مقدمة موجزة لتاريخ آداب شعوب سامية
تاريخ النشر: 26th, February 2025 GMT
على مدى أسابيع من عام 2022م نشرت مؤسسة كلمات بلا حدود(wordswithoutborders.org) على موقعها أعمالًا لكتّاب ساميين (Sámi) . ورغم أن جميع المؤلفين يعدون أنفسهم ساميين؛ فإن واحدًا فقط هو ريستن سوكي (Risten Sokki) يكتب-بالفعل- باللغة السامية. أما الشاعرة رون ليزا زاكريسون (Rönn-Lisa Zakrisson) فتكتب باللغة السويدية؛ لأنها تزعم أن بقية السويد -وليس شعبا ساميا- هم الذين يحتاجون إلى سماع المزيد عن الاستعمار في شمالها.
إن مناقشة أي جانب من جوانب تاريخ أو ثقافة أو لغات شعوب سامية قد تكون مهمة معقدة. فشعوب سامية تنتشر في بلدان متعددة (النرويج والسويد وفنلندا وروسيا). وهناك تسع لغات سامية باقية؛ وهي جزء من عائلة اللغات الفنلندية الأوغرية. ومن الصعب تحديد عدد الساميين بشكل دقيق لعدد من الأسباب. أولًا، لا يوجد سجل رسمي. ومع أن التسجيل للتصويت في البرلمان السامي ممكن؛ ولكن ليس كل الساميين يختارون ذلك. بالإضافة إلى ذلك أدت سنوات الاستعمار والاستيعاب -والتي تضمنت تكتيكات مختلفة من قبل الحكومات المذكورة أعلاه لقمع الساميين (على سبيل المثال التسجيل القسري للأطفال في المدارس الداخلية؛ وحيث كانت اللغات السامية محظورة)- إلى اختيار العديد من الساميين ليس فقط التوقف عن التحدث بلغتهم المورثة؛ ولكن -أيضًا- التوقف عن التعريف بأنفسهم على أنهم ساميون. ولذلك فإن العديد من الساميين لم يكبروا مع تلك اللغة أو الثقافة؛ وبالتالي فهم غير متأكدين مما إذا كان عليهم التعريف بأنفسهم على هذا النحو. وبطبيعة الحال أدى هذا إلى واقع مأساوي للغتنا؛ فهي تختفي. ومن جانب آخر، فمن الصعب تحديد عدد المتحدثين بالسامية؛ ولكن يُعتقد أن هناك ما بين 20.000 إلى 30.000 في جميع أنحاء العالم. وأكبر مجموعة لغوية -الآن- هي المتحدثة باللغة السامية الشمالية بحوالي 20.000 متحدث. تليها مجموعة السامي اللولي Lule مع ما يقرب من 1000. ولا يتحدث لغة كيلدين (Kildin) السامية سوى حوالي 700 شخص. أما لغة سامي الجنوبية فهي أقل من ذلك بكثير. وبعض لغات سامي (مثل الأومي والبايت Ume and Pite ) فلا يتحدث بها سوى عدد قليل جدًا.
ومثل العديد من الشعوب الأصلية الأخرى؛ فإن شعبا ساميا موجود عبر الحدود واللغات. وهذا يؤثر ليس على تاريخنا وثقافتنا فحسب؛ ولكن -أيضًا- على حياتنا اليومية. فعلى سبيل المثال نشأتُ في النرويج وأنا أتحدث لغة سامي الشمالية؛ مما يعني أنه يمكنني التواصل مع شخص سام في فنلندا يتحدث لغة سامي الشمالية. ومن ناحية أخرى وعندما أتحدث إلى زوج أمي السامي يتعين عليّ التحول إلى اللغة النرويجية؛ لأنه يتحدث لغة سامي الجنوبية. ومع أن لغة سامي الشمالية ولغة سامي الجنوبية لديهما العديد من أوجه التشابه؛ إلا أن السامي من إحدى المجموعات اللغوية السامية لن تكون قادرًا -عادةً- على محادثة شخص يتكلم لغة مجموعة أخرى. وفي كل الأحوال ما زلنا جزءًا من نفس الثقافة، ونفس الشعب. ومع أنه في بعض الأحيان قد تؤدي هذه الاختلافات إلى خلق صعوبات عندما يتعلق الأمر بمعالجة القضايا في مجتمعنا؛ ولكنها تعني -أيضًا- أننا شعب متنوع وقادر على التكيف مع الظروف المحيطة بنا.
