عهد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي إلى الوالي بلعرب بن مانع الإسماعيلي
تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT
نستفتح في هذه المقالة الحديث عن بعض الوثائق التي حفظها التراث المخطوط مما يرجع إلى عهد اليعاربة في عمان (1034-1162هـ)، وتتصدر تلك الوثائق جملة من عهود الأئمة اليعاربة إلى ولاتهم أو رسائلهم إلى الفقهاء الذين كان بعضهم من رجال الدولة أو من قادة العساكر، ثم تأتي الوثائق الأخرى من مثل المكاتبات، والحجج الشرعية، وغيرها.
وأول وثيقة نتعرض لها: عهد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (1034-1059هـ) إلى واليه على سمد الشأن من الشرقية، الوالي بلعرب بن مانع بن علي الإسماعيلي الأبروي، وهو كذلك كان واليًا له بمدينة صور، وأحد القادة الذين اشتركوا في قتال البرتغاليين وطردهم، وفيه يقول المؤرخ البطاشي: «وهو الذي افتتح صور من احتلال البرتغال، وطردهم منها». ويُحتَمل أن ولايته على سمد الشأن صارت بعد استتباب الأمور للإمام في المدن الساحلية التي كانت خاضعة للبرتغاليين. وهذا العهد نقله الفقيه راشد بن سعيد بن رجب الحارثي الأبروي (ق11هـ) في كتاب له عُرِف بجامع ابن رجب، ونص العهد:
«هذا ما يقول الإمام -أعزّه الله- ناصر بن مرشد بن مالك للوالي بلعرب بن مانع بن عليّ: إنّي قد ولّيتك على قرية سمد الشان، وما حولها وما بينها من المسافي والمزارع، بدويها وحضريها، على أن تعمل فيهم بكتاب الله تعالى، وتحيي فيهم سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثار أئمّة الهدى وقادة التقوى، الذي جعلهم الله ورثة الكتاب والسنّة، وجعلهم للنّاس أئمّة، وأن تأمر فيهم بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتوالي في الله وتعادي عليه، ولا تخف في الله لومة لائم، وأن تخلط الشدّة باللين، وأن تحفظ جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين، وأن تعرف لكلّ أمر حقّه وتنزله منزلته وتوفّيه حقّه، وتنكر المنكرات بغير تجاوز إلى غير واجب أوجبه الله بالجدّ والتشمير، وترك التهوين والتقصير، وأن تنوء في ذلك من مصالح أهل ولايتك، وإصلاح أفلاجهم، وعمارة مساجدهم، والصفح عن مسيئهم ما وسعك ذلك فيهم، وأن تقبض زكواتهم بحقّها، وتجعلها في أهلها بعدلها، طيبة نفس معطيكها، إلا من وجب جبره عليها، ولا يخفى ذلك عليك إن شاء الله.
وقد جعلت لك أن تعامل على صوافيها بمزارعة، أو قعادة، وقبض غوالها، وقد جعلت لك حماية البلاد والذب عن الحريم، وألزمت جميع أهل هذه القرى طاعتك، وحجرت عليهم معصيتك ما أطعت الله ورسوله، وقمت بما شرطته عليك في عهدي هذا إليك، وإن خالفت إلى غير ذلك، فأنا ومال المسلمين بريئان منك، وأنت مأخوذ به في نفسك ومالك. واعلم أنّه لا أثرة عندي لظالم ولا [حيف] لمسلم، بل إرادتي إعزاز دين الله تعالى، والأخذ على أيدي الظالمين، وكسر شوكة المعتدين، وإخماد كلمتهم، وإطفاء بدعتهم، وتفرّق جماعاتهم التي يجتمعون فيها على الحرام، والخوض في الآثام، وانتهاك عظيمات الأمور ما استطعته. وقد جعلت لك حبس من يجب حبسه من أهل الأحداث و[الحقوم] على قدر ما تراه عدلًا، فيما حفظته من آثار المسلمين، من غير حيف ولا ميل، ولا تأتمن على ما ائتمنتك عليه من أمانتي التي أنا أمين لله تعالى وللمسلمين عليها إلا من هو حقيق بذلك في دين المسلمين، والله فاتَّقِ، وبه فاكْتَفِ، وإليه فالتَجِ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، وصلّى الله على رسوله محمّد النبيّ وآله وسلّم».
وقد اشتمل العهد على وظائف عديدة للوالي في الشق القضائي، وفي الشق التعليمي الإرشادي، وفيه كذلك توجيه نحو الإعمار والزراعة والأخذ بأسباب المعيشة ونمو الاقتصاد في ذلك العصر، فهو يوجهه إلى إصلاح الأفلاج وقبض الزكاة. وفيه أيضًا توجيهات في مهارات التواصل مع الرعية من بين لين وشدّة، ونصرة المظلوم والأخذ بيد الظالم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من مكة إلى الكرامة… الرصاصة التي أصبحت جيشًا
صراحة نيوز ـ بقلم: جمعة الشوابكة
في العاشر من حزيران من كل عام، لا يمرّ اليوم على الأردنيين مرور الكرام، بل ينبض التاريخ في وجدانهم من جديد. إنه اليوم الذي تختصر فيه الأمة مسيرتها المجيدة بين سطرين خالدين: الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي عام 1916، ويوم الجيش العربي الأردني، حين توحّدت البندقية بالراية، والعقيدة بالوطن.
