(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) «الأنبياء:17».. هذه الفئات الدينية التي تكلم عنها القرآن، وهي الموجودة في جزيرة العرب حين تنزّله، وتنقسم إلى قسمين: موحِّدة لله، وغير موحِّدة له، يقول الله في الموحدين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) «البقرة:62»، ويقول في المشركين: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْما عَظِيما) «النساء:48»، والقرآن.
المقال.. يتحدث عن النصارى من خلال القرآن، ويمايز بين النصرانية والمسيحية، باعتبار أن الأولى طائفة مؤمنة بالله؛ وإن خالطها «انحراف إيماني»، أما الثانية فليست مؤمنة، وقد حذّر القرآن من معتقداتها دون أن يذكرها بالاسم؛ كما سنرى في مقال قادم.
انقسم اتباع المسيح عيسى بن مريم منذ وقت مبكر إلى «دينين مختلفين»:
- النصارى.. الذين اتبعوا المسيح من اليهود، وهؤلاء نظروا إليه بأنه جاء لخلاص اليهود، وهو المسيح المنتظر لديهم، وهم موحدون لله والمسيح بشر كغيره. وقد انحسرت النصرانية لعدم تبنيها من الدول، وتعرض أتباعها للاضطهاد؛ خاصة من قِبَل المسيحيين، ولتحولهم كثير منهم إلى الإسلام.
- المسيحيين.. الذين اتبعوا بولس «شاؤول» (ت:67م)، قائد في الجيش الروماني ومؤسس المسيحية، وهؤلاء نظروا إلى المسيح بأنه جاء لخلاص البشرية بأسرها من خطاياها، وبأنه ذو طبيعة إلهية.
ورد في القرآن.. النصارى بالجمع دون الإفراد، وهي تسمية معروفة منذ نشأتهم، قيل في سببها: لأن المسيح من مدينة الناصرة. وقيل: عائدة إلى يهود الناصرة الذي آمنوا بالمسيح في حياته، فهم تلاميذه، وبلغة القرآن: حواريوه. ويذكر القرآن مصطلحا قريبا من هذه التسمية وهو الأنصار: (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) «آل عمران:25»، وأيا كان سبب التسمية؛ فالقرآن يعتبر من آمن به في حياته أنصارا، فالنصارى.. هم من سار على درب أنصار الله الحواريين.
القرآن.. تحدث عن النصارى على ثلاثة مستويات:
- الثناء عليهم.. وحيث إن الله في القرآن لا يمدح غير المؤمنين به من دون أن يشركوا به شيئا؛ فالرهبان والقسيسون الذين أثنى الله عليهم مؤمنون حقا: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) «المائدة:82-85»، فهؤلاء القسيسون والرهبان النصارى يؤمنون بالله ويقرّون بوحدانيته، ويعرفون بأن ما أنزل على محمد من طبيعة ما جاءهم عن الله، وبحكم القرآن.. هؤلاء مسلمون قبل البعثة المحمدية، وإليهم يشير بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) «النحل:43-44».
هؤلاء الموحدون من أهل الكتاب؛ النصارى -بالإضافة لليهود- يتقبل الله أعمالهم؛ ولذلك؛ يدعوهم القرآن إلى أن يقيموا كتبهم؛ التوراة والإنجيل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانا وَكُفْرا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) «المائدة:68-69». لقد تحدثت في مقال «الإسلام وأهل الكتاب.. الكتب المنزلة» نشرته جريدة «عمان» بتاريخ: 2/ 4/ 2024م، بأنه لا يوجد نص في القرآن يدل على تحريف التوراة والإنجيل التي يشير إليها، وهي ليست الموجودة اليوم بيد اليهود والمسيحيين؛ فهذه لم يتحدث عنها القرآن، وفي مقال قادم سأتحدث عن «إنجيل.. البعثة المحمدية».
- ذمهم.. في مقابل الثناء؛ فإن القرآن يذم النصارى كذلك، وذمهم بسبب وقوعهم فيما وقع فيه أسلافهم من اليهود، ولذلك؛ يأتي الربط بينهما. من القضايا التي ذمهم عليها.. أنهم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما شرعوا لهم من دون الله، واعتبره من اتخاذ الأرباب: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَها وَاحِدا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) «التوبة:31-32».