إن هذه التعقيدات بالغة الأهمية عند مناقشة الأدب السامي. فبسبب تعدد اللغات؛ فلا تتمكن معظم جماعات شعب سام من قراءة كل الأدب السامي الذي كُتب. بالإضافة إلى ذلك فإن حقيقة أن الساميين يعيشون في دول مختلفة لها تأثير كبير على الإنتاج الأدبي. فمصادر التمويل تختلف حسب البلد. وقد يزعم البعض أن الأدب السامي قد وصل إلى أبعد مدى في النرويج؛ حيث يوجد بعض الدعم المؤسسي. وفي الوقت نفسه تقدم دول أخرى (مثل فنلندا) القليل من الدعم المالي، أو لا تقدم أي دعم على الإطلاق. مما يؤدي إلى نشر القليل جدًا من الأدب السامي في تلك الدول. وبالنظر إلى قلة عدد الساميين الذين يمكنهم القراءة والكتابة بلغتهم الأم؛ فإن أي كتاب منشور بلغة سامية سيكون له بطبيعة الحال عدد قليل من القراء. وهذا هو الحال بشكل خاص عندما يتعلق الأمر باللغات السامية مع قلة المتحدثين بها؛ مما يعني أن الكتاب يعتمدون على التمويل العام. وهناك ما يقرب من 150 شخصًا يكتبون الأدب باللغات السامية المختلفة، لكن لا أحد منهم يحصل على ما يكفي لكسب لقمة العيش من كتاباته وحدها. ومع ذلك فإن المؤلفين الساميين يجعلون من الممكن للأجيال الجديدة أن تكبر وهي تقرأ بلغتها الخاصة من خلال الاستمرار في الكتابة والنشر على الرغم من العقبات العديدة. كما أنهم -من خلال ذلك- يؤكدون بقوة مدى أهمية اللغة والأدب لثقافتنا.
يعرّف الباحث السامي هارالد جاسكي (Harald Gaski) المصطلح السامي للأدب girjjálašvuohta)) من خلال النظر إلى الكلمة السامية (girji) - والتي تُرجمت على أفضل وجه إلى (book) في اللغة الإنجليزية - على أنه «شيء له نمط، أو شيء مكتوب». ويتابع أن مثل هذا التعريف «أكثر شمولاً (...) لما يمكن أن يشمله ويشتمل عليه الأدب السامي، وبالتالي فمن الطبيعي-تمامًا- أن تضرب كل من joiks (الحكايات المترنمة) والقصص كأمثلة على الأدب السامي». إن التعريف الضيق للأدب باعتباره محصورًا في النثر أو الشعر من شأنه أن يتجاهل جوانب أساسية من ثقافة وتاريخ شعوب سامية التي يجب علينا فهمها.
وفي عام 1910م أصبح يوهان توري (Johan Turi) أول كاتب سام ينشر كتابًا بلغة سامية. فلقد نُشر عمله Muitalus sámiid birra (سرد عن سام) باللغة السامية الشمالية والدنماركية. وعلى مدار الستين عامًا التالية نشر المؤلفون الساميون ما يقرب من عشرين كتابًا، نُشر عشرة منها بين عامي 1910 و1915. ونظرًا لأن رواية القصص تشكل جزءًا أساسيًا من ثقافة شعوب سامية؛ فلا شك أن القصص وأشكالًا أخرى من الأدب كانت تُكتب وتُشارك في هذه السنوات. ولكن في عالم النشر؛ كان الأدب السامي شبه معدوم. وعلى الرغم من ذلك فقد كتب مؤلفون مثل يوهان توري وأندرس لارسن (Anders Larsen) وبيدار جالفي) (Pedar Jalvi وأنتا بيراك (Anta Pirak) وهانز أسلاك جوتورم (Hans Aslak Guttorm) خلال هذا الوقت. ويُنظر إلى العديد منهم على أنهم رواد أدبنا.
