبناء عمومتها وأصدقائها للحصول على نصاب التسجيل، هذا يظهر مدى التصحر السياسي في البلاد، رغم ذلك كان هناك تكتلات شاركت في انتخابات نزيهة، شفافة سنة 2012 لم تشهد لها ليبيا مثيل من قبل، وتم بها انتخاب أعضاء المؤتمر الوطني العام لاول مرة في تاريخ ليبيا.
أما عن مؤسسات المجتمع المدني، فهي ليست استثناء، فبعد حصول بعض الجمعيات على معونات تفاقم عددها إلى أكثر من 2500 جمعية مع نهاية 2012م، في مختلفة الأنشطة، تم انحسر عنها الدعم فتوقف جلها، وواصل البعض بمجهودات فردية متواضعة، والجدير بالذكر انه يمكن تفعيلها لو تحصلت على دعم مناسب لنشاطاتها ويمكن أن تكون جهة رقابية على النشاط السياسي.
من الكوابيس المزعجة بعد سنة 2013 م ظهور عائلة حفتر في المشهد الليبي، كمولود غير شرعي للمخابرات الاقليمية في الشرق الليبي، ولقد استخدمت هذه العائلة فزاعة التقسيم بين الشرق والغرب، لتسخير كل موارد الدولة لمشروع تنصيب خليفة حفتر أو أحد أبنائه رئيسا على ليبيا، هذا المشروع ذروة سنام المشكلة، وعقدت العقد، نتج عنه غزو طرابلس، وقفل المواني النفطية، وتزوير العملة بالمليارات في روسيا، وشراء دبابات متهالكة وصواريخ قديمة من سوريا ودرون من الصين وتمكين القوات الروسية في ليبيا ومنحها أربعة قواعد عسكرية على البحر وفي عمق الصحراء.
في هذا المشهد المريع كيف يكون المخرج؟ وكيف يكون الحل؟ بالتأكيد ليس بالسؤال السهل الإجابة، ولكن أن تبدأ متأخرا خير من أن لا تبدأ.
ألاجابة على مستويين: المستوى الأول هو الاستمرار في عملية مصالحة، لأجل توحيد القواسم المشتركة، والتي تكون باتفاق على ميثاق وطني يتضمن البنود المتعارف عليها لبناء الدولة الليبية الوطنية الديمقراطية (وليست دولة مكون واحد تابعة كما جاء في ميثاق أديس أبابا) هذا الميثاق يصبح بوصلة عامة للشعب الليبي، وتنتهي مع توقيعه الأفكار الطوباوية مثل العودة للخلافة أو للمملكة أو الجماهيرية، وينتهي المستبد العادل، والقائد المؤمن، وبالتأكيد تنتهي التزكية والتصعيد، والتفويض من الشعب.
الأمر الثاني، تحريك النشطاء في كل ليبيا لدعم برنامج إسقاط مجلس النواب ومجلس الدولة مع إبقاء المجلس الرئاسي ليكون وسيلة إنتقالية إلى الانتخابات البرلمانية، وإستمرار الحكومتين في الشرق والغرب في عملهما زمن الانتخابات النيابية، وقد يحتاج الامر إلى مرسوم رئاسي لإنهاء دور المجلسين كما حدث لمحافظ مصرف ليبيا المركزي. وتقوم هيئة الانتخابات بتنظيم إنتخابات نيابية مشابهة لانتخابات البلديات التي تقام دوريا، وباشراف المجلس الرئاسي وبعثة الامم المتحدة، مع وجود القضاء كجهة ضامنة للمسار القانوني.
بعد انتخاب المجلس النيابي الجديد تكون الأمور أسهل وأيسر، حيث يقوم هذا المجلس بالآتي:
تشكيل حكومة جديدة موحدة لكل ليبيا. تشكيل لجنة لمعالجة بنود الاختلاف في الدستور. عرض الدستور الاستفتاء العام. تنظيم إنتخابات رئاسية تبعا لبنود الدستور. تحول ليبيا إلى الوضع الدائم: بتفعيل العمل السياسي الحزبي والنقابي وتنظيم إنتخابات نيابية ورئاسية تبعا للدستور الجديد.الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: کان هناک
إقرأ أيضاً:
ميقاتي يُنقذ بلدية طرابلس من الـحلّ
دخل الرئيس نجيب ميقاتي على خط أزمة مجلس بلدية طرابلس، ليقنع الأعضاء المُستقيلين بالتراجع، وبالتالي إنقاذ المجلس من الحَلّ، وإعطائه فرصة 100 يوم.وكتبت لينا فخر الدين في" الاخبار": نجا مجلس بلدية طرابلس المنتخب من الحَلّ، بعد نجاح مساعي فاعليّات المدينة في إقناع الأعضاء الـ 12 (11 من لائحة «نسيج طرابلس» وإبراهيم العبيد من لائحة «حراس المدينة») بالعدول عن استقالاتهم التي قدّموها قبل 10 أيام.
وتُرجم ذلك في صورة جامعة لأعضاء المجلس في دار الفتوى، إذ تمّ توقيع خارطة طريق لـ100 يوم برعاية مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام.
ورغم الإعلان عن عودة الأعضاء للعمل بعد احتجاجهم على انتخاب عبد الحميد كريمة رئيساً للمجلس عبر «تهريب» صوتٍ من لائحة «نسيج»، إلّا أنّ المعنيّين لم يُفصحوا علناً عن مضمون «الدّيل» الذي حُلّت الأزمة على أساسه.
