عبد النبي العكري

انعقد في منطقة أوكسن هيل بولاية ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، مؤتمر المحافظين للعمل السياسي، والذي تلتئم أعماله كل عام منذ 1947، كما إن تنظيمات مُحافِظة تعقد مؤتمرات مماثلة بنفس التسمية في عدد من الدول؛ ومنها المكسيك والبرازيل والمجر وكوريا الجنوبية.

لكن ما يُعطي لهذا المؤتمر أهمية كبيرة هو أن المتحدث الأول فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكل ما يمثل فوزه بالرئاسة الأمريكية بأغلبية كاسحة، وكذلك فوز حزبه الجمهوري اليميني بأغلبية الكونجرس استنادا إلى برنامج يميني متطرف لصالح أصحاب المليارات ونموذجهم إيلون ماسك.

وينعقد المؤتمر في ظل تقدم وفوز الأحزاب اليمينية في عدد من البلدان في أوروبا وأمريكا اللاتينية، في ظاهرة عالمية خطيرة؛ فقد تزامن المؤتمر مع فوز اليمين، واليمين المتطرف في ألمانيا؛ حيث بادر زعيم الحزب الفائز (الديمقراطي المسيحي) لدعوة الإرهابي نتنياهو لزيارة ألمانيا.

ومن حضور المؤتمر الأمريكي، خافيير ميلي رئيس الأرجنتين اليميني المتطرف، وفيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، وربيرتو فيكو رئيس وزراء سلوفاكيا، وجورجيا ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا (عن بُعد) وزعماء أحزاب اليمين واليمين المتطرف في عدد من البلدان مثل جوردان بارديلا زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية، وليز نيتس الزعيمة السابقة لحزب المحافظين البريطاني.

وفي لقطة معبرة صعد إلى المسرح إيلون ماسك، اليد اليمنى لترامب أثناء إلقاء رئيس الأرجنتين ميلي لكلمته وهو يحمل منشارًا كهربائيًا أهداه إياه ميلي، ويرمز إلى مهمته في استئصال ما يُعد شخصيات وإدارات وخدمات للحكومة الفيدرالية في تقويضٍ لدور الدولة في خدمة مواطنيها، وحلول القطاع الخاص محل الدولة في عدد من القطاعات والخدمات.

كانت فرصة سانحة للرئيس ترامب لأن يُفسِّر انتصاره في انتخابات الرئاسة على أنها عودة لا سابق لها للسلطة في الحياة السياسية الأمريكية، وأنها بمثابة انتصار ساحق له وللجمهوريين، وهزيمة ساحقة لخصومه (جو بايدن وكمالا هاريس) وللديمقراطيين عامةً، وتفويض للانتقام منهم ولكل من حاول تطبيق القانون ومحاسبته في الإدارة الفيدرالية. ومعنى ذلك وضع حدٍ لحيادية الإدارة الفيدرالية ولتداول السلطة ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وسيطرة الحزب الجمهوري اليميني بدءًا بقيادة ترامب الاستبدادية على الحياة السياسية الأمريكية. كما جرى تداول فكرة فترة رئاسة ثالثة لترامب خلافًا للدستور الأمريكي، من خلال اللجوء لحيلة ترشُّحه كنائبٍ لمرشح الرئاسة فانس (نائب الرئيس حاليًا) ثم استقالة فانس؛ ليُصبح ترامب الرئيس مُجددًا.

