سعيد ذياب سليم
في الصباح، حينَ يبدأُ النورُ بالانتشارِ، يكونُ الهواءُ محمَّلًا بالرُّطوبةِ، وقطراتُ النَّدى تتكثَّفُ على أوراقِ الشَّجرِ. في هذا السُّكونِ، حيثُ تقلُّ الضَّوضاءُ، تصدحُ العصافيرُ بأصواتٍ واضحةٍ، كأنَّها تهمسُ بأسرارِ الفجرِ.
هلِ انتبهتَ يومًا لصَخَبِ العصافيرِ عندَ الفجرِ؟ عَمَّ تتحدَّثُ؟ هل فاجأها خبرٌ مثيرٌ؟ أم أرعبَها أمرٌ غامضٌ؟ أم أنَّها ببساطةٍ تثرثرُ بأسرارِنا، نحنُ الكائناتِ العُليا؟ لعلَّ هذا ما يجعلُها تُقيمُ مستعمراتِها قُربَ البشرِ.
أتراها تُغنِّي جزءًا من طقوسِها الطَّبيعيَّةِ؟ وسيلةً للتَّواصلِ، لجذبِ الشَّريكِ، أو للدِّفاعِ عن موطنِها؟ أم أنَّ أصواتَها تحملُ أكثرَ من ذلكَ؟ هل تُغنِّي احتفالًا بالحياةِ؟
ربَّما تُناقشُ أفضلَ الطُّرقِ لصَيدِ الحشراتِ. أو تُفكِّرُ فيما ترجوهُ قبلَ أن تنطلقَ في رحلتِها اليوميَّةِ: مكانٍ آمنٍ، طعامٍ وفيرٍ، شريكِ حياةٍ متفهِّمٍ. هل تُدركُ تلكَ المساحةَ الشَّاسعةَ التي تمتلكُها بينَ السَّماءِ والأرضِ؟ هل تشعرُ بحُريَّةٍ قد نفتقدُها نحنُ؟
لعلَّها تفعلُ مثلَنا تمامًا، تستمعُ إلى موسيقاها الصَّباحيَّةِ، وترتشفُ فنجانًا من قهوتِها، بينما تُتابعُ أهمَّ الأخبارِ على منصَّاتِها الاجتماعيَّةِ الخاصَّةِ. فالعصافيرُ كائناتٌ اجتماعيَّةٌ، مثلَنا تمامًا.
لكن، لماذا نستخفُّ بأحلامِها، ونظنُّها زهيدةً؟ حتى صارتْ أحلامُ العصافير مرادفا للبساطةِ والتَّفاهةِ؟ وهلْ أحلامُنا، حقًّا، أكبرُ؟
هناكَ طائرٌ يعيشُ بينَنا، لكنَّهُ مختلفٌ قليلًا. العصفورُ الورديُّ السِّينائيُّ، الطائر الوطني للأردن، لا يهاجرُ بعيدًا، بلْ يدورُ في الأفقِ ذاتِه، يطيرُ بينَ الجبالِ والوديانِ، كأنَّهُ يحرسُ أرضًا يعرفُها جيِّدًا. هل أخذَ من البتراءِ لونَها؟ أم أنَّهُ جزءٌ من أسطورةٍ ترويها الأمهاتُ لأطفالِهنَّ قبلَ النَّومِ، عن أميرٍ نبطيٍّ مسحورٍ؟ تروي الأسطورةُ أنَّ ساحرةً ألقتْ عليهِ تعويذةً، فصارَ عصفورًا ورديًّا بلونِ المدينةِ. ومنذُ ذلكَ اليومِ، وهو يطوفُ في سمائِها، يهبطُ إلى الصَّحراءِ، ثمَّ يعودُ، منتظرًا لحظةً يتحرَّرُ فيها منَ السِّحرِ. فإذا زرتَ البتراءَ يومًا، ورأيته يحلقُ فوقَ صخورها الوردية، فلا تتعجل بالمضيّ، فقد يكونُ في انتظارهِ رسالةٌ لم تصلْ بعد.
ألمْ ترَ طفلةً صغيرةً تقفزُ حولَ والدِها، تُغرِّدُ بلغتِها الخاصَّةِ، تطلبُ دُميةً أو قطعةَ حلوى؟ وحينَ يَعِدُها، تدورُ حولَهُ بسعادةٍ. تكبُرُ أحلامُها، فتصيرُ فستانًا، ثمَّ حقيبةً مدرسيَّةً، ثمَّ مقعدًا جامعيًّا. أليستْ هذهِ الأشياءُ، كما الضَّوءُ والماءُ والهواءُ للعصفورِ؟
وذلكَ العجوزُ، ما زالَ هناك، خلفَ زجاجِ نافذته، يتابعُ الحياةَ كغريبٍ في مشهدٍ مألوف، علّ رسالةً عابرةً تُذكرهُ بأنهُ لا يزالُ هنا. أليستْ هذهِ أيضًا بعض أحلامِ العصافيرِ؟
لطالما لجأ الإنسان إلى إسقاط مشاعره وحكمته على عالم الحيوان، فجعل منها أبطالًا لحكاياته، كما نرى في تراث الهند واليونان
لا بدَّ أنَّ بيدبا، الفيلسوفَ الهنديَّ، قدِ استوقفَهُ هذا الصَّخَبُ الصَّادرُ عن العصافيرِ، فأطلقَ لخيالِه العنانَ، ووضعَ كتابَه “كليلةَ ودِمنةَ”، تحدَّثتْ فيه الطُّيورُ والحيواناتُ، فهذهِ الحمامةُ المطوَّقةُ، تحُضُّ صويحباتِها على التَّعاونِ، فتحلِّقُ بهنَّ في الهواءِ، متَّحدةً في قوَّتِها، ممَّا يساعدُها على النَّجاةِ من الصَّيادِ. وتلكَ الغربانُ التي اتَّحدتْ لتوقِعَ بالبُومِ، مستخدِمةً الخِداعَ والدَّهاءَ. وفي قصة الأسد والثور، يتلاعب دمنة بمكرٍ ليوقع بين الأسد وصديقه الثور، فيدفع الثور ثمن المؤامرة غدرًا. تكشف هذه القصة كيف يمكن للخداع أن يقلب موازين القوة، حيث تصبح الثقة المفرطة مدخلًا للهلاك.