ولقد بدأ المشهد الأدبي السامي في التحول في سبعينيات القرن العشرين. عندما بدأ السكان الأصليون والأقليات الأخرى في جميع أنحاء العالم حركة سياسية عالمية للمطالبة بحقوقهم. وهي الحركة التي شارك فيها الساميون أيضًا. فمن المرجح أن قوة هذه الحركة العالمية، والشعور بأن الأمور بدأت تتحول بالنسبة للشعوب الأصلية قد شجعت المزيد من الساميين على الكتابة. وربما ساعد ذلك -أيضًا- في التأكيد على أهمية لغتنا ومشاركة قصصنا وخبراتنا، سواء فيما بيننا أو مع الآخرين. وخلال هذه السنوات تطور عالم الأدب السامي -أيضًا- من خلال تقديم ندوات كتابة عن شعوب سامية، وإنشاء جمعيات ودور نشر، مع تدابير أخرى لتعزيز الأدب السامي. ولقد ساعد ظهور النقاد الساميين -أيضًا- في دعم ودفع الكُتّاب أنفسهم. إنّ الاهتمام بالأدب السامي يتزايد؛ حتى لو كان نشر الأعمال الأدبية نفسه لا يزال يمثل تحديًا.
وكانت هناك قضية أخرى نوقشت في السبعينيات تتعلق بكتابة لغات شعب سام. وقبلها تبنى ساميو النرويج والسويد أسلوب إملاء مختلفًا عن ساميي فنلندا. فكان هذا يعني أنه حتى لو كان بإمكان شعب سامي الشمالي من النرويج وفنلندا فهم بعضهم البعض عند التحدث؛ فإنهم لا يستطيعون قراءة كتابات بعضهم البعض. وهذا جعل من الصعب على شعوب سامية الوصول إلى أدبهم الذي كتبوه بأنفسهم، وعن أنفسهم. ولم تتفق البلدان على قواعد إملائية موحدة إلا في عام 1979م. وكان هذا -فضلًا عن المشاركة المتزايدة للأدب- أمرًا بالغ الأهمية لإحياء وإدامة لغاتنا وأدبنا. وخلال هذه الفترة ظهر العديد من المؤلفين الجدد والمؤثرين؛ بما في ذلك سينوف بيرسن (Synnøve Persen) وراوني ماجا لوكاري(Rauni Magga Lukkari) وكيرستي بالتو (Kirsti Paltto) ونيلز-أسلاك فالكيابا(Nils-Aslak Valkeapää).
وهناك موضوعات ثابتة في جميع جوانب الأدب السامي. فعلى سبيل المثال تتضمن العديد من الأعمال السامية قصصًا تقليدية تعلمنا -عادةً- شيئًا عن كيفية التصرف في العالم. وتعلمنا هذه القصص -أيضًا- احترام جميع الكائنات الحية؛ سواء كانت حيوانات أو كائنات من العالم السفلي أو حتى الأضواء الشمالية. وهذا النوع من القصص هو أداة قوية لتربية أطفالنا، و -أيضًا- في تعليم الآخرين (الذين ليسوا على دراية بثقافتنا) ما نقدره. بالإضافة إلى ذلك فقد كان من الضروري إخبار العالم بأساسيات ثقافتنا، كما هو الحال في كتاب توري سرد عن سام، حيث يشرح الصيد ورعي الرنة وغيرها من التقاليد. ويمكن القول إن الطبيعة كانت الموضوع الأكثر شيوعًا في الأدب السامي، حيث تنبع تقاليدنا وقيمنا -جميعًا- من علاقتنا بالأرض. ولا يزال من الممكن رؤية هذه الموضوعات اليوم؛ لكن الجيل الجديد من المؤلفين (سيجبيورن سكادن Sigbjørn Skåden، ونيلاس هولمبرج Niilas Holmberg ، وماري آن سارا Máret Ánne Sara، وراودنا كاريتا إيرا Rawdna Carita Eira، على سبيل المثال لا الحصر) بدأوا -أيضًا- حوارات جديدة. وفي الآونة الأخيرة انفتح المؤلفون الساميون على قضايا مجتمعاتنا والتي كان من الصعب التحدث عنها؛ وبالتالي الكتابة عنها -أيضًا-؛ مثل العنف والإساءة. كما نشهد -أيضًا- حقائق أحدث تنعكس في الأدب السامي، مثل ما يعنيه أن يكبر شخص سام في عالم اليوم الرقمي. وهذا ما يسمح للأجيال الجديدة بشيئين: القراءة عن الأساليب التقليدية، ورؤية أنفسهم منعكسين على صفحات مواقع الأنترنت.
