سودانايل:
2025-12-14@07:40:02 GMT

ماركيز ونفي المطلق: هل يعيد السرد إنتاج المقدس؟

تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT

في كل عمل أدبي عظيم، تتقاطع الفلسفة مع السرد، والميتافيزيقا مع اليومي، والحياة مع الأسطورة. وفي عوالم غابرييل غارثيا ماركيز، كان الدين حاضرًا دائمًا، لكنه لم يكن إيمانًا خالصًا ولا إلحادًا مطلقًا، بل كان جزءًا من نسيج الحكاية الكبرى التي ينسجها الكاتب، حيث تتداخل المعتقدات والخرافات مع السلطة والقمع، واللاهوت مع المجاز، والطقوس مع السحر.



لكن يبقى السؤال الفلسفي مفتوحًا: هل وقع ماركيز في فخ النزعة الدينية، أم أنه كان يستخدمها بوعي نقدي لتفكيك بنيتها السردية والاجتماعية؟ أم أن الدين في عوالمه لم يكن أكثر من أداة ضمن أدواته الأدبية الكثيفة، شأنه شأن الزمن الدائري، والموت المؤجل، والقدرية التي تتكرر بلا انقطاع؟

في مئة عام من العزلة، يتجلى الدين بوصفه مؤسسة، لكنه لا يظهر كجوهر روحي، بل كأحد تجليات السلطة. الأب نيكانور رينا، الذي يصل إلى ماكوندو لنشر التعاليم الكاثوليكية، لا يملك حججًا قوية سوى استعراض المعجزات، مثل شربه الشوكولاتة الساخنة بينما يطفو في الهواء. هذا التصوير الكاريكاتيري ليس سخرية محضة، بل يكشف كيف يتحول الدين في بعض السياقات إلى أداة للإقناع القسري، وليس بحثًا عن الحقيقة.

لكن المفارقة تكمن في أن المعجزات في هذا العالم ليست مستحيلة، فكما يطفو الأب نيكانور في الهواء، كذلك يولد الأطفال بذيل خنزير، ويعيش الرجال لعقود دون أن يموتوا، وتتكرر الحروب بنفس الطريقة العبثية. في هذا السياق، لا يكون الدين أكثر عبثية من أي شيء آخر، بل يصبح مجرد عنصر آخر في هذه الدوامة الكونية التي لا تقدم خلاصًا ولا تترك مساحة للخروج.

المؤرخ الأدبي جوزيف كامبيل، في كتابه البطل بألف وجه، يتحدث عن دور الطقوس الدينية في إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية، وهو ما نراه بوضوح في عوالم ماركيز، حيث لا تنفصل المؤسسة الدينية عن النظام الأبوي أو السياسي. فالكنيسة في خريف البطريرك تتواطأ مع الاستبداد، وتتحول إلى جزء من آلة السلطة التي تُطيل عمر الطغاة، عبر منحهم غطاءً روحانيًا يُبرر استبدادهم.

هذه العلاقة بين السلطة والدين ليست جديدة، لكنها في سرد ماركيز تفقد مركزيتها الأخلاقية، حيث لا يعود الدين ملاذًا للمقهورين، بل يتحول إلى أداة في يد القاهرين. ليست المسألة هنا مجرد نقد اجتماعي، بل هي إعادة صياغة فلسفية لسؤال قديم: هل الدين في جوهره أداة تحرر، أم أنه قيد آخر ضمن قيود الوجود الإنساني؟

لكن الدين في أعمال ماركيز ليس فقط سلطة، بل هو أيضًا فضاء أسطوري، عنصر من عناصر الواقعية السحرية. في الحب في زمن الكوليرا، يظهر القديسون واللعنات، وتتحول فكرة الحب نفسها إلى تجربة ميتافيزيقية تتجاوز الجسد. بينما في وقائع موت معلن، يُطرح السؤال عن القدرية الدينية: هل كان مقتل سانتياغو نصيبًا مقدرًا، أم أن المجتمع هو من صنع هذه الحتمية الوهمية؟

في هذا المستوى، لا يعود الدين مجرد مؤسسة، بل يصبح لغة رمزية يتحدث بها الوجود، نوعًا من الغموض الأبدي الذي لا يفسر شيئًا لكنه يظل معلقًا فوق رؤوس الشخصيات كقدرٍ محتوم. هنا، يتقاطع ماركيز مع ألبير كامو الذي في أسطورة سيزيف يناقش العبثية وسؤال الإيمان، حيث يصبح الإنسان محاصرًا بين حاجته لمعنى كوني وبين صمت الوجود.

ماركيز بدوره لا يُقدم إجابات حاسمة، بل يترك الشخصيات في صراع دائم بين الإيمان والخرافة، بين السحر والعقل، بين الحتمية والاختيار، مما يجعل أعماله اختبارًا فلسفيًا للأسئلة التي لم تُحسم بعد في تاريخ الفكر الإنساني. وكأن الرواية في جوهرها ليست إلا محاولة متكررة للإجابة على سؤال غير قابل للإجابة، حيث تظل الشخصيات تدور في حلقات من الشك واليقين، لكنها لا تصل إلى يقين كامل، كما لو أن الحياة نفسها ليست سوى متاهة بلا مخرج.

إدواردو غاليانو، في تحليله لأعمال ماركيز، يصفه بأنه “كاتب كاهن دون كنيسة”. فهو يستخدم مفردات الدين، لكنه لا يبشّر بها، بل يخلق منها عالمًا مفتوحًا على التأويل.

هذا ما يجعلنا نتساءل: هل كان ماركيز ضحية لاشعورية للنزعة الدينية، أم أنه كان يوظفها كأداة سردية فقط؟ هل كان الدين بالنسبة له هو اللاوعي الجمعي الذي لا يمكن تجاوزه، حتى لو لم يكن يؤمن به؟ أم أنه كان مجرد أداة لتكثيف التجربة البشرية، تمامًا كما استخدم التاريخ واللغة والسحر؟

هنا يمكن استدعاء رؤية جان بول سارتر عن “الالتزام الأدبي”، حيث يرى أن الكاتب يجب أن يكون واعيًا بأدواته الإيديولوجية والسردية. ماركيز لم يكن مؤمنًا بالمعنى الديني، لكنه أيضًا لم يكن ملحدًا دوغمائيًا، بل كان كاتبًا يدرك أن الدين، كمفهوم سردي، هو مادة خصبة للتحليل الاجتماعي والنفسي والفلسفي.

إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل دور شخصية مرسيدس بارتشا، زوجة ماركيز، التي تحمل اسم القديسة مرسيدس. وعلى الرغم من أن اسمها قد يبدو مجرد صدفة، فإن تأثيرها الخفي على كتابات ماركيز يستحق التأمل.

في ظل العلاقة العميقة بين الزوجين، يمكننا رؤية كيف أن ماركيز كان يحبها بطريقة غير شعورية، وكيف أن هذا الحب قد ترك بصمته على نصوصه. مرسيدس كانت شاهدة على مراحل حياته الأدبية المختلفة، ودائمًا ما كانت ملهمة له.

قد يبدو أن اسمها، الذي يتشابه مع اسم القديسة مرسيدس، قد حمل بعضًا من تأثير الدين على حياة ماركيز، ليس بالمعنى التقليدي للإيمان، بل بمعنى التقديس غير الواضح، حيث كان ينظر إليها باعتبارها مصدرًا للثبات والطمأنينة في عالمه الأدبي المتقلب.

هذا التقديس الغير مباشر ربما أثر على رؤيته للحب في روايته الحب في زمن الكوليرا، حيث يعكس الحب بين فيرمنيا وفيديريكو التزامًا طويل الأمد يشبه الخلاص، لكنه يتم في إطار إنساني غير مثالي. من خلال مرسيدس، تجد أعمال ماركيز نوعًا من التوازن بين الحياة اليومية والرمزية الدينية، مما يشير إلى وجود تأثير غير مباشر لهذا الاسم على فكرته عن الحب والقداسة والخلود.

إذا كان هناك “فخ” وقع فيه ماركيز، فهو ليس فخ النزعة الدينية، بل فخ استخدام الدين كوسيلة للتعبير عن العبث الإنساني، دون القدرة على الخروج منه تمامًا. الدين في أعماله ليس حقيقة مطلقة، لكنه أيضًا ليس وهمًا بحتًا، بل هو جزء من التاريخ الجمعي، من اللاوعي الثقافي، من الحلم والكوابيس التي تشكّل تجربة الإنسان في هذا العالم.

وربما يكون هذا هو التناقض الأكبر في أعمال ماركيز: أنه في الوقت الذي يحاول فيه تفكيك الدين، لا يستطيع التخلي عنه تمامًا، لأنه جزء من البنية العميقة للحكاية نفسها.

وكأنه يقول لنا إن العالم، بكل عبثيته ولا معقوليته، لا يزال بحاجة إلى قصص تشرح وجوده، حتى لو لم تكن هذه القصص حقيقية. في النهاية، ماركيز لم يكن كاتبًا دينيًا، لكنه كان كاتبًا في عالمٍ لا يزال الدين يشكّل جزءًا من بنيته العميقة. ومن هنا تأتي عبقريته: ليس في تقديم إجابات، بل في صياغة الأسئلة التي تظل مفتوحة، كأنها قدرٌ مكتوب في صفحات رواياته، وكأنها صلاة لم تُستجب بعد.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدین فی لم یکن أم أنه فی هذا

إقرأ أيضاً:

تطوير فائض لدعم التصدير.. أبرز توصيات ورشة إنتاج بيض المائدة بالشرقية

نفذ فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة الشرقية وبالتعاون مع الهيئة العامة للغذاء والدواء وجامعة الملك فيصل وإحدى الشركات المتخصصة بإنتاج بيض المائدة بالمنطقة ورشة بهدف وضع معايير صارمة لإنتاج ”بيض المائدة“ تضمن التنافسية الدولية.
وشهدت الورشة المتخصصة التي حملت عنوان ”إنتاج البيض.. المعايير والجودة“، حضور أكثر من 100 مختص وخبير، ناقشوا آليات تحويل المتطلبات التنظيمية إلى منظومات جودة راسخة تعزز الأمن الغذائي وتتوافق مع مستهدفات رؤية المملكة 2030.
أخبار متعلقة لأول مرة بالشرقية.. بروتوكولات جديدة لتأهيل زارعي القوقعة البالغينسيهات.. «سعادة» تطلق «خلود العطاء» وتكرم عددًا من القيادات بالشرقية .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } تطوير فائض لدعم التصدير.. أبرز توصيات ورشة إنتاج بيض المائدة بالشرقية - اليوم تطوير فائض لدعم التصدير.. أبرز توصيات ورشة إنتاج بيض المائدة بالشرقية - اليوم var owl = $(".owl-articleMedia"); owl.owlCarousel({ nav: true, dots: false, dotClass: 'owl-page', dotsClass: 'owl-pagination', loop: true, rtl: true, autoplay: false, autoplayHoverPause: true, autoplayTimeout: 5000, navText: ["", ""], thumbs: true, thumbsPrerendered: true, responsive: { 990: { items: 1 }, 768: { items: 1 }, 0: { items: 1 } } });تعزيز الإنتاج لدعم التصديروكشف مدير عام فرع الوزارة بالمنطقة الشرقية، المهندس فهد الحمزي، عن عمل الوزارة وفق ثلاثة مسارات رئيسية تشمل تطوير فائض إنتاجي مستدام يدعم التصدير، وتعزيز سلاسل توريد ذكية، وتمكين المنتجين من المنافسة دولياً دون المساومة على الجودة.
وأكد الحمزي أن الهدف الاستراتيجي للمرحلة المقبلة هو تغيير الصورة الذهنية للمنتج الوطني، ليصبح البيض السعودي مرجعاً للتميز ورمزاً للثقة الغذائية عالمياً، وليس مجرد خيار بديل في الأسواق.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } تطوير فائض لدعم التصدير.. أبرز توصيات ورشة إنتاج بيض المائدة بالشرقية - اليوم
من جهته، أوضح مدير إدارة الزراعة بالفرع، المهندس وليد الشويرد، أن الالتزام بالمعايير الفنية ليس مجرد إجراء روتيني، بل هو استثمار اقتصادي يسهم في خفض التكاليف التشغيلية وتقليل الهدر، بالتوازي مع الدور التشريعي للوزارة في مراقبة النظافة الحيوية وتقنيات الفرز.بروتوكولات أنظمة تطبيقية والذكاء الاصطناعيوعلى الصعيد الفني، استعرضت الهيئة العامة للغذاء والدواء عبر المهندس حسين اليوسف، بروتوكولات تحويل الاشتراطات إلى أنظمة تطبيقية، مع التركيز على نظام تحليل المخاطر ”HACCP“ كشرط أساسي للحصول على شهادات صلاحية التصدير.
وتناول الجانب الأكاديمي والبحثي، الذي قدمه الدكتور أحمد عثمان من جامعة الملك فيصل، الاتجاهات العالمية الحديثة، بما في ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي في المزارع، والتحول نحو أنظمة الإنتاج ”الخالية من الأقفاص“ لتعزيز رفاهية الحيوان وتقليل البصمة الكربونية.
وفي سياق إدارة التغذية الدقيقة، قدم الخبير الدكتور يوليان هاييبوم وصفة علمية للحفاظ على جودة قشرة البيض حتى عمر 100 أسبوع، مشدداً على أهمية توقيت تقديم الكالسيوم الخشن في الساعات الأخيرة من اليوم لدعم عملية التكلس الليلي.
واختتمت النقاشات بتأكيد المهندس أمين التاروتي على أن هذه المنصة التكاملية بين القطاعات الحكومية والبحثية والخاصة تمثل حجر الزاوية لتبني حلول قائمة على المعرفة، مما يرفع من موثوقية المنتج الوطني ويعزز سلامة الغذاء للمستهلك النهائي.

مقالات مشابهة

  • أخبار التوك شو| أحمد موسى: التحديات أمام رئيس الوزراء كبيرة لكنه قدها.. وأحمد السقا: صعبت عليا نفسي
  • تحمل سخافات كثيرة.. أحمد موسى: التحديات أمام رئيس الوزراء كبيرة لكنه قدها
  • العراق ينفق 617 مليون دينار في الدقيقة على موظفيه دون إنتاج
  • 520 طالبا وطالبة في انطلاق مسابقة «يوم السرد القرآني الأول» بصلالة
  • برج العذراء حظك اليوم السبت 13 ديسمبر 2025… يوم دقيق لكنه مليء بالفرص
  • حكم الوضوء بماء المطر.. يجوز بشرط واحد
  • تطوير فائض لدعم التصدير.. أبرز توصيات ورشة إنتاج بيض المائدة بالشرقية
  • تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد
  • النفط يرتفع وسط مخاوف من اضطراب إمدادات فنزويلا لكنه يتجه لانخفاض أسبوعي
  • تهديد بهدم قبر عزّ الدين القسّام.. ما الرسالة التي يسعى بن غفير إلى إيصالها؟