شبكة اخبار العراق:
2025-12-09@18:11:21 GMT

عندما لا تبلغ الحكومة سن الرشد

تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT

عندما لا تبلغ الحكومة سن الرشد

آخر تحديث: 19 مارس 2025 - 11:30 صبقلم:علي الكاش ذكر سليمان فائق عن أحوال العراق عام 1831 م ” إن الدولة العراقية كانت ترى المخلص ذليلا، والخائن المهين في أعلى المراتب، وأرقى المنازل، مما أدى إلى فتور الهمم، بل موت العزائم”. (مرآة الزوراء).
لا نحيد عن الحقيقة إذا قلنا أن الشعب العراقي في ظل الظروف الحالية القاسية التي يعيش فيها من جهة وفشل الحكومة ومجلس النواب العراقي في تنفيذ العهود التي قطعوها على أنفسهم وأقسموا على تنفيذها فحنثوا بقسمهم ولا عجب، فقد تبين ان الأحزاب الإسلامية اقل ايمانا من الأحزاب الملحدة من جهة ثانية، كما ان الشعارات التي طرحوها خلال توليهم مسؤولياتهم الرسمية كانت فارغة المحتوى، بل ولدت نوعا من أزمة الثقة بين تلك الأحزاب السياسية والشعب العراقي.

لا شك أن الشعب العراقي يتحمل جزءًا كبيرا من المسؤولية في الوضع الذي وصل اليه من خلال الولاء المطلق لتلك الأحزاب لأسباب طائفية وعنصرية وشراء الذمم، من خلال الانتخابات والاستفتاءات السابقة، وتأثير المرجعيات المرجعيات الدينية حيث انقادوا انقياد القطيع لها دون تبصر او تفكير، تحت يافطات رفع الحيف عن الشيعة والأكراد وترويج قيم الديمقراطية والوعود المعسولة بتوزيع الثروات عليهم كغنائم وليس ثروة وطنية عامة تخص كل الشعب بلا استثناء
كشفت الظروف أن الولاءات كانت بنزعة طائفية وقومية اتسمت بهامشيتها وسطحيتها وآنيتها، فهي أشبه بالبراكين الثائرة من حيث اندفاع سيولها ولكنها لن تلبث طويلاً فتهمد وتخبوا وترجع الى الهدوء والسكينة. ان التأريخ يحدثنا بالكثير من الولاءات الشعبية السريعة التي خرجت عن إطارها الطبيعي لتتحول الى تيارات معاكسة أو تتشتت في اتجاهات متباينة، وقد تشكل خطورة الى حد ما إذا كانت الاتجاهات متعارضة مع مصلحة البلد وتهدد بدفعه الى حافة الانهيار، بمعنى أن الدروس المستقاة من التأريخ تتطلب من الشعوب أن تأخذ التغييرات الكبرى والانعطافات التأريخية في مسارها بنوع من الترقب والحذر قبل أن تقدم ولائها المطلق لآية جهة كانت وتحت أية مسميات دينية او سياسية، وكلما قدمت الشعوب الولاءات بشكل تدريجي يتوافق مع المنطق السليم ومصلحتها، كلما كانت النتائج أفضل، لأنها تتيح الفرصة المناسبة لملامسة الإنجازات والتغيرات النوعية والكمية المتحققة، ومدى إمكانية نقل الشعارات من الخانة الكلامية الى الخانة العملية، من المثالية الى الواقعية، عند ذاك يكون ردّ الفعل الشعبي تجاه القوى الحاكمة متناسباً طردياً مع إنجازاتها، فتزداد نسبة الولاء والثقة بها مع تزايد إنجازاتها للشعب، والعكس صحيح.
ربما هذا الأمر يقودنا الى الرجوع الى قراءات سابقة قد تنفع في عراق اليوم، ولعل كتاب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو المسمى ( العقد الاجتماعي) يمثل أفضل دراسة للعلاقة بين الحكومة والشعب ويمكن تطبيقها على العراق كنموذج حيّ، فقد اعتبر روسو ان الدولة ترتبط مع الشعب بعقد اجتماعي فالشعب هو الذي أختارها بغض النظر عن طبيعة هذا الاختيار والمؤثرات فيه، لذلك فأنه يتنازل عن بعض حقوقه وحرياته لحكومته، مقابل ذلك تفرض الحكومة هيبتها على الشعب من خلال إدارته وتحقيق آماله وطموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وان تحتكر الحكومة العنف في مواجهة ما يهدد الشعب ومصالح البلد. وطالما أن العقد شريعة المتعاقدين فأن أخلال الدولة بواجباتها ومسؤولياتها الوطنية كفيل بأن يدفع الشعب الى نقض الاتفاق معها وركلها الى خارج دفة الحكم والاحترام، وإنشاء عقد جديد مع من هم أجدر واكفأ واحرص على مصالحهم، للحفاظ على مقدراته وثرواته وكرامته. ذكر الجبرتي” يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية”. (عجائب الآثار1/22).
عندما تؤمن الحكومة بعمق جذور شعبها وإصالته وحضارته وقدرته وصلابته وقضيته، يمكنها أن تصمد بوجه المخططات الشريرة سواء كانت مصادرها داخلية أو خارجية! وعندما تؤمن الحكومة بقدرات الشعب الخلاقة وإمكاناته وتوظفها لخدمة الوطن والشعب كوحدة متماسكة وبسياج واحد، فأنها تقترب من قلوب شعبها وكلما قصرت من المسافة بينها وبينه كلما ازدهرت صورتها نوراً في عينه.
عندما تعتبر الحكومة حقوق الشعب اهم من حقوقها، وواجباتها أكبر من واجباته، فأنها يمكن أن تقوده الى برّ الأمان وتحقق أمانيه وتطلعاته الوطنية وتجد قواسم مشتركة تجمعها معه.عندما تدرك الحكومة أن مصيرها هو مصير شعبها، ومصير شعبها هو مصيرها، فأنها يمكن أن تمضي في مشاريعها الوطنية حتى في حالة وجود انحسار جزئي من أطراف شعبية أخرى وهو ما يدعى بالمعارضة.
عندما تبني الحكومة مشروعها الوطني بحقائق على الأرض، فأن البنيان سيكون شديداً ومحكماً ومحصنا يؤمن لها الصمود أمام التصدع والتشقق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أما إذا كان البناء قائماً على أوهام تحييها وتغذيها وتحدد مساراتها أجندات خارجية فأن سقف البناء سيكون ضعيفاً وسينهار على رؤوس ساكنيه شعباً وقيادة.
عندما يتناغم نبض الحكومة مع نبضات الشعب، وتتوحدان في إيقاع واحد جميل، فأن المصلحة الوطنية ستحقق وتتقدم وتنعكس على رفاهية الشعب، ورضاه على حكومته، والعكس صحيح.عندما تكون الحكومة مثل شجرة ضاربة جذورها في اعماق تربة الوطن، وتتغذى بمائه الصافي وتنعم بمناخه الدافئ فأنها ستجود بثمارها وعطائها، وفي نفس الوقت ستجد العناية والعطاء المتبادل ممن تغذيهم، إما إذا كانت قصبة ضعيفة بجذور ضعيفة فأنها ستهتز أمام اية موجة ريح وتنحني وتركع أمامه كلما اشتدت، وسيكون مآلها الموت والتفسخ!
عندما تمتلك الحكومة روحاً عظيمة في المبدئية، ومثل عليا في السمو والتضحية، وبذل الجهود لبث روح التقدم والازدهار فأنها ستتمكن بسهولة أن تتجاوز مخاطر الخطوب والمحن مهما اشتدت مخاطرها، او تقربت منها.عندما يكون أيمان الحكومة بحقوق الشعب مهزوزاً، وتتبرص الفرص للاستفادة من المزايا التي تؤمنها لها قيادتها في الحكم على حساب الشعب، فأنها بذلك ستكون كالطفيليات التي تعيش على سطح البرك والمستنقعات.
عندما تتبنى الحكومة قواعداً لأفكار عبثية وفوضوية مصحوبة بنزعة قومية وطائفية، ولا تمتلك مقومات اخلاقية وثقافية واجتماعية تجعل الشعب يقتدي برجالها، فأن النتائج ستكون وبال مخيف، وعندما لا يتوافق حسها الوطني مع حس الشعب ويتحدان في بوتقة واحدة، فاقرأ الفاتحة على المصالح العليا.
عندما تعامل الحكومة شعبها كعجل تضعه تحت إقدامها وتنحره في مراسم الأعياد وبقية المناسبات على مرأى ومسمع الجميع ،وتقيم منه وليمة دسمة لقوات الأحتلال (الأمريكي والإيراني والتركي في العراق مثلا)، سيلتهم الأعداء الوليمة كلها، ولا يتركوا للشعب حتى فتات الطعام.
عندما تتصرف الحكومة كبائعة هوى تلف جسدها بعباءة وجبة وحجاب واستحياء أمام شعبها، وتخلعها بعد اجتياز أبواب المنطقة الخضراء و ترميها بها تحت الأقدام عارضة جسدها على قوات الأحتلال وعملائه ، بادر الى تحضير كفنها غير مأسوف عليها. عندما نتوخى الوصول الى الحقيقة أمام ما يحدث في العراق، فأنه يسعنا القول أنها مشكلة احتلال ثلاثي (الولايات المتحدة، ايران وتركيا) بغيض بشع الصورة، ومشكلة حكومة طائفية مقيتة بوزارات هزيلة ومجلس نواب يعبر عن نفسه ومصالحه ومزاياه، ولا يعبر عن مصلحة الشعب الذي لم تنتخبه اغلبيته، (نسبة المشتركة في الانتخابات الأخيرة اقل من 18%)، وهي مشكلة شعب متخلف تتحكم به الاهواء الطائفية والقومية والانتهازية، ومشكلة وطن بكل اعتباراته السياسية والجغرافية والتأريخية والاقتصادية والحضارية، ومشكلة ميليشيات إرهابية ذات أجندات خارجية لا يردعها وازع ديني أو أخلاقي أو وطني، بل هي الحكومة العميقة التي تتحكم بكل مقدرات البلد، اما الحكومة الحقيقة فيه اشبه بغطاء بالوعة، تغطي الجيف والطفيليات الولائية. عندما لا تبلغ الحكومة سن الرشد، سيبقى الشعب يدور في متاهة الأعمال والأقوال الصبيانية.
الخاتمة
ذكر ابو حامد الغزالي” قال علىّ بن أبي طالب لجماعته: أأخبركم بارجي آية في القرءان؟
قالوا بلى. فقرأ عليهم سورة الشورى/30 ((وما أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)). (إحياء علوم الدين12/155).

