ديفيد بروكسترجمة: أحمد شافعي
لي من العمر ما يجعلني أتذكر زمنًا كان للروائيين مقام فيه، فحينما كنت في الكلية في ثمانينيات القرن العشرين، كانت الروايات الجديدة لفيليب روث وتوني موريسون وصول بيلو وجون أبدايك وأليس ووكر وغيرهم أحداثًا ثقافيًا، تتبعها عروض نقدية، وعروض نقدية مضادة، ومشاجرات حول العروض النقدية نفسها.
وليس الحنين وحده هو السبب في هذا، ففي أواسط القرن العشرين وحتى أواخره، كانت الرواية الأدبية [في مقابل روايات الإثارة والمغامرات مثلا] تجتذب جماهير غفيرة، حتى أنكم لو نظرتم في قائمة (الناشرين الأسبوعية) لأكثر الروايات مبيعا في عام 1962 لوجدتم أعمالا لكاثرين آن بورتر وهيرمان ووك وجيه دي سالنجر، وفي العام التالي تجدون كتبا لماري مكارثي وجون أوهارا. وفي مقالة حديثة على سابستاك عنوانها «الانحدار الثقافي للرواية الأدبية» لأوين ينجلينج، عرفت أن رواية راجتايم لـ(إي إل دكترو) كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1975، وأن «شكوى بورتنوي» لفيليب روث كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1969، وأن «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف كانت رقم 3 سنة 1958 وأن «دكتور جيفاجو» لبوريس باسترناك كانت رقم 1.
أما الرواج اليوم، إلى حد كبير، فهو لروايات كولين هوفر الفنتازية وغيرها من الروايات النوعية [من قبيل روايات الإثارة والمغامرات]. ووفقا للدراسات المسحية التي تقوم بها المؤسسة الوطنية للفنون منذ عقود فإن عدد من يدعون أنهم يقرأون الأدب يتراجع باطراد منذ عام 1982. ويذكر أوين ينجلينج أنه لم تظهر رواية أدبية ضمن العشرة الأوائل في قوائم الناشرين الأسبوعية منذ عام 2001. ولا اعتراض لي على الروايات النوعية والكتب الشعبية، ولكن أين سكوت فيتزجيرالد أيامنا، أو وليم فوكنر، أو جورج إليوت، أو جين أوستن، أو ديفيد فوستر والاس؟
ولا أقول إن الروايات اليوم أسوأ. (فأني لي أن أعرف طريقة لقياس أمر كهذا). إنما أقول إن الأدب يلعب دورًا أصغر كثيرًا في حياتنا الوطنية وإن لهذا أثرًا في تقليل إنسانية ثقافتنا. لقد كان لدينا شعور، موروث عن العصر الرومنتيكي، بأن الروائيين والفنانين هم ضمير الأمة، فهم شأن الهداة والحكماء ممن ينأون عنا ليقولوا لنا حقيقتنا. ومثلما قال عالم الاجتماع سي رايت ميلز يوما فإن «الفنان والمثقف المستقلين هما من الشخصيات القليلة الباقية المجهزة لمقاومة ومكافحة التنميط وما يستتبعه من موت للأشياء الحية الأصيلة».
ونتيجة لهذا الافتراض، حظي الروائيون باهتمام كبير حتى أواخر الثمانينيات، بل لقد حقق البعض منهم شهرة مذهلة: جور فيدال، ونورمن ميلر، وترومان كابوتي. وكان الحديث الأدبي شديد المركزية لدرجة أن اشتهر بعض النقاد من أمثال سوزان سونتاج، وألفريد كازين ومن قبلهما ليونيل تريلنج وإدموند ويلسن. وكان ثمة عدد أكبر كثيرا من منابر العروض النقدية في الجرائد في شتى أرجاء البلد وفي المجلات المهمة من قبيل ذي نيو ريببليك.