وذمهم القرآن في احتكارهم الحق: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) «البقرة:111-112». فالإسلام.. ليس انتماء طائفيا، ولا اسما شكليا، وإنما هو حقيقة التوحيد لله والعمل الصالح، بغض النظر عن الاسم المُتسمى به أو النبي المُتبع، فالأنبياء.. كلهم مسلمون وكذلك من أتبعهم بحق، ولذلك؛ حذر القرآن الأمة المحمدية من السير على نهج النصارى -واليهود- ومن التفريط بما جاء من عند الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) «البقرة:113».
وهم -بحسب القرآن- لا يتبعون الهدى، وإنما يتبعون الهوى، فحذّر الله نبيه محمدا من ترك العلم الذي جاءه بتوحيد الله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) «البقرة:120».
- الاختلاف العقدي.. على رغم ما عابه القرآن على النصارى من صفات ذميمة، واتخاذهم الرهبان أربابا يشرعون لهم من دون الله؛ فإنهم ظلوا على أصل التوحيد واعترافهم بالإنجيل المنزل على عيسى. بيد أن العقائد المسيحية تسربت إليهم، من ذلك قولهم بأنه ابن الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) «التوبة:30». إن اليهود والنصارى وهم يقرون بوحدانية الله لم يتورعوا عن القول بأن لله ابنا. وهذه قضية اختلط فيها الأمر، فهناك من يعتبر البنوة تعبيرا عن الخضوع لله والقرب منه، ومنهم من يعتبرها امتدادا للصفات الإلهية من «الأب» إلى «الابن»، والقرآن يبيّن أن هذا مجرد قول من النصارى، ولأنه أصبح معتقدا عند من سبقهم كما -هو الحال لدى المسيحيين- فقد نهاهم عنه.
وهكذا سار النبي محمد -بحسب القرآن- على طريق الأنبياء السابقين، إذ جاء ليكمل الدين، ويبيّن ما اختلف فيه أتباعهم، وينهى عمّا يمس توحيد الله، فنهاهم عن القول بأن لله ابنا في حق المسيح، رغم أن هذا الإطلاق لم يكن مختصا به المسيح، وإنما هو استعمال سائر على جميع الناس: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) «المائدة:18». وجاء في «إنجيل متى»: (طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم يُدْعَون أبناء الله).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی القرآن
إقرأ أيضاً:
مئات الحاخامات اليهود يطالبون إسرائيل بوقف التجويع وقتل المدنيين
وقّع مئات الحاخامات اليهود من مختلف أنحاء العالم، الذين يتبعون تيارات دينية متعددة، على رسالة تدعو إسرائيل إلى وقف استخدام التجويع كسلاح حرب.
وحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أمس الأحد، فإنّ مئات من الحاخامات (رجال دين يهود) في مختلف أنحاء العالم وقعوا على رسالة، جاء فيها أنّ "الشعب اليهودي يواجه أزمة أخلاقية خطيرة".
وأوضحوا في الرسالة: "لا يمكننا أن نغض الطرف عن القتل الجماعي للمدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن، أو استخدام التجويع كسلاح حرب".
ووصفت الرسالة ما اعتبرته "تقليص المساعدات الإنسانية إلى غزة"، ومنع الغذاء والماء والأدوية عن المدنيين، بأنه "يتعارض مع القيم اليهودية الأساسية".
ورغم تأكيد الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن إسرائيل تتسبب في تجويع الفلسطينيين في قطاع غزة، فإن حكومة بنيامين نتنياهو زعمت تنفيذ إجراءات لتسهيل دخول المساعدات، منها فتح ممرات جديدة وإلقاء مساعدات من الجو وتحديد فترات وقف إطلاق نار مؤقتة.
كما انتقدت الرسالة سياسات الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية، ودعت إلى وقف عنف المستوطنين وملاحقة المعتدين من بينهم.
واختُتمت الرسالة بالدعوة إلى حوار يضمن الأمن للإسرائيليين، والكرامة والأمل للفلسطينيين، ومستقبلًا سلميا للمنطقة.
وتأتي الرسالة في ظل تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية نتيجة استفحال المجاعة بالقطاع وتحذيرات من خطر موت جماعي يهدد أكثر من 100 ألف طفل في القطاع.
ويعيش قطاع غزة إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه وفي التاريخ المعاصر، حيث تتداخل حالة التجويع القاسية مع حرب إبادة جماعية تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومع الإغلاق الكامل للمعابر ومنع دخول الغذاء والدواء منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، تفشت المجاعة في أنحاء القطاع، وظهرت أعراض سوء التغذية الحاد على الأطفال والمرضى.
إعلانوتشن إسرائيل بدعم أميركي حرب إبادة جماعية بغزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة، بدعم أميركي، أكثر من 204 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.