مع سقوط نظام بشار الأسد وتولي الرئيس أحمد الشرع السلطة مرت سوريا بمراحل خطيرة وحساسة، مراحل تتجاوز مجرد تغيير سياسي إلى إعادة صياغة البلاد وموقعها في الإقليم؛ وقد دخلت سوريا مسارا جديدا لم تعهده منذ عقود؛ مسارا يجمع بين إعادة رسم التحالفات، والانفتاح الاقتصادي على العالم، يرافقه ضغوط قاسية من واشنطن وتل أبيب ودول الإقليم.
وفي قلب هذا المشهد الصعب والضاغط على أجواء حكم ملبدة بغيوم لا أحد يعلم مآلاتها ومخاطرها، تبرز ثلاثة عناصر أساسية تهدد قدرة الحكومة على إثبات قدرتها على أدارة هذه الملفات، وهي: مستقبل الوجود الإيراني في سوريا، اتجاهات الاستثمار المؤكّدة في البلاد ثم الدور الإسرائيلي المباشر في فرض إيقاع المرحلة عبر عمليات عسكرية مستفزة.
النفوذ الإيراني.. من نفوذ مطلق إلى حضور محكوم بشروطوأهم هذه الشروط هو تعامل حكومة أحمد الشرع مع الوجود الإيراني وفق معادلة دقيقة؛ هي تخفيف النفوذ دون تفجير مواجهة.
وبحسب المؤشرات الحالية، تسير دمشق في خط ثابت نحو تفكيك جانب كبير من البنى العسكرية المرتبطة بإيران، خصوصا في الجنوب وريف دمشق وممرات الإمداد نحو لبنان.
هذا لا يعني قطع العلاقات مع طهران، بل إعادة صياغتها بحيث يختزل الدور الإيراني إلى دور سياسي اقتصادي محدود، دون أي دور أمني وعسكري. الهدف من كل ذلك، بحسب الشرع هو فتح الباب أمام علاقات اقتصادية جديدة، وطمأنة واشنطن ودول الخليج بأن سوريا لن تعود إلى مربّع لصراع مفتوح.
إسرائيل ليست مراقبا من بعيد، بل هي على العكس، عمدت وما زالت إلى فرض واقع جديد على الأرض السورية من خلال غارات جوية متكررة تستهدف مخازن ومراكز نفوذ مرتبطة بإيران.
عمليات توغل صغيرة قرب الحدود للتأكيد أن قواعد اللعبة تغيّرت، وبالتأكيد أن هناك رسائل عسكرية واضحة لحكومة الشرع مفادها: "أي تباطؤ في الحد من النفوذ الإيراني سيقابَل بردّ".
إعلانبهذه الطريقة تحاول تل أبيب رسم خارطة نفوذ محسوبة، تُبعد إيران عن الجنوب السوري وعن محيط الجولان، وتمنع تحويل سوريا إلى ممر تسليح لحزب الله.
الاستثمارات.. الطريق الاقتصادي لسوريا الجديدةرغم التعقيدات الأمنية، يشهد الملف الاقتصادي تحوّلا ملحوظا. استثمارات مؤكدة بدأت تتبلور، وأخرى جاهزة للدخول بمجرد استقرار البيئة التشريعية والأمنية؛ وهناك اهتمام خليجي- تركي- غربي واضح بمشاريع الكهرباء والغاز؛ لأنها الأساس الذي يُبنى عليه أي إعمار حقيقي.
وتستعد دمشق، وحلب وحمص لدخول مرحلة إعادة بناء واسعة تشمل السكن والبنى التحتية وطرق النقل، كما تذهب الخطة الكبرى الحكومية إلى تحويل سوريا إلى ممر تجاري يصل الخليج بتركيا وأوروبا، عبر تطوير الموانئ وخطوط النقل وسكك الحديد.
هذه المشاريع قد تجعل سوريا مركز عبور إقليمي خلال أقل من عقد. هذا بالإضافة إلى قطاعات الاتصالات، الزراعة الحديثة، البنوك والصناعات الخفيفة والتي تُربط بشكل كبير بتثبيت الاستقرار أولا.