ويمكن النظر إلى الأدب بعده كأحد الطرق الرئيسية للحفاظ على تقاليدنا ولغاتنا حية، وتعبيرًا عن هويتنا. وكما يقول غاسكي: «ليس لدى شعوب سامية العديد من التقاليد والطقوس مثل الشعوب الأصلية الأخرى. ولكن اللغة والحكايات المترنمة هي التي ساعدت في ربطنا ببعض، وهي -أيضًا- الوسائط التي قدمناها للعالم الخارجي باعتبارها أهم قيمنا الثقافية». وإن الأدب هو إحدى لبنات بنائنا الأساسية، ونحن محظوظون بوجود منشورات بلغتنا، حيث لا توجد عند العديد من الشعوب الأصلية الأخرى في أنحاء من العالم. ومع ذلك فلا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه. فتأليف كتاب يتطلب الكثير من الالتزام والموهبة، وكما ذكرنا أعلاه فإن النشر باللغات السامية ليس مربحًا اقتصاديًا. وبعبارة أخرى فإن الحافز للكتابة باللغات السامية مفقود. لذلك يحتاج شباب شعب سام -على وجه الخصوص- إلى المزيد من الموارد لتعلم الكتابة بلغتهم الخاصة. ونحن بحاجة -أيضًا- إلى المزيد من الدعم المالي حتى يتمكن المزيد من الكتاب من نشر أعمالهم بلغتهم السامية الخاصة. وأخيرًا فهناك مسألة الترجمة؛ فوفقًا لغاسكي «لا يوجد حاليًا سوى عدد قليل من المترجمين، وأنظمة دعم أقل للترجمة من اللغات السامية إلى النرويجية أو السويدية أو الفنلندية أو غيرها من اللغات». وأحد الأسباب الرئيسة التي تجعل الترجمات مهمة للغاية عندما يتعلق الأمر بالأدب السامي هو أننا موجودون عبر العديد من اللغات والحدود. وترجمة أعمالنا أمر حيوي إذا أردنا أن نشارك أعمالنا مع شعبنا. فلم تتح الفرصة للعديد منهم لتعلم أية لغة سامية؛ وبالتالي يعتمدون على الترجمات. وبالنسبة للآخرين الذين يكتبون باللغات السامية مع عدد قليل جدًا من القراء؛ فإن الطريقة الوحيدة لزيادة عدد القراء ومشاركة أعمالهم هي ترجمتها. ولكي يستمر الأدب السامي في لعب دوره الأساسي في ثقافتنا وتوسيع فوائده؛ فنحن بحاجة إلى المزيد من الكتاب والقراء والمترجمين، وهو أمر مستحيل بدون دعم؛ سواء المالي أو من خلال نظام التعليم.
وفي سلسلة «أصوات من منطقة سابمي Sápmi قدمت مؤسسة كلمات بلا حدود أعمالًا لخمسة من كتاب اللغات السامية المعاصرين، وهم: موآ باك أستوت Moa Backe Åstot، ولينيا أكسلسون Linnea Axelsson، وريستين سوكي، ورون ليزا زاكريسون، وإلين آنا لابا Elin Anna Labba وجميعهم يأتون من مناطق مختلفة في سابمي ويكتبون بلغات مختلفة.
وبالطبع هذا ليس سوى غيض من فيض عندما يتعلق الأمر بالكتابة السامية والتي لم تُترجم الغالبية العظمى منها إلى اللغة الإنجليزية. إن نشر مؤسسة كلمات بلا حدود لهذه السلسلة هو إحدى الخطوات الأولى لتشجيع المزيد من الأدب السامي باللغة الإنجليزية؛ بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها المؤلف. والشيء الأهم هو أن تُسمع أصوات شعب سام، وأن تُشارك قصصهم وتُتاح لجمهور أوسع. ولا يؤدي القيام بذلك إلى إثراء مجموعة آداب الشعوب الأصلية فحسب؛ بل سيوسع -أيضًا- الآفاق الأدبية لجميع القراء. لقد نجت قصص شعوب سامية من رحلات عبر تضاريس وعرة لا يمكن تصورها عبر قرون من القمع والعنف. ورغم ذلك فقد واصل الأدب السامي مسيرته حتى يومنا هذا. وأنا أؤمن بتقدمه، ولكن طريقه ما زال طويلًا.
ماتيلد ماجا، امرأة سامية من ترومسو في شمال النرويج، أمضت السنوات الخمس الماضية في الدراسة في منطقة سياتل. حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة باسيفيك لوثران في عام 2020 وحصلت على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي مع التركيز على الأدب الأصلي من جامعة واشنطن في عام 2022، وستواصل دراستها هناك مع حصولها على درجة الدكتوراه في الأدب في عام 2023. وهي تعمل على مشروع كتاب تأمل في نشره باللغتين النرويجية والسامية الشمالية.
مصدر المقالة:
https://wordswithoutborders.org/read/article/2022-10/sharing-stories-a-brief-introduction-to-sami-literary-history/
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عندما یتعلق الأمر على سبیل المثال الشعوب الأصلیة العدید من المزید من فی الأدب عدد قلیل من الصعب من خلال فی عام جمیع ا
إقرأ أيضاً:
حينما كان للروايات شأن
ديفيد بروكسترجمة: أحمد شافعي
لي من العمر ما يجعلني أتذكر زمنًا كان للروائيين مقام فيه، فحينما كنت في الكلية في ثمانينيات القرن العشرين، كانت الروايات الجديدة لفيليب روث وتوني موريسون وصول بيلو وجون أبدايك وأليس ووكر وغيرهم أحداثًا ثقافيًا، تتبعها عروض نقدية، وعروض نقدية مضادة، ومشاجرات حول العروض النقدية نفسها.
وليس الحنين وحده هو السبب في هذا، ففي أواسط القرن العشرين وحتى أواخره، كانت الرواية الأدبية [في مقابل روايات الإثارة والمغامرات مثلا] تجتذب جماهير غفيرة، حتى أنكم لو نظرتم في قائمة (الناشرين الأسبوعية) لأكثر الروايات مبيعا في عام 1962 لوجدتم أعمالا لكاثرين آن بورتر وهيرمان ووك وجيه دي سالنجر، وفي العام التالي تجدون كتبا لماري مكارثي وجون أوهارا. وفي مقالة حديثة على سابستاك عنوانها «الانحدار الثقافي للرواية الأدبية» لأوين ينجلينج، عرفت أن رواية راجتايم لـ(إي إل دكترو) كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1975، وأن «شكوى بورتنوي» لفيليب روث كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1969، وأن «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف كانت رقم 3 سنة 1958 وأن «دكتور جيفاجو» لبوريس باسترناك كانت رقم 1.
أما الرواج اليوم، إلى حد كبير، فهو لروايات كولين هوفر الفنتازية وغيرها من الروايات النوعية [من قبيل روايات الإثارة والمغامرات]. ووفقا للدراسات المسحية التي تقوم بها المؤسسة الوطنية للفنون منذ عقود فإن عدد من يدعون أنهم يقرأون الأدب يتراجع باطراد منذ عام 1982. ويذكر أوين ينجلينج أنه لم تظهر رواية أدبية ضمن العشرة الأوائل في قوائم الناشرين الأسبوعية منذ عام 2001. ولا اعتراض لي على الروايات النوعية والكتب الشعبية، ولكن أين سكوت فيتزجيرالد أيامنا، أو وليم فوكنر، أو جورج إليوت، أو جين أوستن، أو ديفيد فوستر والاس؟
ولا أقول إن الروايات اليوم أسوأ. (فأني لي أن أعرف طريقة لقياس أمر كهذا). إنما أقول إن الأدب يلعب دورًا أصغر كثيرًا في حياتنا الوطنية وإن لهذا أثرًا في تقليل إنسانية ثقافتنا. لقد كان لدينا شعور، موروث عن العصر الرومنتيكي، بأن الروائيين والفنانين هم ضمير الأمة، فهم شأن الهداة والحكماء ممن ينأون عنا ليقولوا لنا حقيقتنا. ومثلما قال عالم الاجتماع سي رايت ميلز يوما فإن «الفنان والمثقف المستقلين هما من الشخصيات القليلة الباقية المجهزة لمقاومة ومكافحة التنميط وما يستتبعه من موت للأشياء الحية الأصيلة».
ونتيجة لهذا الافتراض، حظي الروائيون باهتمام كبير حتى أواخر الثمانينيات، بل لقد حقق البعض منهم شهرة مذهلة: جور فيدال، ونورمن ميلر، وترومان كابوتي. وكان الحديث الأدبي شديد المركزية لدرجة أن اشتهر بعض النقاد من أمثال سوزان سونتاج، وألفريد كازين ومن قبلهما ليونيل تريلنج وإدموند ويلسن. وكان ثمة عدد أكبر كثيرا من منابر العروض النقدية في الجرائد في شتى أرجاء البلد وفي المجلات المهمة من قبيل ذي نيو ريببليك.
لماذا أصبح الأدب أقل مركزية في الحياة الأمريكية؟ الجاني الأوضح في هذا هو الإنترنت. فقد دمرت قدرة الجميع على التركيز. وأجد هذا مقنعا إلى حد كبير لكن ليس في غالب الحالات. فانحدار الرواية الأدبية بدأ، مثلما يقول أوين ينجلينج، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، قبل أن تسيطر الإنترنت.
لا يزال لدى الناس من القدرة على التركيز ما يقرأون به الكلاسيكيات. فلقد بيع من رواية 1984 لجورج أورويل (وهي دليل إرشادي أساسي للحظتنا الراهنة) أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وبيع من «الكبرياء والهوى» لجين أوستن أكثر من عشرين مليونا. فلا يزال الأمريكيون يحبون الكتب الأدبية. وحينما سألت شركة ووردسريتد للبحوث الأمريكيين أن يرتبوا كتبهم المفضلة، جاء ضمن العشرة الأوائل «الكبرياء والهوى» و«أن تقتل طائرا طنانا» و«جاتسبي العظيم» وجين إير».
ولا يزال لدى الناس من القدرة على الانتباه ما يجعلهم يقرأون قليلًا من الأعمال المعاصرة ـ من قبيل سالي رومني وزادي سميث مثلا ـ مع نثار من الروايات الأدبية اليسارية المضمونة من قبل «حدوتة الوصيفة» لمارجريت آتوود، و«ديمون ذو الرأس النحاسي» لباربرا كينغسولفر. فالأمر أن ما انهار هو الاهتمام بالكتَّاب المعاصرين إجمالا.
أود أن أحكي قصة مختلفة عن انحدار الرواية الأدبية، وهي قصة عن ضغط المجتمع والانسجام معه. ما السمتان اللتان تميزان كل لحظة ثقافية عظيمة تقريبا؟ إنهما الثقة والجرأة. وانظروا إلى فن عصر النهضة أو الروايات الروسية أو الفكتورية. يمكنني القول إن الغرب قد شهد في السنوات الخمسين الماضية شهدت فقدانا كبيرا عاما للثقة والجرأة.
ارجعوا إلى سبعينيات القرن العشرين، لتروا الفنانين والروائيين يجربون في أمور كبيرة جريئة. ففي الأدب كانت «العين الأكثر زرقة» لتوني موريسون، و«قوس قزح الجاذبية» لتوماس بينشن و«هدية هومبولت» لصول بيلو. وفي السينما كان «العراب» ـ في جزئيه الأول والثاني ـ و«القيامة الآن». وكان مطربو الروك يكتبون أناشيد طويلة طموحة من قبيل «سلم إلى السما» و«الطائر الحر» و«الرابسودي البوهيمية». وحتى الصحفيون الأكثر تأثيرا كانوا جريئين من أمثال توم وولف وجون ديديون وهنتر طومسن. واليوم يبدو كل شيء مسلّعا، مبقرطا [من البيروقراطية]، مقيَّدا.
ولقد تضرر العالم الأدبي بصفة خاصة؛ إذ جرى شيء ما للأدب حينما انتقل مركز الجاذبية من قرية جرينتش [حيث كان وسط أدبي مرموق] إلى برامج ماجستير الفنون في الجامعات [حيث يجري تدريس الكتابة الإبداعية]. حينما تخرجت في الكلية، كنت أحلم بأن أكون روائيا أو مسرحيا. تطوعت للعمل محررا أدبيا في مجلة شيكاجو رفيو الأدبية. لكنني بعد اجتماعات قليلة، بدأت أفكر «أهذا حقا ما تريد أن تنفق فيه بقية حياتك؟ في نميمة حول ستة روائيين مغمورين في برنامج أيوا لتدريس الكتابة الإبداعية؟». بدا ذلك عالما صغيرا ومتحيزا.
والعالم الأدبي، فضلا عن ذلك، عالم تقدمي، والتقدمية ـ وليسامحنى القراء اليساريون ـ تعاني من مشكلة في الانسجام. فثمة ضغوط اجتماعية لا تصدق في دوائر اليسار، أكثر حتى مما في اليمين، تمنع قول أي شيء غير مقبول. (أما في اليمين، في المقابل، فيبدو أن المرء يحظى بمكافآت على قوله المزيد من غير المقبول).
في 2023، نشرت المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي دراسة خلابة لأدريان لودرز ودينو كاربنترز ومايكل كوايل؛ إذ أجروا بحثا على عينة من الناخبين الأمريكيين (متوسط أعمارهم 34 عاما) فحللوا آراءهم في قضايا من قبيل الإجهاض والهجرة والحد من التسلح وزواج المثليين.
تبين للدراسة أن ذوي الميول اليسارية يميلون إلى تبني رؤى أكثر تطرفا ومحافظة وترابطا، فلو أنكم علمتم رأي شخص يساري في الهجرة، لأمكنكم التنبؤ برأيه في الإجهاض. أما اليمينيون فتميل آراؤهم إلى التعدد والتنافر. فرأي اليميني في الهجرة أقل كشفا لرأيه في الحد من التسلح. فاليسار أكثر انسجامًا.
يتسق هذا مع تجربتي. فحينما أزور مدرسة في قسم أزرق [مؤيد للحزب الديمقراطي] من البلد، غالبا ما يكون الطلبة خائفين من التعبير عن رأيهم في الفصول الدراسية. يذكرني هذا أيضا بدراسة أجرتها أماندا رايبلي مع شركة بريديكت وايز للاستطلاعات والتحليلات لمجلة ذي أطلنطيك سنة 2019. بحثت هذه الدراسة في المقاطعات الأمريكية أيها الأكثر انفتاحا عقليا، وأيها الأكثر تحيزا ضد الخصوم السياسيين. ظهر أن اليمين لديه وفرة من التعصب (وبخاصة في فلوريدا) ولكن يبدو أن المقاطعة الأكثر تعصبا في أمريكا هي مقاطعة سوفولك بولاية ماساتشوستس، التي تضم بوسطن، وغير البعيدة من منطقة الخليج.