لماذا أصبح الأدب أقل مركزية في الحياة الأمريكية؟ الجاني الأوضح في هذا هو الإنترنت. فقد دمرت قدرة الجميع على التركيز. وأجد هذا مقنعا إلى حد كبير لكن ليس في غالب الحالات. فانحدار الرواية الأدبية بدأ، مثلما يقول أوين ينجلينج، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، قبل أن تسيطر الإنترنت.
لا يزال لدى الناس من القدرة على التركيز ما يقرأون به الكلاسيكيات. فلقد بيع من رواية 1984 لجورج أورويل (وهي دليل إرشادي أساسي للحظتنا الراهنة) أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وبيع من «الكبرياء والهوى» لجين أوستن أكثر من عشرين مليونا. فلا يزال الأمريكيون يحبون الكتب الأدبية. وحينما سألت شركة ووردسريتد للبحوث الأمريكيين أن يرتبوا كتبهم المفضلة، جاء ضمن العشرة الأوائل «الكبرياء والهوى» و«أن تقتل طائرا طنانا» و«جاتسبي العظيم» وجين إير».
ولا يزال لدى الناس من القدرة على الانتباه ما يجعلهم يقرأون قليلًا من الأعمال المعاصرة ـ من قبيل سالي رومني وزادي سميث مثلا ـ مع نثار من الروايات الأدبية اليسارية المضمونة من قبل «حدوتة الوصيفة» لمارجريت آتوود، و«ديمون ذو الرأس النحاسي» لباربرا كينغسولفر. فالأمر أن ما انهار هو الاهتمام بالكتَّاب المعاصرين إجمالا.
أود أن أحكي قصة مختلفة عن انحدار الرواية الأدبية، وهي قصة عن ضغط المجتمع والانسجام معه. ما السمتان اللتان تميزان كل لحظة ثقافية عظيمة تقريبا؟ إنهما الثقة والجرأة. وانظروا إلى فن عصر النهضة أو الروايات الروسية أو الفكتورية. يمكنني القول إن الغرب قد شهد في السنوات الخمسين الماضية شهدت فقدانا كبيرا عاما للثقة والجرأة.
ارجعوا إلى سبعينيات القرن العشرين، لتروا الفنانين والروائيين يجربون في أمور كبيرة جريئة. ففي الأدب كانت «العين الأكثر زرقة» لتوني موريسون، و«قوس قزح الجاذبية» لتوماس بينشن و«هدية هومبولت» لصول بيلو. وفي السينما كان «العراب» ـ في جزئيه الأول والثاني ـ و«القيامة الآن». وكان مطربو الروك يكتبون أناشيد طويلة طموحة من قبيل «سلم إلى السما» و«الطائر الحر» و«الرابسودي البوهيمية». وحتى الصحفيون الأكثر تأثيرا كانوا جريئين من أمثال توم وولف وجون ديديون وهنتر طومسن. واليوم يبدو كل شيء مسلّعا، مبقرطا [من البيروقراطية]، مقيَّدا.
ولقد تضرر العالم الأدبي بصفة خاصة؛ إذ جرى شيء ما للأدب حينما انتقل مركز الجاذبية من قرية جرينتش [حيث كان وسط أدبي مرموق] إلى برامج ماجستير الفنون في الجامعات [حيث يجري تدريس الكتابة الإبداعية]. حينما تخرجت في الكلية، كنت أحلم بأن أكون روائيا أو مسرحيا. تطوعت للعمل محررا أدبيا في مجلة شيكاجو رفيو الأدبية. لكنني بعد اجتماعات قليلة، بدأت أفكر «أهذا حقا ما تريد أن تنفق فيه بقية حياتك؟ في نميمة حول ستة روائيين مغمورين في برنامج أيوا لتدريس الكتابة الإبداعية؟». بدا ذلك عالما صغيرا ومتحيزا.
والعالم الأدبي، فضلا عن ذلك، عالم تقدمي، والتقدمية ـ وليسامحنى القراء اليساريون ـ تعاني من مشكلة في الانسجام. فثمة ضغوط اجتماعية لا تصدق في دوائر اليسار، أكثر حتى مما في اليمين، تمنع قول أي شيء غير مقبول. (أما في اليمين، في المقابل، فيبدو أن المرء يحظى بمكافآت على قوله المزيد من غير المقبول).