حكاياتها المليئةُ بالحِكمةِ والموعظةِ تُذكِّرُنا بأنَّ لكلِّ كائنٍ أمَّةً، كما قالَ تعالى:
﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرضِ ولا طائرٍ يطيرُ بجناحَيهِ إلَّا أُمَمٌ أمثالُكُم﴾ (الأنعام: ٣٨)
مما يعكسُ حكمةَ بيدبا في ربطِ الحيواناتِ بالبشرِ في فلسفتِه.
لم تكن هذه القصص الرمزية مقتصرة على التراث الهندي وحده، فقد لجأت ثقافات أخرى إلى تصوير القيم الإنسانية عبر حكايات الحيوانات، كما نجد في حكايات إيسوب.
وكما فعلَ بيدبا، استخدمَ إيسوبُ أيضًا الحيواناتِ في حكاياتِه الرَّمزيَّةِ، حيثُ اشتهرَ بأسلوبِه في ترسيخِ القيمِ الأخلاقيَّةِ من خلالِ تصرُّفاتِها. تهدِفُ حكاياتُه، مثل “الغُرابِ والجُبنِ” حينَ احتالَ عليه الثَّعلبُ وأوهمَهُ أنَّ لهُ صوتًا جميلًا، و” الأسدِ والفأر ِ” التي تُثبتُ أنَّ لكلِّ شخصٍ دورَهُ وإنْ كانَ صغيرًا، إلى نقلِ دروسٍ حياتيَّةٍ عن التَّعاونِ، والصدقِ، وأهمِّيَّةِ الصِّفاتِ البشريَّةِ من خلالِ تصرُّفاتِ الحيواناتِ.
لماذا نعتقدُ أنَّ أحلامَها صغيرةٌ، بينما قد تكونُ أكثرَ نقاءً وصدقًا من أحلامِنا؟ أم أننا لا نلتفت لأحلامنا إلا حين نجدها خلف قضبان غير مرئية؟
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
فرق الدفاع المدني السوري في معبر بصرى الشام الإنساني تواصل مهامها في تسهيل دخول المساعدات والمدنيين إلى محافظة السويداء
2025-07-30Belalسابق أحلام البسطاء تنسج حكايات مجموعة “خطوة لليأس خطوتان للأمل” انظر ايضاًأحلام البسطاء تنسج حكايات مجموعة “خطوة لليأس خطوتان للأمل”دمشق-سانا تنتمي شخصيات المجموعة القصصية “خطوة لليأس.. خطوتان للأمل” الصادرة حديثاً للكاتب جهاد زريق بجولة،
آخر الأخبار 2025-07-30اللاذقية… تنظيم الأكشاك لتحسين الواقع الخدمي والجمالي 2025-07-30وزير التربية يتفقد مراكز لتصحيح الامتحانات في حمص ويطّلع على واقع ترميم المدارس المدمرة 2025-07-30وزارة الاتصالات تعلن عودة سوريا إلى منظومة الاتصالات العالمية 2025-07-30دخول قافلة محروقات تحمل 120 ألف ليتر إلى محافظة السويداء-فيديو 2025-07-30ورشة عمل لإدراج قطاع النقل البري في دراسات التخطيط الإقليمي 2025-07-30وزير الطاقة التركي: سنزوّد سوريا بالغاز الأذربيجاني اعتباراً من 2 آب 2025-07-30الموارد المائية بحماة تباشر تركيب محطة رصد مناخي في سلمية 2025-07-30محافظة دمشق: بدء نقل مكب النفايات في باب شرقي إلى موقع بديل 2025-07-30المالية: استئناف منح براءات الذمة لنقل الملكيات العقارية بدءاً من الأحد المقبل 2025-07-30اليونيسف وبريطانيا توقعان اتفاقية لتقديم خدمات المياه للاجئين السوريين في الأردن
صور من سورية منوعات دب يتسبب بإغلاق مطار باليابان وإلغاء رحلات جوية 2025-07-30 اكتشاف بصمة يد عمرها 4 آلاف عام على أثر طيني مصري 2025-07-28
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |