منذ أن عرفناه تميز الراحل عمر التنقاري بحسن الهندام سواء كان بالزي البلدي أو الافرنجي مع جودة الكلام والصوت الهادئ المقرون بالرزانة والوقار والعمق والدفيء وطيب المعاني وهذا العشق عنده للترتيب والنظام ووضع الأمور في نصابها في إتقان واتزان !!..
قبل أن يشد الرحال الي مصر المحروسة لإكمال دراسته الثانوية والدخول الي كلية دار العلوم كان له في المسلمية شأن واي شأن فقد وضعهم هو وزملاء له شيخنا العلامة الفضيل حامد النذير في طريق اللغة العربية الصحيح والدراسات الاسلامية المعمقة وهم بعد في مرحلة الوسطي في المعهد العلمي الذي كان مديره ومعه ثلة من المعلمين الاخيار المتمكنين من لغة الضاد والفقه وأصول الدين .

.. الشيخ الفضيل كان يواصل رسالته التعليمية من المسجد بعد الفراغ من اليوم الدراسي بالمعهد وكانت له حلقة مشهورة في داخل المسجد يغشاها الكبار والصغار وظل في هذه الحال وقد استفادت منه المسلمية كثيرا علما وتفقها الي أن تم نقله إلي مدينة ود مدني مديرا لمدرسة النيل الازرق الثانوية بعد أن ادمجت المعاهد العلمية مع مدارس التعليم العام !!..
حدثني الأستاذ كمال كوكو استاذ اللغة الإنجليزية في الكاملين الثانوية وهو من أبناء الكاملين أن الراحل عمر التنقاري إبان انتدابهم للعمل في ليبيا تعرف عليه عن قرب وأكثر شيء أعجبه في الراحل عمر هو تلك المقدرة العجيبة في ارتجال الخطاب دون ورقة أو اي عامل مساعد وهي مهمة تحتاج إلي حضور كامل وفكر حاضر وحسن تصرف وبلاغة وشجاعة وثقة كبيرة في النفس ومعرفة المرء بقدراته وملكاته الكامنة فيه ليتحف الحضور بسحر بنت عدنان وجاذبيتها التي شع نورها وغمر الأكوان !!..
كانت المسلمية تنتظره وهو يعود إليها في إجازته من القاهرة ويوم يصعد المنبر بعد صلاة الجمعة يحدث المصلين عن العلم النافع بلغة تهفو لها القلوب بما فيها من سحر البيان والكلم منه ينحدر عفو الخاطر سلسبيلا مثل الغيث الهطال !!..
وكم هي محظوظة المسلمية بأبنائها البررة الذين درسوا في جامعات مصر وازهرها الشريف ومنهم الأستاذ الراقي ابراهيم محمد حسن وكانت له أيضا صولات وجولات في المنابر وكانت الجموع تنظره بفارغ الصبر لتري البلاغة والفصاحة والنباهة تقف أمامهم علي رجليها في مسجد المسلمية العتيق وكان هنالك أيضا الأستاذ صديق ابراهيم عمر الذي عمل في معظم المدارس الثانوية في السودان وعمل في جامعة أم درمان الأهلية بكل مايحمل من علم ثر في لغة الضاد والفقه وأصول الدين .
كانت لنا مدارس ثانوية مليء السمع والبصر ومنها المدارس القومية الشهيرة وادي سيدنا وحنتوب وخور طقت وكان المعلم كالجندي جاهزا للعمل في أي بقعة ينقل إليها حتي ولو كانت منطقة شدة يمكن أن يقل فيها الماء !!..
عمل الراحل في مدرسة أم كدادة في دارفور الحبيبة ومن الطرائف التي أوردها عن فترة إقامته هنالك أن الماء يتجمد في الازيار في فصل الشتاء وان المسافرين في تلك الربوع إذا باغتتهم عاصفة باردة فليس لهم من الأمر شيء سوي شق حفرة عميقة يدخلون فيها اتقاءا لشرها حتي لا تتيبث أطرافهم ويحصل لهم ما لم يحمد عقباه .