استعرض ترامب في كلمته المُطوَّلة وبعرضٍ مسرحيٍ، انتصاراته وإنجازاته المبهرة طوال شهر من حكمه، والحط من خصومه السياسيين وتقديم نفسه كمنقذٍ وقائد لأمريكا العظيمة مجددًا، وكذلك رؤيته لأمريكا أولًا وللعلاقات مع العالم في ضوء ذلك. وكالعادة فقد كانت الكلمة مليئة بالإهانات لخصومه السياسيين خصوصًا بايدن وهاريس وادعاءات فارغة وأكاذيب مكشوفة وترويج لأطروحات شعبوية خادعة. ووصف الحزب الديمقراطي وسياسيِّهِ بأنهم حفنة من الماركسيين واليساريين، الذين خانوا أمريكا وأشعلوا الحروب، وأنهم فاسدون وذوو مصالح ذاتية، وادعى أنه يحظى بدعم 70% من الأمريكيين، وأنه جاء ليقود الأمة والشعب الأمريكي لتعود أمريكا أولًا في قيادة العالم.

كثيرة هي القضايا والتوجهات الخطيرة التي طرحها ترامب بتعبيرات مبتذلة، لا سيما وأنه يرى عودة أمريكا لبلد الرواد الفاتحين البيض ذوي العقيدة المسيحية المحافِظة، والتخلي عن القيم الليبرالية، وإعلاء شأن الرأسمالية المطلقة، والحد من الضوابط والضرائب عليها، وفي ذات الوقت الحد من مسؤوليات الدولة الفيدرالية تجاه مواطنيها، وخصوصًا الفئات الضعيفة، كذلك منع تدفق الهجرة وخصوصًا من أمريكا اللاتينية، وبدأ أكبر عملية تهجير لمن يعتبرهم "المهاجرين غير الشرعيين"، في تاريخ أمريكا؛ حيث يصفهم بـ"المجرمين ومروجي المخدرات" في بلد ارتبط تاريخه بالهجرة، مع اتباع سياسة اقتصادية حمائية، في حين أن أمريكا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تسيَّدت العالم بفتح الأسواق وحرية التجارة وفرضت الدولار كعملة دولية.

كرر ترامب طرحه الخطير في التخلي عن القانون الدولي المستند للأمم المتحدة والشرعية الدولية في استقلال وسيادة الدول؛ حيث أعاد طرحه بضم كندا لتكون الولاية رقم 51، وكذلك ضم جزيرة جرينلاند والسيطرة على قناة بنما والاستيلاء على قطاع غزة الفلسطيني باتفاق مع المحتلين الصهاينة، وكأن بلدان العالم عقارات للبيع. كما أكد انسحاب أمريكا من عدد من المنظمات مثل مفوضية حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية، من الاتفاقات الدولية مثل اتفاقية باريس للمناخ، مع وقف تمويل منظمة الأونروا وغيرها.

ترامب كرر تأكيده أن فرض الضرائب على واردات الدول له الأولوية، وأعاد تكرار البلدان المستهدفة، مؤكدًا أن ذلك سيوفر للحكومة الفيدرالية الموارد المالية كبديل عن الضرائب، وسيُحفِّز التصنيع في أمريكا، في حين يتجاهل أن حرب الضرائب المتبادلة، ستتسبب في الإضرار بالاقتصاد الأمريكي والعالمي، وفي تأجيج التضخم في أمريكا.

عَمد ترامب في خطابه إلى استخدام إسقاطات من خلال تجربته كمستثمر عقاري مغامر، ولاعب جولف، على خيارته السياسية وأسلوبه في الحكم؛ حيث تعاطى مع قضية أوكرانيا كصفقةٍ تجاريةٍ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متجاهلًا إرادة أوكرانيا وحكومتها وحليفته أوروبا. ولم يرَ حرجًا في مطالبة أوكرانيا بمنح أمريكا نصف إنتاجها من المعادن النادرة، مقابل ما قدمته من مساعدات عسكرية ومالية، والتمويل مستقبلًا لإعادة إعمار ما خلفته الحرب من دمار، والنهوض بالاقتصاد الأوكراني، وفي ذات الوقت يُدر المليارات على أمريكا، فيما يعتبره صفقة رابحة.

تفاخر ترامب بإصداره عفوًا رئاسيًا عن المجرمين المتورطين في اقتحام الكونجرس في 6 يناير 2020، بتحريض منه، بعد فشله في الانتخابات الرئاسية، إضافة إلى محكومين متورطين معه قي قضاياه الجنائية. وكرر ادعاءاته مجددًا بأن انتخابات 2020 والتي خسرها كانت مزورة، وكذلك الأمر في انتخابات 2024، لكن اكتساحه لها حال دون فوز منافسته الديمقراطية كمالا هاريس.

وعاد لتكرار السخرية من خصومه في السباق الانتخابي، وأولهم الرئيس السابق جو بايدن ونائبته كمالا هاريس، ووصفهما بأقذع الصفات، وتعمد الحط من شخصياتهم بشكل معيب. وهاجم بقسوة وسائل الإعلام التي تنتقده ومقدمي برامجها، واستهزأ بشخصيات إعلامية مرموقة. وفي ذات الوقت فإن الاعلام المنافق رفع ترامب إلى مكانة أعلى من مؤسس أمريكا الرئيس جورج واشنطن.

وقد تبارى المسؤولون الذين عيَّنهم ترامب في المواقع القيادية في كلماتهم، في كيل المديح له، ووصفه بالإنسان الخارق، وأعظم رئيس في تاريخ أمريكا؛ مما يدل على جنون العظمة لدى ترامب، وحبه للنفاق؛ بل إن أحدهم رشحه لنيل جائزة نوبل للسلام؛ تقديرًا للصفقة التي يسعى لإبرامها مع بوتين لإنهاء حرب أوكرانيا.

من الواضح من خلال ما عرضه ترامب وكبار المتحدثين أمام المؤتمر أن الإدارة اليمينية الحالية بقياده ترامب ومهندسها إيلون ماسك، تعمل على إحداث تغيير عميق وشامل في المجتمع الأمريكي، والبنية السياسية والنظام السياسي والاقتصادي وبنية الدولة الفيدرالية والمحلية وتركيبة ودور الأجهزة العسكرية والأمنية، وبالطبع النظام العالمي والعلاقات الدولية والشرعية الدولية التي انبثقت بعد الحرب العالمية الثانية.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

إلغاء حق المواطنة بالولادة في أمريكا.. تعقيب جديد من المحكمة على طلب ترامب

(CNN)-- وافقت المحكمة العليا، الجمعة، على البت في دستورية محاولة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إنهاء حق المواطنة بالولادة بأمر تنفيذي، مما أتاح للقضاة فرصة لإعادة النظر في ما يُعتبر قانونًا راسخًا منذ القرن التاسع عشر.

وبقبول الاستئناف، تتناول المحكمة بشكل مباشر جوهر جدل تجنبته إلى حد كبير في وقت سابق من هذا العام، عندما انحازت إلى ترامب لأسباب فنية تتعلق بكيفية تعامل المحاكم الأدنى مع الطعون على السياسة.

وقالت المديرة القانونية الوطنية للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، سيسيليا وانغ، إن المنظمة تتطلع إلى أن "تنهي المحكمة العليا هذه القضية نهائيًا".

وأضافت: "لقد قضت المحاكم الفيدرالية بالإجماع بأن الأمر التنفيذي للرئيس ترامب يتعارض مع الدستور، وقرار صادر عن المحكمة العليا عام 1898، وقانون سنّه الكونغرس".

ورغم أن النظريات القانونية التي طرحتها إدارة ترامب في استئنافها لطالما اعتُبرت هامشية، حتى من قِبل العديد من المحافظين، إلا أن القضية ستجذب مع ذلك اهتمامًا عامًا كبيرًا إلى دورة المحكمة العليا التي بدأت هذا الخريف. إنها اختبار آخر لمدى استعداد المحكمة لتبني حجة قانونية تتجاوز الحدود من البيت الأبيض.

وسيُقلب حكم لصالح ترامب مبدأً راسخًا من مبادئ الدستور وقانون الهجرة الأمريكي، وقد تكون له آثار عملية كبيرة على المواطنين الأمريكيين الذين قد يواجهون عقبات جديدة في توثيق المواليد الجدد.

وستستمع المحكمة إلى المرافعات العام المقبل، ومن المرجح أن تُصدر قرارًا بحلول نهاية يونيو.

وقال محلل شؤون المحكمة العليا في شبكة CNNوأستاذ في مركز القانون بجامعة جورج تاون، ستيف فلاديك، إن إدارة ترامب "أخطأت" ببساطة في مساعيها "لتضييق نطاق حق المواطنة بالولادة بأمر تنفيذي".

سواءً كان ذلك بسبب انتهاكه للقوانين ذات الصلة؛ أو التعديل الرابع عشر نفسه؛ أو تفسير المحكمة العليا الرسمي لعام 1898 لذلك الحكم الدستوري، فإن النتيجة واحدة، وبعد عقدين من التصديق على التعديل الرابع عشر عام 1868، قضت المحكمة العليا في قضية الولايات المتحدة ضد وونغ كيم آرك بأن الأشخاص المولودين في الولايات المتحدة - وهم في تلك الحالة أبناء المهاجرين الصينيين - يستحقون الجنسية الأمريكية، مع استثناءات محدودة. لكن إدارة ترامب جادلت في استئنافها بأن السابقة القانونية قد أُسيء فهمها منذ فترة طويلة.

ورغم فهم بند الجنسية المنصوص عليه في رأي عام 1898، أبلغت إدارة ترامب المحكمة العليا في استئنافها أن هذا المفهوم "خاطئ" وأن لهذا الرأي "عواقب وخيمة"، وقد جعل ترامب إنهاء حق المواطنة بالولادة جزءًا أساسيًا من أجندته المتعلقة بالهجرة.

وقال المحامي العام، جون ساور، وهو كبير محامي الاستئناف في الإدارة الأمريكية، للمحكمة العليا في الاستئناف: "تم اعتماد بند الجنسية في التعديل الرابع عشر لمنح الجنسية للعبيد المحررين حديثًا وأطفالهم - وليس لأطفال الزائرين المؤقتين أو الأجانب غير الشرعيين".

ويذكر أنه وفي حين أصدرت المحكمة العليا قرارًا هامًا في يونيو/ حزيران تطرق إلى أمر ترامب المتعلق بحق المواطنة بالولادة، ركزت تلك القضية على مسألة إجرائية تتعلق بمدى سلطة المحاكم الأدنى في وقف سياسة ينفذها رئيس، وقد حدّت أغلبية المحكمة، التي بلغت 6-3، بشكل أساسي من سلطة المحاكم في عرقلة مثل هذه السياسات، لكنها لم تُلغِها تمامًا.

مقالات مشابهة

  • نجل الرئيس الأمريكي: ترامب قد ينسحب من دعم أوكرانيا
  • المبعوث الأمريكي: ترامب استقر على منح الفرصة للشرع رئيسًا لسوريا
  • وزير الخارجية يلتقي رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية
  • المبعوث الأمريكي: ترامب لديه رؤية واضحة لمنح الرئيس السوري الفرصة لإدارة بلاده
  • معلومات الوزراء: 58% من الأمريكيين يرون الذكاء الاصطناعي يمثل تهديدًا للاقتصاد الأمريكي
  • يكرهه الجميع من ضمنهم دونالد ترامب.. ما قصة هذا المطار في أمريكا؟
  • وزير الخارجية والهجرة يلتقي رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية على هامش منتدى الدوحة
  • على هامش مؤتمر اتحاد منظمي الرحلات USTOA.. وزير السياحة يلتقي قيادات كنسية في أمريكا
  • إلغاء حق المواطنة بالولادة في أمريكا.. تعقيب جديد من المحكمة على طلب ترامب
  • بمشاركة 60 مفكرًا عالميًا.. انطلاق أعمال مؤتمر الفلسفة في الرياض