ولا بأس بالانسجام في بعض المهن، كأن يكون أحدهم مساعدا لعضو في الكونجرس، حيث لا يؤجر على قوله الآراء. إنما ذلك في مهنة الكتابة أمر فيه بأس كبير. فالغاية الكبرى من كون المرء مفكرا مستقلا ـ بتعبير المنظِّر الاجتماعي إرفنج هاو ـ هو أن يقف «صلبا ووحيدا». وفي ضوء معايير الزمن، كان لإديث وارتون ومارك توين وجيمس بولدوين قدر هائل من الشجاعة، وما عظمة أعمالهم إلا نتيجة شجاعتهم وعدم انسجامهم.
ولو أن الضغوط الاجتماعية المحيطة بالمرء قوية، فإنه سوف يكتب لزمرة الناس الذين يفرضون هذه الضغوط واعين أو غير واعين، فتكون كتابتك بالطبع صغيرة شأن غيرك. ولو أنك تكتب خائفا من النفي الاجتماعي، فسيكون الأشرار في روايتك مزرين. لأنك سوف تعهد إليهم بشرور أحادية البعد، ولن تجعلهم مقنعين ومغوين بطرقهم اللعينة. ولن يروق لك أن يراك الناس داعما لآراء أو لشخصيات قد تعرضك للإلغاء.
والأهم أنك إذا لم تتحل بشجاعة اجتماعية حقيقية، فإنك لن تخرج عن فقاعتك لتكتب ما تلزم كتابته من أجل فهم ما يجري في حياة غيرك، في هذا المرجل الهائل المعروف بأمريكا.
في عام 1989، كتب وولف مقالة لمجلة هاربرز بعنوان «تعقب الوحش ذي الألف قدم»، حاول فيها أن يبث بعض الجرأة في زملائه الروائيين. إذ ناشدهم الخروج من جيتوهاتهم الثقافية بكتابة رواية ضخمة جريئة قادرة على اقتناص الزمن، من قبيل روايات بلزاك وتشارلز ديكنز وجون شتاينبك وسنكلير لويس في أيامهم. وقد فعل وولف نفسه ذلك سنة 1987 بروايته «نار الغرور»، وهي روايته الهائلة التي تتناول طبقات مجتمع نيويورك، والتي لا تزال صامدة إلى حد كبير اليوم.
لقد عشنا، وبخاصة في العقد الأخير، عصر جدل عام هائل. بليت فيه حياتنا الداخلية بموجات صدمة الأحداث العامة. وشهدنا فقدانا شاملا للإيمان. وكم أود أن أقرأ روايات ضخمة تقبض على هذه العواصف السيكولوجية والروحية. ومع ذلك ففي بعض الأحيان حينما أختلس نظرة إلى العالم الأدبي، أشعر بوجود ثقافة فرعية مهمشة.
وذلك ما يمضي بي إلى النبأ السعيد. لو أن مشكلة الرواية الأدبية هي الضغط الاجتماعي وفقدان الشجاعة، فهذه مشكلة قابلة للحل. ويخبرني من يعلِّم الكتَّاب الشباب أن بيننا الآن شبابا جسورين من الروائيين يقومون بعمل ذي شأن. ولا غرابة بالنسبة لي في أنهم راغبون في تحطيم القيود التي تعايش معها غيرهم. فلعل نجوما تلوح في الأفق.
الأدب والدراما قادران على بث ما يحرك الآخرين. فحتى المسلسل التلفزيوني العظيم لا يمكنه أن يتيح لك الحياة الداخلية لإنسان مثلما يفعل الأدب. بوسع الروايات أن تقبض على روح العصر الفائقة للوصف بالغة القوة، بثراء تعجز أن تضاهيه الشاشات والوسائط البصرية. ويبدو لي من المستبعد للغاية بعد ستمائة سنة أن تتبدد قوة الكلمات المطبوعة. لذلك أراهن بكل ما أملك على أن الأدب سيرجع، وستكون تلك ضربة قاصمة لكل قوى انتزاع الإنسانية المحيطة بنا.
خدمة نيويورك تايمز