وفي خورطقت المدرسة القومية العريقة قضي اجمل الاوقات وعندما دنا موعد النقل منها الي العاصمة الخرطوم وفي حفل الوداع ارتجل زميل له من المعلمين خريدة عصماء من الشعر الرصين يعدد فيها طيب المعشر وحسن الزمالة والبذل السخي والعطاء الثر الذي كان كان الراحل أحد فرسانه تجاه الطلاب الذين كانوا يكنون له قمة الاحترام .
تحتفظ اختنا العزيزة صفية فضل الله عبد الرحمن قرشي حرم الراحل في ركن هاديء من ذاكرتها والي اليوم رغم تعاقب الأعوام بكافة مفردات هذه القصيدة وترتجلها بكل حماس كلما حانت ذكري مناسبتها التي جسدت قمة الوفاء بين المعلمين في ذاك الزمان الطيب لبعضهم البعض .
وصل الراحل الي مدرسة أم درمان القديمة وكيلا للناظر وكلكم يعرف أن الأستاذة فاطمة طالب الغنية عن التعريف هي التي سودنت وظيفة الناظر بها بعد حمل الاستعمار عصاه ورحل !!..
الأستاذة رشا خريجة القانون والإعلامية الضليعة خاصة في البرامج الحوارية التي تحتاج إلى ملكة في اللغةوحضور ذهني وفكر متقد وتوفر في المعلومة وثقة بالنفس وشجاعة أدبية بلا حدود وهي ابنة الراحل كانت من ضمن طالبات المدرسة إبان تقلد والدها منصب الوكيل وقد عرف عنها وهي طالبة بعد فن القيادة وجودة الخطابة مثل والدها تماما الذي أخذت منه الكثير .
يذكر للراحل مساهماته الكريمة في تأسيس الفصول المسائية للذين لم يجدوا حظهم في الالتحاق بالفصول الصباحية وكانت إدارة هذه الفصول تتعامل معهم علي قدم المساواة برصفايهم النظاميين والرسوم كانت رمزية لا عنت ولا مشقة في تسديدها وقد نجحت هذه الفصول بسبب تفاني وهمة المعلمين الذين كانوا يؤدون هذه الرسالة في تجرد ونكران ذات سائلين الله سبحانه وتعالى أن يمدهم بعون من عنده سبحانه وتعالي .
وكان الراحل من المشرفين علي رحلات المعلمين لمصر وقد استفدت شخصيا من هذه الرحلات وحسنا فعل مستشفي المعلمين هنالك بتوفير الخدمة العلاجية لنا بأسعار رمزية أسوة بأهل البلاد من قبيلة المعلمين ولك أن تتصور أن مقابلة الاخصائيي ويكون غالبا من الأسماء المعروفة بواحد ريال فقط أي عشرة قروش كما أن الرحلة علي متن ناقلنا الوطني الخطوط الجوية السودانية المعروفة بسفريات الشمس المشرقة كانت ذهابا وإيابا الي القاهرة بخمسين جنيه فقط لا غير .
رحم الله سبحانه وتعالى الراحل المقيم عمر محجوب التنقاري وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا والبركة إن شاء الله سبحانه وتعالى في أبنائه دكتور خالد اخصائي الدوبلار والموجات الصوتية والأستاذ الجامعي ، الدكتور محمد نابغة الرياضيات والاستاذ الجامعي أيضا وأحمد ومحمود الذين نشطا في مجال التجارة والاقتصاد ورشا التي تفوقت في مجال الإعلام وتركت بصمتها علي الشاشة وعلي المايكروفون.
البركة إن شاءالله في حرم الراحل صفية فضل الله عبد الرحمن قرشي وقد تحملت العبيء الكبير بعد رحيل زوجها وشمرت عن ساعدها ولم تدخر وسعا في أن تري أبنائها أسماء في حياتنا ولم يخذلوها وقد كانوا عند حسن الظن حفظهم الله سبحانه وتعالى وسدد خطاهم في طريق الخير والصلاح الذي مشي فيه الراحل والدهم عمر محجوب التنقاري.

حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الله سبحانه وتعالى الراحل عمر

إقرأ أيضاً:

لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟

لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟
لأنها صناعة الإنجليز الذين لم يدخلوا السودان كمستعمرين ولكن تلبية لمطالبة الآلف من السودانيين الذين كانوا يعيشون تحت وطأة الظلم والفقر والحكم القسري للخليفة عبد الله الذي أنقلب على وصايا الامام المهدي. دولة 56 هي التي بدأت بإنهاء حكم الخليفة عبد الله التعايشي الذي نقض عهد المهدي وانقلب على الخلفاء وكان ينتوي توريث ابنه بإيعاز من أخيه يعقوب. لم تكن دارفور نفسها خاضعة التعايشي آنذاك بل كانت أركان المهدية تقوم على جيش يتكون من مجموعة جيوش بولاءات مختلفة فحسب الوثائق البريطانية للعام 1891 في ارشيف السودان بجامعة درم البريطانية كان جيش الخليفة يتكون من 46 الف مقاتل منهم
8000 تعايشة
12000 رزيقات
3000 حمر وهولاء يعتبرونه الخليفة عبد الله قائدهم المباشر
10,000 جعليين
8000 من قبائل متفرقة من مديرية بربر
7000 من دنقلا وهولاء يعتبرونه الخليفة محمد شريف قائدهم المباشر
3000 من عرب كنانة وهؤلاء يعتبرون الخليفة علي ود الحلو قائدهم المباشر.
وطبعا الجميع يعلم أن تمردا قد قام في امدرمان ضد الخليفة في العام 1892 بقيادة الخليفة شريف ومجموعة من عمد بربر احتجاجا على الضرائب ومصادرة الأراضي وغيرها من الإجراءات التعسفية التي فرضت عليهم و المواطنين في مناطقهم. مجموعة من العمد كانت قد سافرت إلى مصر ونقلت احتجاجاتها وتذمر المواطنين وقد أخمد الخليفة عبد الله التمرد و حبس الخليفة شريف. هذة الوثائق طويلة ويمكن الرجوع لها في الرابط ادناه. ولكن الشاهد فيها إن الجلابة الذين يتم اتهامهم بإحتكار الامتيازات التاريخية هم في الواقع من كانت ترتكز عليهم الدولة المهدية ولكن والصراعات الداخلية التي حدثت نتيجة لسوء اداراة الخليفة عبد الله ورغبته في توريث الحكم هي ما عجلت بسقوط حكمه على يد الإنجليز لتتأسس دولة 56 على انقاض المهدية.
سبنا امام

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • «مثل أطفالنا».. حديث مؤثر بين «الربيعة» ووالدة التوأم السيامي السوري
  • طوال العامين الماضيين ظللت أعتذر عن دعوات الزواج التي قدمت لي من الأهل والمعارف
  • لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟
  • أحلام تعيد ذكريات الزمن الجميل في مهرجان جرش “فيديو وصور”
  • ناشطات وإعلاميات في حديث خاص لـ(الأسرة): الإمام زيد -عليه السلام-.. وعي وبصيرة وجهاد وثورة أوقدت ثورات
  • يسري جبر: حديث السقاية يكشف عن تكريم المرأة وإثبات حقها
  • منتدى سفراء لبنان: ننعى ببالغ الاسف الوزير والسفير الراحل عبدالله بو حبيب
  • ما هي أحب الأعمال وأفضلها في الأشهر الحرم؟.. أستاذ حديث يرد
  • حسين خوجلي: للمرة الخامسة يطلقون إشاعة لمغادرتنا لهذه الفانية (خمسة مرات يا مفترين)
  • محافظة درعا تستقبل ٢٤٨ شخصاً من العائلات التي كانت محتجزة في السويداء