ويقول متابعون إنّ الحل كان بضمانة وصول رئيس لائحة «نسيج» وائل زمرلي إلى رئاسة اتحاد بلديات الفيحاء (تضمّ طرابلس والبداوي والميناء والقلمون)، إضافةً إلى إعطاء الأعضاء الـ 12 حصّة وفيرة من اللجان (نحو 12 لجنة).
في المقابل، يقول هؤلاء إنّ هذا الخيار طُرح سابقاً (بما فيه وعد بإعطائهم نائب الرئيس، وتمّ التراجع عنه بانتخاب خالد كبارة، دون أن يتبيّن ما إذا كان سيبقى لولاية كاملة أو لثلاث سنوات فقط)، وحتّى قبل تقديم الأعضاء لاستقالاتهم.
إلا أنّهم تمسّكوا بالرفض، خصوصاً أنّ كريمة كان واقعياً بإشارته إلى أنه لا يستطيع أن يضمن وصول زمرلي إلى رئاسة الاتحاد ما دام لا موافقة سياسية على الأمر. كما عاد النائب فيصل كرامي إلى عرض مسعىً مشابه الأحد الماضي، يتضمّن إعطاء فرصة للمجلس ثلاثة أشهر، مع إمكانية المُساعدة في وصول زمرلي إلى رئاسة الاتحاد، بما أنّ كرامي يمتلك حصّة فيه، غير أنه جُوبه بالرفض أيضاً.
وعليه، فإنّ عودة الأعضاء المستقيلين، والتي ضمنت تفعيل المجلس وعدم حلّه، قُرئت في طرابلس على أنها «رجوع خطوات إلى الوراء» لزمرلي ومجموعته لأكثر من سبب، من بينها الضغط الشعبي النّاقم على تعطيل المجلس، بعد توقيع جميع المرشحين تعهّداً لدى إمام قبل انتخابهم بأنهم سيعملون على تسهيل مهمّة المجلس بغضّ النّظر عن هوية الفائز. وإضافةً إلى ذلك، وصلت إشارات إلى بعض المعنيّين بإمكانية التراجع نحو ثلاثة أعضاء عن استقالاتهم والانضمام إلى المجلس الذي يرأسه كريمة، ما يعني خسارة مدوية لزمرلي.
إلّا أنّ أهم الأسباب، بحسب الشخصيات السياسية الطرابلسية وعدد من الأعضاء، هو دخول الرئيس نجيب ميقاتي على خطّ الأزمة والضغط على زمرلي لإقناعه بالعدول عن قراره، قبل أن يتمنّى على إمام أن يُساهم في إخراج الخطوات العملانيّة واستقبال الأعضاء لتظهير الصورة الجامعة...
وتشير المعطيات إلى أنّ عدداً من فاعليّات المدينة اتّصلوا بميقاتي، طالبين منه التدخل لعدم حَلّ المجلس البلدي، خصوصاً أنه لا مصلحة لديه في ذلك، ليبدأ بدوره سلسلة اتصالات مع الأعضاء الـ 12 نقل فيها كلاماً عن وزير الداخلية والبلديات، أحمد الحجار، بأنّ قرار الدعوة للانتخابات ليس سهلاً كما يتصوّره البعض، وإنّما يتعلّق بموافقة أكثر من طرف، ومن بينها ستّ وزارات أساسية.
وهو ما يعني عدم القدرة على الدعوة خلال شهرين من موعد استقالة المجلس وإبقاء طرابلس من دون مجلس لفترةٍ طويلة. وإضافةً إلى ذلك، وعد ميقاتي زمرلي بتسهيل وصوله إلى رئاسة الاتحاد.
كما ساهمت بعض الجمعيات الإسلامية القريبة من لائحة «نسيج» في الضغط على الأعضاء، قبل أن تنجح مساعي ميقاتي.
ويقول متابعون إنّ أكبر الخاسرين كان النائب إيهاب مطر الذي فقد «مَونَته» على لائحةٍ دعمَ أعضاءها، من دون أن يكون بمقدوره إقناعهم بالثبات على موقفهم في الاستقالة، بينما كان يُفضّل إعادة الانتخابات بناءً على حساباته التي تشير إلى إمكانية تحقيق مكاسب أكبر.
وهو ما لم يكن مقنعاً بالنسبة إلى عددٍ من أعضاء «نسيج» الذين فضَّلوا السَّير بتوافق يضمن تفعيل المجلس وإراحة المدينة.
في المقابل، يُشدّد متابعون على أنه لا التزام نهائياً بالوعد المُعطى لزمرلي بانتخابه رئيساً لاتحاد الفيحاء، وإن كان بعض السياسيّين ضمن له الأمر. وأكبر دليل على ذلك أنه لم تتمّ مفاتحة رؤساء البلديات جدّياً في الموضوع، بينما يتردّد أنّ أحدهم يرغب بالترشح. ويضاف إلى ذلك، عدم استساغتهم فكرة أن يرأس عضو مجلس بلدية اتحاداً، يتألّف مجلسه من رؤساء بلديات.
مواضيع ذات صلة ميقاتي تقدّم بالتهنئة من رئيسيّ بلديتيّ طرابلس والميناء: المرحلة المقبلة ستشهد عملا بلدياً فاعلاً Lebanon 24 ميقاتي تقدّم بالتهنئة من رئيسيّ بلديتيّ طرابلس والميناء: المرحلة المقبلة ستشهد عملا بلدياً فاعلاً