في 2023، نشرت المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي دراسة خلابة لأدريان لودرز ودينو كاربنترز ومايكل كوايل؛ إذ أجروا بحثا على عينة من الناخبين الأمريكيين (متوسط أعمارهم 34 عاما) فحللوا آراءهم في قضايا من قبيل الإجهاض والهجرة والحد من التسلح وزواج المثليين.
تبين للدراسة أن ذوي الميول اليسارية يميلون إلى تبني رؤى أكثر تطرفا ومحافظة وترابطا، فلو أنكم علمتم رأي شخص يساري في الهجرة، لأمكنكم التنبؤ برأيه في الإجهاض. أما اليمينيون فتميل آراؤهم إلى التعدد والتنافر. فرأي اليميني في الهجرة أقل كشفا لرأيه في الحد من التسلح. فاليسار أكثر انسجامًا.
يتسق هذا مع تجربتي. فحينما أزور مدرسة في قسم أزرق [مؤيد للحزب الديمقراطي] من البلد، غالبا ما يكون الطلبة خائفين من التعبير عن رأيهم في الفصول الدراسية. يذكرني هذا أيضا بدراسة أجرتها أماندا رايبلي مع شركة بريديكت وايز للاستطلاعات والتحليلات لمجلة ذي أطلنطيك سنة 2019. بحثت هذه الدراسة في المقاطعات الأمريكية أيها الأكثر انفتاحا عقليا، وأيها الأكثر تحيزا ضد الخصوم السياسيين. ظهر أن اليمين لديه وفرة من التعصب (وبخاصة في فلوريدا) ولكن يبدو أن المقاطعة الأكثر تعصبا في أمريكا هي مقاطعة سوفولك بولاية ماساتشوستس، التي تضم بوسطن، وغير البعيدة من منطقة الخليج.
ولا بأس بالانسجام في بعض المهن، كأن يكون أحدهم مساعدا لعضو في الكونجرس، حيث لا يؤجر على قوله الآراء. إنما ذلك في مهنة الكتابة أمر فيه بأس كبير. فالغاية الكبرى من كون المرء مفكرا مستقلا ـ بتعبير المنظِّر الاجتماعي إرفنج هاو ـ هو أن يقف «صلبا ووحيدا». وفي ضوء معايير الزمن، كان لإديث وارتون ومارك توين وجيمس بولدوين قدر هائل من الشجاعة، وما عظمة أعمالهم إلا نتيجة شجاعتهم وعدم انسجامهم.
ولو أن الضغوط الاجتماعية المحيطة بالمرء قوية، فإنه سوف يكتب لزمرة الناس الذين يفرضون هذه الضغوط واعين أو غير واعين، فتكون كتابتك بالطبع صغيرة شأن غيرك. ولو أنك تكتب خائفا من النفي الاجتماعي، فسيكون الأشرار في روايتك مزرين. لأنك سوف تعهد إليهم بشرور أحادية البعد، ولن تجعلهم مقنعين ومغوين بطرقهم اللعينة. ولن يروق لك أن يراك الناس داعما لآراء أو لشخصيات قد تعرضك للإلغاء.
والأهم أنك إذا لم تتحل بشجاعة اجتماعية حقيقية، فإنك لن تخرج عن فقاعتك لتكتب ما تلزم كتابته من أجل فهم ما يجري في حياة غيرك، في هذا المرجل الهائل المعروف بأمريكا.
في عام 1989، كتب وولف مقالة لمجلة هاربرز بعنوان «تعقب الوحش ذي الألف قدم»، حاول فيها أن يبث بعض الجرأة في زملائه الروائيين. إذ ناشدهم الخروج من جيتوهاتهم الثقافية بكتابة رواية ضخمة جريئة قادرة على اقتناص الزمن، من قبيل روايات بلزاك وتشارلز ديكنز وجون شتاينبك وسنكلير لويس في أيامهم. وقد فعل وولف نفسه ذلك سنة 1987 بروايته «نار الغرور»، وهي روايته الهائلة التي تتناول طبقات مجتمع نيويورك، والتي لا تزال صامدة إلى حد كبير اليوم.