لم تكن الرصاصة الأولى التي انطلقت من شرفة قصر الشريف في مكة مجرد إعلان تمرّد على الحكم العثماني، بل كانت البيان التأسيسي للسيادة العربية الحديثة، وبداية مشروع تحرر قومي لا يعترف بالتبعية، ولا يرضى بأقل من الكرامة. قاد الشريف الحسين بن علي هذا المشروع بوعي تاريخي عميق، وسلّمه لابنه صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن الحسين آنذاك، الذي جاء إلى شرقي الأردن مؤمنًا بأن الثورة لا تكتمل إلا ببناء الدولة، وأن الدولة لا تنهض إلا بجيش عقائدي يحمل راية الأمة ويحميها. وهكذا، وُلد الجيش العربي، من رحم الثورة، ومن لبّ الحلم القومي، لا تابعًا ولا مستوردًا، بل متجذرًا في الأرض والهوية.
كان الجيش العربي الأردني منذ تأسيسه أكثر من مجرد تشكيل عسكري، كان المؤسسة التي اختزلت روح الوطن. شارك في معارك الشرف على ثرى فلسطين، في باب الواد والقدس واللطرون، ووقف سدًا منيعًا في وجه الأطماع والعدوان، حتى جاءت اللحظة المفصلية في معركة الكرامة عام 1968، حين وقف الجندي الأردني بصلابة الرجولة خلف متاريس الكرامة، وردّ العدوان، وسطّر أول نصر عربي بعد نكسة حزيران، بقيادة جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال – طيب الله ثراه – ليُثبت أن الكرامة لا تُستعاد بالخطب، بل تُنتزع بالدم. لقد كان هذا النصر عنوانًا حيًا للعقيدة القتالية الأردنية، القائمة على الانضباط، والولاء، والثبات، وفهم عميق للمعركة بين هويةٍ تُدافع، وقوةٍ تُهاجم.
وفي قلب هذه المسيرة، وقف الشهداء، الذين قدّموا دماءهم الزكية ليظل هذا الوطن حرًا شامخًا. شهداء الجيش العربي الأردني لم يكتبوا أسماءهم بالحبر، بل خلدوها بالدم، في فلسطين، والجولان، والكرامة، وفي كل ميدان شريف رفرف فيه العلم الأردني. لم يكونوا أرقامًا في تقارير، بل رسل مجدٍ وخلود، يعلّموننا أن السيادة لا تُمنح، بل تُحمى، وأن كل راية تُرفع، تحمل في طياتها روح شهيد.
ومن بين هؤلاء، كان جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال – رحمه الله – أول القادة الذين ارتدوا البزة العسكرية بإيمان وافتخار. تخرّج من الكلية العسكرية الملكية في ساندهيرست، وخدم جنديًا في صفوف جيشه، ووقف معهم في الخنادق، لا على المنصات. كان القائد الجندي، الذي يرى في الجيش رمزًا للسيادة، وركنًا من أركان الدولة، وظل يقول باعتزاز: “إنني أفخر بأنني خدمت في الجيش العربي… الجيش الذي لم يبدل تبديلا.” فارتقى بالجيش إلى مصاف الجيوش الحديثة، عقيدةً وعتادًا، قيادةً وانضباطًا، ليبقى المؤسسة التي لا تتبدل ولا تساوم.
واليوم، يواصل المسيرة القائد الأعلى للقوات المسلحة الأردنية، جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم – الملك الممكِّن والمعزّز – الذي تربّى في صفوف الجيش، وتخرّج من الميدان قبل أن يعتلي عرش البلاد. يرى جلالته في الجيش العربي الأردني شريكًا استراتيجيًا في بناء الدولة، لا مجرد مؤسسة تنفيذية. ولهذا، شهدت القوات المسلحة في عهده قفزة نوعية في الجاهزية القتالية، والتحديث، والتسليح، والتعليم العسكري، حتى أصبح الجيش الأردني عنوانًا للانضباط والسيادة الإقليمية والإنسانية، وصوت العقل في زمن الفوضى.
ويأتي تزامن يوم الجيش مع ذكرى الثورة العربية الكبرى تتويجًا لهذه المسيرة، ليس كمجرد مصادفة تاريخية، بل كتجسيد حي لوحدة الرسالة، واستمرارية المشروع الهاشمي، من الشريف الحسين بن علي، إلى الملك المؤسس عبد الله الأول، إلى الملك الباني الحسين بن طلال، إلى جلالة الملك الممكِّن والمعزّز عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم. فهذه ليست محطات منفصلة، بل خط سيادي واحد، يبدأ بالتحرر، ويُترجم بالجيش، ويُصان بالسيادة. لقد بقي الجيش العربي منذ نشأته على العهد، حاميًا للوطن، وحارسًا للهوية، ودرعًا للشرعية، لا يُبدّل قسمه، ولا يخون ميثاقه.
في العاشر من حزيران، لا نحتفل فقط، بل نُجدد القسم: أن هذا الوطن لا يُمس، وأن هذه الراية لا تُنكّس، وأن هذا الجيش لا يُكسر. من مكة إلى الكرامة، الرصاصة أصبحت جيشًا، والجيش أصبح عقيدة، والعقيدة أصبحت وطنًا لا يُساوم على كرامته، ولا يُفرّط بذرة من ترابه.