المصدر: شبكة اخبار العراق

إقرأ أيضاً:

عندما يتحوّل الملعب إلى وطن (2)

د. ناهد محمد الحسن

تمهيد:

في الجزء الأول من هذه السلسلة، حاولنا قراءة المشهد الذي أحدثه المنتخب السوداني في بطولة كأس العرب، وكيف تحوّل الملعب إلى «وطن مؤقت» يجتمع فيه السودانيون في الخارج بحثاً عن لحظة أمان وهوية وانتماء، في زمن تفككت فيه الخرائط واشتد فيه تهديد الوجود الوطني. استند التحليل إلى نظريات الهوية الاجتماعية، والذاكرة الجمعية، والجماعات المتخيّلة، لنفهم كيف تصبح المباراة طقساً نفسياً يعيد للناس بعض ما سلبته الحرب منهم. يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من المقال هنا: https://share.google/yHMqkkXOp9p38RdSn

اليوم نواصل محاولة القراءة، ولكن من زاوية جديدة: لماذا أحدثت هذه المشاهد أيضاً لدى البعض غضباً، وسخرية، وتعليقات مريرة؟ ولماذا تحول الاحتفال إلى ساحة اتهامات، ومطالبات بالعودة للوطن، واتهام للجماهير بأنها “تستعرض” بدل أن “تناضل”؟ ولماذا خرج الناس من الملعب بمجرد استشعار الهزيمة و قبل انتهاء المباراة، بكى بعضهم و انهار البعض؟

لماذا يجرح البعضُ الفرحَ، حين يرى آخرين يحتفلون؟

وفقا لنظرية بيك المعرفية في علم النفس فإن المشاعر، الأفكار، الجسد، والسلوك بينهما علاقة وثيقة وتأثيرات متبادلة. فإذا مثلا أرسلت رسالة الى شخص ولم يرد وفكرت في أنه تجاهل رسالتك عمدا فإن هذه الطريقة في التفكير تجعلك تشعر بالضيق، الحزن وربما الغضب. وقد تدفعك هذه المشاعر والأفكار ربما لأن تتحدث عنه بسوء، تتجاهله ذا حدثك او تكون عدوانيا. لكن إذا فكرت ان هذا الشخص مشغول او ربما هو نائم او خارج المنزل او لم يجد وقتا ليرد فستتلاشى المشاعر السالبة وردود الفعل المصاحبة لها. هذا مثال شديد التبسيط فقط لنفهم أحيانا كيف نفكر ولماذا نشعر بهذه الطريقة او نتصرف بهذه الطريقة من منظور هذه النظرية التي تربط هذه التباينات في الشعور والمواقف الى حد كبير بما يعرف بالمعتقد المركزي، والذي تشكل عند الفرد منذ الطفولة وعبر تجارب تراكمية شخصية شكلت نظرته لنفسه وللآخرين وللعالم. قد يقل تقديره لذاته فترتفع حساسيته للرفض حقيقة كان او متوهما وتقل مناعته في مواجهته ان كان حقيقيا. وربما أيضا تعلمه تجاربه المتراكمة ان الآخرين لا يمكن الوثوق بهم والعالم مكانا غير آمن وغير ودي. لذلك يساعدنا التوقف دائما والتفكير قبل القيام بالفعل دائما لمراجعة الذات والمواقف على ان نتجنب الوقوع في ظلم أنفسنا وظلم الآخرين. وبالتالي تعجل الحكم على حالة الاحتفال في الملعب كأنها عدم اكتراث بمأساة الحرب في السودان، أو فهم ردود أفعال بعض الناس السالبة على انها غيرة، حسد او لها دوافع سياسية ربما يبتسر او يشوه الحقيقة. وسأحاول هنا ان أوسع دائرة الفهم والتشخيصات لنساعد أنفسنا على فهم ذواتنا وفهم الآخرين.

لا يمكن فهم التعليقات الغاضبة أو الساخرة على مشاهد الجماهير السودانية دون أن نرى الجرح الداخلي الذي تحمله. فالحرب لا تقتل البيوت فقط؛ إنها تخلخل الإحساس بالعدالة. من بقي داخل الوطن يعيش خوفاً وفقداً وإرهاقاً مستمراً، ويرى وطنه ينهار أمام عينيه. هذا يجعل مشاهد الاحتفال – ولو كانت دقيقة – تُقرأ لا كفرح جماعي، بل كنوع من (عدم الاكتراث). وهذه المشاعر كثيراً ما تحجبها اللغة المباشرة، فتخرج على هيئة: “ارجعوا وساعدوا في بناء الوطن”،“تتباهون بملابسكم ونحن نحترق هنا، “أين كانت وطنيتكم حين احتاجكم البلد؟”.

علم النفس يقول إن هذه الكلمات تحمل تحتها أربعة مشاعر مركزية: (1) شعور الخذلان: الناس داخل البلد يشعرون بأنهم تُركوا وحدهم. وعندما يكون الألم شديداً، يصبح من الصعب رؤية الآخرين يعيشون لحظات استقرار حتى ولو كانت لحظات مؤقتة رمزية داخل ملعب. (2) ما يعرف بالغيرة الحزينة (Grief-based envy): ليست غيرة من النعمة، بل غيرة من النجاة. إنّها أمنية دفينة: “ليتني كنت مكانكم”. وهذه المشاعر لا يعترف بها الناس بسهولة، ولا حتى بينهم وبين أنفسهم. (3) ضيق الهوية الجمعية: حين تكون الهوية تحت الضغط، يصبح أي سلوك مختلف بمثابة تهديد. الاحتفال يبدو وكأنه خروج من الصف، وكأن الانتماء الحقيقي يتطلب المعاناة فقط. لكن الناس يختلفون في طرائق تعبيرهم عن المعاناة وعن الوسائل التي يحاولون التأقلم بها ويحققون التوازن، والا لم قال الشاعر (لا تحسبوا رقصي بينكم طربا/فالطير يرقص مذبوحا من الألم؟).. هل هنالك احتمال ان يكون الملعب، طقوسه، الطريق المفضي اليه، التجمع الكبير لأناس يتشاركون ذات الوجع مساحة آمنة لمعالجة ألم وغبن مكبوت؟ لمحاولة الشعور ولو لحظة بالوطن، الانتماء والفرح والتضامن؟ (4) آلية دفاع نفسي اسمها لإزاحة (Displacement) وهي نقل الغضب من السبب الحقيقي (الحرب – الفقد – العجز – الألم) إلى هدف أسهل وأكثر قرباً: المشجعون. لذلك لا ينبغي أن نأخذ هذه التعليقات دائماً بمعناها الحرفي، فهي غالباً صدى لألم أكبر من أن يُقال مباشرة.

 لماذا يحتفل الناس أصلاً؟ هل هنالك احتمال ان الجماهير تشتاق الوطن أكثر مما تستعرض؟ الاحتفال ليس استعراضاً، بل هو – في علم النفس الاجتماعي – محاولة لإعادة إنتاج الوطن داخل القلب. والجماهير السودانية ليست “متزينة” بقدر ما هي متشبثة. فمن يعيش في الغربة يحمل شعوراً قاسياً بالذنب وبالانفصال. وعندما يظهر المنتخب، يحدث ما يلي: تتشكل “نحن” واضحة ومباشرة، فيعود الصوت الجماعي المفقود. يختبر المغترب لثوانٍ إحساس “أنا جزء من شيء أكبر”. فيستعيد الإنسان صورة وطنه كما يحبّ أن تكون، لا كما دمّرته الحرب.

هذه المشاهد ليست منافسة للداخل، بل امتداد لجرح واحد يُعبَّر عنه بطريقتين مختلفتين: من في الداخل يصرخ ألماً، ومن في الخارج يصرخ شوقاً.

 هزيمة المنتخب… لماذا كانت صدمة؟ لا اعتقد أن السودانيون بكى بعضهم لمجرد ان منتخبنا الوطني خسر مباراة. لقد بَكَوا لأن الهزيمة الرياضية لامست الهزيمة النفسية التي يعيشها الوطن نفسه. هناك ثلاثة مستويات لهذا الألم:

أولاً: التماهي العالي (High Identification) في نظريات الهوية الاجتماعية، كلما كان الفريق يمثل “الأنا الجمعية” في لحظة تهديد، أصبحت الخسارة تمسّ قيمة الذات مباشرة. شعور بهزيمة ذاتية على خلفية وطن مهزوم.

ثانياً: المثالية الدفاعية (Defensive Idealization) حين ينهار الواقع في الداخل، يبحث الناس عن “فوز ما” … أي فوز. وهذا يجعل سقف التوقعات غير واقعي تجاه المنتخب الذي يعاني ظروفاً مستحيلة. لا دوري مستقر، لا موارد، لا رواتب، لا بنية تدريب، ولا بلد آمن.

ثالثاً: الهزيمة كإعادة تنشيط للألم (Pain Reactivation)المباراة ليست مجرد مباراة؛ إنها آخر مساحة يأمل الناس أن يكسبوا فيها شيئاً. وحين يخسر المنتخب، ينهار هذا الملاذ الصغير. لكن من المهم أن نتذكّر: اللاعبون أنفسهم بشر، يحملون ضغط وطن كامل فوق أكتافهم. وقد يشعرون اليوم بالذنب والخجل والحزن أكثر مما نشعر نحن. من المهم تحويل الغضب إلى تضامن، لأن الدعم بعد الهزيمة قد يبني فريقاً، بينما السباب قد يساعد في هز ثقته بنفسه وهزيمته.

 لماذا نغضب بسرعة هذه الأيام؟

الحرب تغيّر الجهاز العصبي للناس، الحرب تضع الجسم في حالة Hyperarousal، أي فرط استثارة عصبية. بها اليات هرمونية وعصبية يفرز فيها هرمونات كالأدرينالين الذي ينشط عند الطوارئ ليساعد الإنسان على مواجهة الخطر بالمواجهة، الهروب أو التجمد. وعلى هذه الآلية ان تتوقف مباشرة بعد انتهاء الخطر ليستعيد الجسم توازنه الطبيعي ووظائفه المعتادة. فكيف إذا كان الخطر والتهديد مستمرا بالوجود في مناطق النزاع، المعسكرات، النزوح، اللجوء، الشتات والأفق الذي يبدو مظلما. هذا يعني ان تنهك آلية الحماية في حالة الطوارئ هذه الجسد وتؤثر فيه. وهذا يؤدي إلى ما نستشعر من غضب سريع، حساسية مفرطة للنقد، رؤية التهديد في أي اختلاف، تقلّص القدرة على التعاطف، البحث عن أي “هدف قريب” لتفريغ القهر.

ولهذا يحدث: سبّ الجماهير، إهانة اللاعبين، الهجوم على أي اختلاف في الرأي، قراءة الاحتفال كخيانة، لكن هذه السلوكيات ليست طبيعة الناس… إنها نتيجة الحرب، لا نتيجة “فساد الأخلاق”.

 كيف نخرج من هذه الدائرة؟

ما حدث ويحدث يجعلنا جميعا بحاجة إلى ثلاث مهارات نفسية أساسية للنجاة من آثار الحرب (1) إعادة تنظيم العاطفة (Emotion Regulation): علينا أولا التوقف قبل الهجوم، إدراك مصدر الغضب الحقيقي، تسمية المشاعر بدقة، وعدم إسقاطها على الآخرين. (2)  الترفق بأنفسنا/ رحمة النفس (Self-Compassion)فما نختبره من ضغط و من تحديات يجعلنا نشكك في انفسنا و مقدراتنا. علينا ان نفهم أن ردود أفعالنا ليست بالضرورة ضعفاً، بل نتيجة ما نختبره من وجع.
الرحمة بالذات تفتح الباب للرحمة بالآخرين. (3)  توسيع دائرة “نحن” أن ندرك أن الجماهير في الخارج ليست ضد الداخل، اللاعبون ليسوا أعداء الأمة، كلنا ضحايا للحرب، كلٌ بطريقته. كما ان التضامن ليس رفاهية، بل هو أداة للبقاء النفسي.
وهو الشيء الوحيد الذي يُعيد للناس إنسانيتهم حين تحاول الحرب انتزاعها.

خاتمة: ماذا يعني أن نحافظ على إنسانيتنا الآن؟

الحرب تدفع الناس إلى الحواف: حافة الغضب، وحافة اليأس، وحافة الشعور بالعجز. لكن جزءاً من النجاة هو ألا نسمح لها بأن تنتصر على الجزء الأرقّ فينا. عندما نهتف معاً وان من ملعب بعيد، نحن لا نهرب من الحقيقة، بل نحاول حماية ما تبقى منها داخل أرواحنا. الهتاف ليس استعراضاً…والاحتفال ليس خيانة…والحزن ليس ضعفاً…والغضب ليس شراً…جميعها محاولات بشرية للبقاء حين يشتدّ الخراب. نحن شعب واحد، جرح واحد، وأمل واحد… مهما فرّقتنا الجغرافيا.

 

الوسومد. ناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • مصر تودع كأس العرب مبكرًا بعد الخسارة من الأردن.. والإمارات تبلغ ربع النهائي
  • بعد الحجز على ممتلكات حسن شاكوش.. كم تبلغ قيمة نفقة ريم طارق؟
  • قموه يذكّر الحكومة بهبة نيسان
  • قموه يحذر الحكومة من تكرار هبة نيسان ويعترض على الموازنة
  • روبيو يشيد بالخطوات التي اتخذتها حكومة الشرع في سوريا
  • تصدير شحنة غاز مسال جديدة تبلغ 150 ألف متر مكعب من مجمع إدكو إلى تركيا
  • بعائد 23%.. ترقب لاجتماع البنك المركزي وسط طرح شهادات ادخار
  • شروط الحصول على الجنسية المصرية للأجانب طبقا للقانون.. تعرف عليها
  • «طحان» بطل كأس منصور بن زايد بمضمار الشارقة
  • عندما يتحوّل الملعب إلى وطن (2)