لقد عشنا، وبخاصة في العقد الأخير، عصر جدل عام هائل. بليت فيه حياتنا الداخلية بموجات صدمة الأحداث العامة. وشهدنا فقدانا شاملا للإيمان. وكم أود أن أقرأ روايات ضخمة تقبض على هذه العواصف السيكولوجية والروحية. ومع ذلك ففي بعض الأحيان حينما أختلس نظرة إلى العالم الأدبي، أشعر بوجود ثقافة فرعية مهمشة.
وذلك ما يمضي بي إلى النبأ السعيد. لو أن مشكلة الرواية الأدبية هي الضغط الاجتماعي وفقدان الشجاعة، فهذه مشكلة قابلة للحل. ويخبرني من يعلِّم الكتَّاب الشباب أن بيننا الآن شبابا جسورين من الروائيين يقومون بعمل ذي شأن. ولا غرابة بالنسبة لي في أنهم راغبون في تحطيم القيود التي تعايش معها غيرهم. فلعل نجوما تلوح في الأفق.
الأدب والدراما قادران على بث ما يحرك الآخرين. فحتى المسلسل التلفزيوني العظيم لا يمكنه أن يتيح لك الحياة الداخلية لإنسان مثلما يفعل الأدب. بوسع الروايات أن تقبض على روح العصر الفائقة للوصف بالغة القوة، بثراء تعجز أن تضاهيه الشاشات والوسائط البصرية. ويبدو لي من المستبعد للغاية بعد ستمائة سنة أن تتبدد قوة الكلمات المطبوعة. لذلك أراهن بكل ما أملك على أن الأدب سيرجع، وستكون تلك ضربة قاصمة لكل قوى انتزاع الإنسانية المحيطة بنا.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الروایة الأدبیة من قبیل
إقرأ أيضاً:
فلسفة الذم والشتائم في الأدب.. كيف تحوّل الذم إلى غرض شعري؟
ما الذي يدعو الإنسان إلى شتم الآخرين؟ هل جربت أن تسأل نفسك عن أسباب الراحة النفسية التي تجدها أحيانًا بعد شتم أحد أساء إليك؟ هل فكرت بالكلمات التي تتلفظ بها عند الشتم؟ ما مصدرها وكيف تسربت إلى عقلك واستقرت في خلدك وخرجت على لسانك في تلك اللحظة العصبية بالذات؟ هل تعلم أن لعائلتك ومحيطك الباع الأكبر في تشكيل معجمك الذي تهرع إليه عند الحاجة إلى الشتم؟ وهل تعلم أن للشتم وألفاظه وأساليبه أسبابًا خفية تتعلق بماضيك وطفولتك وبيئتك ومجتمعك وأصدقائك؟
إن الناظر في أدبنا العربي بشقيه شعرًا ونثرًا يجد أن الشتم والهجاء احتل مساحة واسعة فيه، لكن أساليبه اختلفت بحسب الشخص والمخاطب والواقعة والمناسبة. لنلقِ نظرة على فلسفة الشتم وتجلياته في الشعر العربي في العصور القديمة. وفي الفرق بين السب والشتم قال أبو هلال العسكري: "إن الشتم تقبيح أمر المشتوم بالقول، وأصله من الشتامة وهو قبح الوجه ورجل شتيم قبيح الوجه، والسبّ هو الإطناب في الشتم والإطالة فيه".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من بغداد إلى القاهرة.. دروس الروح الأدبية في منافسات الشعراءlist 2 of 2الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي: ترجمة الشعر إبداع يهزم الآلةend of list ما سيكولوجية الشتم؟يعرف الشتم بالسَّبِّ أيضًا، وهو استخدام كلمات نابية أو مهينة غير لائقة وغير مقبولة اجتماعيا، للتعبير عن الغضب والاستياء، أو الألم، أو للتندر والفكاهة أحيانًا.
وعلى الصعيد النفسي يُفسر الشتم باتجاهات مختلفة ويحمل وظائف عدة، كأن يُستعمل للتنفيس الانفعالي وتفريغ الغضب أو التوتر، أو يُستعمل لتعزيز العلاقات لا سيما بين الأصدقاء! إذ يزيد من الشعور بالألفة، وقد أظهرت إحدى الدراسات أن الشتم في مرحلة المراهقة وفترة الشباب لا يُعد سلوكًا عدوانيا، بل له دلالات اجتماعية وتعبيرية، لأنه أشبه بأداة لبناء علاقات اجتماعية، والتعبير عن النضج، وتأكيد الهوية، وفي أحيان أخرى يُستخدم بوصفه آلية للاندماج داخل الجماعة.
وفي دراسة بعنوان "لماذا نشتم؟"، وجد الكاتب بعد تحليل أسباب الشتم نفسيا وعصبيا واجتماعيا أن هناك رابطًا بين العواطف واللغة والسلوك العدواني، وشرح كيفية تخزين الشتائم في الدماغ بشكل منفصل عن الكلمات العادية، يريد بذلك أن الشتائم عفوية إلى حد ما، وتنشط في مناطق دماغية مختلفة عن اللغة المعتادة المستخدمة في الحياة اليومية.
إعلانويلجأ الناس إلى الشتم بحسب بعض الدراسات بوصفه رد فعل على الألم، لأنه يزيد من القدرة على تحمل الألم الجسدي، إذ يعمل الشتم كآلية دفاعية تزيد من التحمل الجسدي للألم عبر تحفيز الاستجابة الانفعالية وتحفيز إفراز هرمون الأدرينالين في الجسم، فالشتم وفقًا لذلك ليس سلبيا بالمطلق، بل قد يكون مفيدًا للصحة النفسية وتخفيف الألم، وتحسين الأداء والتفاعل في بعض المواقف.
كما يستخدم الشتم في أحيان أخرى للتعبير عن الهوية أو العصيان والتمرد في تحدي السلطة أو الأعراف الاجتماعية. وتؤكد ذلك إحدى الدراسات التي تناولت تاريخ الشتم من العصور القديمة حتى اليوم، إذ ترى أن النظرة المجتمعية للشتم قد تغيرت، وهي في تغير دائم بحسب الدين والثقافة والسياسة، وتذهب إلى أن الشتائم ليست محض كلمات نابية، بل مرايا تعكس تحولات المجتمعات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
وفي سياق اللغة العربية وفي غمرة من المجاز الواسع والتداول اللغوي وسطوة المجتمع وهيمنته على الاستعمالات اللغوية والتراكيب والألفاظ المعتمدة بين الناس عامة، تجد أن للشتم والسّبّ وجوهًا أخرى، فقد تسمع عبارة بسيطة سطحية لا تتضمن أي لفظ خارج عن سياق الأدب ومنظومة الأخلاق، لكنها من الشتم والهجاء بمكان عالٍ، قد لا تصل إليه الألفاظ البذيئة نفسها!
وذلك فضلا عن أنه يُستخدم في مواقف الاستغراب والتضامن الاجتماعي! نعم… لا تعجب، فالمعنى في كثير من الأحيان وإن بدا اللفظ بذيئًا يعتمد على السياق الاجتماعي والنبرة والمخاطَب. والأمثلة في الأدب العربي واللغة العربية العامية المتداولة يوميا كثيرة.
كيف تناول الشعراء الشتم في أشعارهم في العصور المتقدمة؟الهجاء هو اللبوس الأوسع للشتم والسباب، ويعد غرضًا رئيسًا من أغراض الشعر العربي، وذلك لأن الشاعر عامة يكتب حين يغضب أو يرغب، والمقصود بالهجاء ذمّ شخص أو قبيلة ما وتجريدهم من كل المحامد، وفضح عيوبهم وتسليط الضوء عليها، بغرض الإهانة والتحقير والسخرية. وقد يكون الهجاء دفاعًا عن النفس، أو دفاعًا عن مبدأ عقدي أو سياسي أو اجتماعي، وقد يكون بغرض الانتقام، ويكون أحيانًا للتسلية والتحريش بالآخر فحسب!
وأشدّ الهجاء ما قام على التفضيل، فقد حكى ابن سلام الجمحي عن يونس بن حبيب أنه قال: "أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل، وهو الإقذاع عندهم". وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "من قال في الإسلام هجاء مقذعًا فلسانه هدر".
وحقيقة الهجاء القائمة على السب والشتم قديمة قدم الشعر العربي، فقد قال بعض العلماء كما جاء في كتاب العمدة لابن رشيق: "بُني الشعر على أربعة أركان، وهي: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء". وقالوا أيضًا إن "قواعد الشعر أربع: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب؛ فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع".
وقال آخرون: "الشعر كله نوعان: مدح، وهجاء؛ فإلى المدح يرجع الرثاء، والافتخار، والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف: كصفات الطلول والآثار، والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق: كالأمثال، والحكم، والمواعظ، والزهد في الدنيا، والقناعة، والهجاء ضد ذلك كله، غير أن العتاب حال بين حالين؛ فهو طرف لكل واحد منهما".
إعلانكانت ألفاظ الشتم والهجاء في العصور القديمة قاسية قوية الوقع على النفس، وكانت وسيلة للتعبير عن الغضب أو الانتقام أو التحقير الاجتماعي، وكثيرًا ما كانت تعتمد على استهداف الأنساب والأحساب وشتم العائلة والآباء والأجداد، وتعرّج على ذكر النساء واستفزاز المشتوم بذكر أمه وأخته وزوجه وبناته بسوء، وتذهب إلى تصوير المهجوّ في صور نفسية وبدنية دونية وبشعة، وتصفه بأشنع الصفات وتلصق به أقبح الخصال، وتذكر من عيوبه الجسدية ما يحمل على السخرية منه ورسم صورة كوميدية مضحكة له.
يقول ستيڤن پنكر المختص اللغوي والباحث الاجتماعي: "يجب أن تصيب المسبّة ما هو غال وثمين ومحبوب لدى من استخدمها لكي يعتقد أن لها فعالية الجرح والإهانة المقصود"، لذا ترتكز معاني الهجاء على تجريد المهجو من كل الخصال الحسنة والصفات الحميدة، ومن كل ما يعتز به العربي كالنسب الأصيل وخصال الشهامة كالشجاعة والكرم وحماية الجار وإغاثة الملهوف وغير ذلك من محاسن الأخلاق، ولتجريده منها لا بد من رميه بنقيضها من الصفات كالجبن والبخل والغدر والنسب الوضيع.
نجد في العصر الجاهلي كثيرًا من الهجاء الذي يعتمد على الشتم في قصائد يمتزج فيها المدح والفخر بالنفس والقبيلة بهجاء الخصم وشتمه والحط من شأن ذويه وقبيلته. ومن ذلك ما قاله الشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم في ذم رجل يدعى أوس وهجائه:
إِنَّكَ يا أَوسُ اللَئيمُ مَحتَدُه
عَبدٌ لِعَبدٍ في كِلابٍ تُسنِدُه
مُعَلهَجٌ فيهِم خَبيثٌ مَقعَدُه
إِذا أَتاهُ سائِلٌ لا يَحمَدُه
مِثلَ الحِمارِ في حَميرٍ تَرفِدُه
وَاللُؤمُ مَقصورٌ مُضافٌ عَمَدُه
وكذلك امرؤ القيس الذي قال في هجاء قبائل برمتها فجردها من كل مناقبها، وألصق بها من المثالب ما يندى له جبين العربي الأصيل مُعممًا على أفرادها كلهم، صارفًا عنهم أي استثناء، جاعلًا منهم أشنع الناس وأسوأ القبائل والعشائر:
أَلا قَبَّحَ اللَهُ البَراجِمَ كُلَّها
وَجَدَّعَ يَربوعًا وَعَفَّرَ دارِمَا
وَآثَرَ بِالمِلحاةِ آلَ مُجاشِعٍ
رِقابَ إِماءٍ يَقتَنينَ المَفارِما
فما قاتَلوا عَن رَبِّهِم وَرَبيبِهِم
وَلا آذَنوا جارًا فَيَظفَرَ سالِما
وَما فَعَلوا فِعلَ العُوَيرِ بِجارِهِ
لَدى بابِ هِندٍ إِذ تَجَرَّدَ قائِما
ويطالعنا الشاعر المخضرم الحطيئة الهجّاء الأشرس الأعنف الذي لم يسلم أحد من لسانه، حتى طال به أمه وأباه، وهجا نفسه حين ضاقت به السبل وافترّ لسانه!
قال في هجاء رجل يدعى قُدامة:
قُدامَةُ أمسى يَعرُكُ الجَهلُ أَنفَهُ
بِجَدّاءَ لَم يُعرَك بِها أَنفُ فاخر
فَخَرتُم ولم نَعلَم بِحادِثِ مَجدكم
فَهاتِ هَلُمَّ بعدها لِلتَنافُرِ
ومن أَنتُمُ إِنّا نَسينا مَن أنتم
وَريحُكُمُ مِن أَيِّ ريحِ الأَعاصر
وبالمجيء إلى صدر الإسلام نجد أن الشتم على الرغم من مخالفته لتعاليم الإسلام لم يختفِ من سجلات الشعر والنثر العربي، لكنه اتجه اتجاهات مختلفة نوعًا ما عند أولئك الشعراء والأدباء الذين التزموا تعاليم الدين وشريعته.
غير أن الشتم والتعريض بالدين والمعتقد صار وسيلة أيضًا ما دام يؤلم المهجو ويستفزه، لذا صار الهجاء المتبادل بين المسلمين والمشركين آنذاك ينطلق من الأفكار الدينية والمساس بها بشكل مباشر.
وانبرى عدد من الشعراء حينذاك للدفاع عن الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك.
ومن أشعار عبد الله بن رواحة الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام والرسول الكريم، قوله في ذم رجل يعرف باسم قيس:
يا قَيسُ أنتم شِرارُ قَومِكم
قِدمًا وَأَنتُم أَغَثُّهم نَسَبا
حالَفتُمُ الفُحشَ وَالخيانة وال
بُخلَ جميعًا واللُؤمَ والكَذِبا
ومن أشعار كعب بن مالك في ذمّ من يحاول النيل من رسول الله من المشركين صلى الله عليه وسلم قوله:
أعامرَ عامرَ السَّوءاتِ قِدْمًا
فلا بالعقل فُزْتَ ولا السّناء
أَأَخْفَرْتَ النّبيَّ وكنت قدِمًا
إلى السّوْءاتِ تجري بالعراءِ
إعلانوفي العهد الأموي سطع نجم ثلاثة من شعراء الطبقة الأولى، وعرفوا بالمثلث الأموي لوفرة الشعر المتبادل بينهم، وكانوا المواقد التي أنضجت فن النقائض آنذاك حتى وصل إلى الذروة؛ هم جرير والفرزدق والأخطل، فرسان الشعر في العهد الأموي عامة وفي غرض الهجاء خاصة، إذ تبادلوا الشتم والذم حتى اشتهروا به، ولم يترك واحدهم للآخر منفذًا يتسلل منه سوى الرد عليه بما هو أقبح وأشنع. وقد رسم كل منهم لصاحبه صورًا كوميدية أشبه اليوم بالرسوم الكاريكاتيرية؛ ومن ذلك قول جرير في ذم الفرزدق ناعتًا إياه بسوء الخلقة والخلق في آن واحد:
لقد ولدت أم الفرزدق فاجرًا
فجاءت بوزواز قصير القوائمِ
يوصل حبليه إذا جنّ ليله
ليرقى إلى جاراته بالسلالمِ
وقد أمعن كل من الفرزدق وجرير في هجاء بعضهما وذمّ كل ما يخصهما حتى بلغ بهما الأمر أن ارتبطا ببعضهما ارتباطًا نفسيا في الوجود والشهرة والانتشار، وكان جرير يصرّ على وصف الفرزدق بالقرد كثيرًا في أشعاره، فمن ذلك قوله:
إن البليّــة لا بليّة مــثلها
قرد يعلِّل نفسه بالباطل
وقوله أيضًا:
وما كان الفرزدق غيــر قردٍ
أصابتهُ الريــاحُ فاستدارا
وكذلك الفرزدق كان شاعرًا هجّاء محترفًا وألصق بصاحبه لقب "ابن المراغة" لكثرة تكرارها في أشعاره التي ذمّه وهجاه فيها، والمقصود بالمراغة الحمارة! وكثيرًا ما حاول النيل من نسبه إلى أبيه، ومن ذلك قوله:
وابنُ المَرَاغة يَدَّعِي من دَارِمٍ
والعَبدُ غيرَ أبيه قدْ يَتَنَحَّلُ
ليس الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أباهم
حتَّى تُرَدَّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ
وكان أقذع الذم والهجاء آنذاك ما يحطّ من شأن القبيلة كلها، كحكاية الراعي النميري مع جرير، والبيت الشهير الذي قال فيه جرير:
فغضّ الطرف إنك من نمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
وكان الراعي النميري قد حاول الدخول بين جرير والفرزدق طمعًا بالشهرة واكتساب الاعتراف بشاعريته وعلوّ قدمه في نظم الشعر، فقال مرجحًا كفة الفرزدق على جرير تحريشًا لجرير حتى يرد عليه:
يا صاحبي دنا الرواح فسيرا
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فامتنع جرير عن الرد عليه شعرًا واكتفى بتحذيره، وطلب منه أن يكفّ عن ذلك مرارًا فلم يستمع إليه! فما كان من جرير إلا أن هجاه بقصيدة سماها "الدامغة"، جعل قبيلته كلها تطأطئ الرأس دهرًا من الزمن، حتى لامه قومه ونبذوه بما جرّه عليهم. ويقال إن هذه القصيدة أخرست الراعي النميري وكانت سببًا بموته كمدًا.
يقول حسام عتال في إحدى مقالاته التي يتحدث فيها عن فن المسبات والشتائم: "ما يتلو ذكر الجنس وشتم العائلة والنسب كمادة للتجريح هو التعريض بالمعتقدات والدين، لكني لم أجد عند أي من الشعوب المختلفة من يسبّ الدين نفسه أو الإله مباشرة وشخصيا سوى في بلاد الشام. فمسبات (ربك وإلهك ودينك) تبدو لسبب ما محصورة في هذه البقعة من الأرض". ثم يفسر ذلك اعتمادًا على تفسير ستيڤن پنكر السابق فيقول إن السبب الرئيس هو قوة الإيمان أو عمق تأثيره في المجتمع في بلاد الشام عامة. فما رأيكم؟
السباب ليس من أخلاق العقلاء ولا من سير الكرام، وهو دليل على ضعف في النفس وإشارة إلى ضيق في الصدر والأفق. فهل استمر الشتم في عصور الشعر العربي اللاحقة؟ هل تغيرت ألفاظه وأساليبه؟ وكيف يشعر المتلقي في وقتنا الحاضر حين يسمع الشتائم في قوالب أدبية؟ هل يتقبلها؟ هل تبدو كوميدية؟ أو أن الأمر يختلف باختلاف الذائقة الفنية للأدب لدى المتلقين؟ وما مدى حضور معاني قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾ في عقولنا وقلوبنا وتصرفاتنا؟