المعادلة الأساسية في هذا كله هي تراجع إيران مقابل تقدّم الاستثمار؛ فكلما تراجع الحضور العسكري الإيراني، ازداد الانفتاح الاقتصادي. وكلما تقدّم الاستثمار الخليجي والغربي، ازداد الضغط الإسرائيلي؛ لضمان عدم عودة النفوذ الإيراني. بهذه المعادلة، تتحرك سوريا نحو مرحلة جديدة تُكتب فيها موازين القوة عبر الاقتصاد أولا، والأمن ثانيا، والتحالفات ثالثا.
ترامب والدور الأميركي في دعم سوريا الجديدةفي مايو/أيار 2025 بدأت إدارة ترامب خطوات لإلغاء أو تخفيف عقوبات أميركية مفروضة على سوريا منذ سنوات، وفي 30 يونيو/حزيران 2025 وقع ترامب قرارا تنفيذيا (executive order) يرفع معظم العقوبات عن سوريا باستثناء تلك المرتبطة بفترات حكم سابقة، وبعض الأشخاص المحددين في نظام الأسد، ما يمهّد للدخول في علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي.
الإعلام الأميركي والدبلوماسي أشار إلى أن الهدف من هذه الخطوات هو منح "سوريا فرصة جديدة"، ليس فقط لمعاقبة الماضي المعادي لنهجها الشرق أوسطي، بل لإعادة إدماج دمشق في النظام الاقتصادي-الدولي، وتعزيز الاستقرار في المنطقة.
علنًا تقول واشنطن إن لسوريا دورا أساسيا في مكافحة الإرهاب، وبخاصة محاربة "تنظيم الدولة" والجماعات المتطرفة، لكن في الحقيقة ليس هو الدافع الوحيد، فهناك أهداف إستراتيجية أوسع منها: استقرار إقليمي وإعادة تفعيل، وبناء نظم اقتصادية بحتة من خلال رفع العقوبات بما يُمكّن الحكومة السورية من استعادة نشاطها الاقتصادي؛ التجارة، الاستثمار، والتعامل مع النظام المالي العالمي.
هذا مهم للولايات المتحدة التي ترى في سوريا "جسرا" بين الشرق الأوسط ودول الخليج وتركيا. وكذلك موضوع دمج سوريا ضمن محاور معادِلة لموسكو وطهران بعد سنوات من النفوذ الروسي-الإيراني في سوريا، إذ إن التحرك الأميركي يهدف إلى كسر هذا الحصار وتحويل سوريا إلى عنصر تفاوض وإعادة توازن في الشرق الأوسط.
إن دعم الولايات المتحدة للحكومة السورية الجديدة مشروط بعدة بنود، فبحسب التصريحات الرسمية فإن المطلوب من الرئيس السوري أحمد الشرع إعلان رسمي بأن حكومته ستطرد جميع "المقاتلين الأجانب" والجماعات الإرهابية من سوريا، ومنع استخدام الأراضي السورية كمنصة لنفوذ إيراني أو عبور أسلحة إلى جماعات موالية لإيران.
إعلانإضافة إلى الالتزام بإعادة بناء الدولة السورية بآليات موثوقة، واحترام الالتزامات الدولية، لإدماجها في الاقتصاد الدولي.
وبالمجمل فإن دعم واشنطن لسوريا يشمل محور مكافحة الإرهاب، ومحورا سياسيا-اقتصاديا، ومحورا إستراتيجيا إقليميا، وعموما فإن الدعم الأميركي هو سياسات واقعية (Realpolitik)، تستهدف مصالح إستراتيجية أكثر من مجرد الالتفات إلى ملف الإرهاب فقط.
مسألة أخرى بالغة الأهمية ترتبط بموقف أميركي ليس واضحا تماما حتى الآن، يتعلق بموقف واشنطن الفعلي من دعوات داخلية لتقسيم سوريا؟ حيث تتهم واشنطن بأنها تدعم التقسيم، في حين أن موقفها الرسمي والعملي يقول إن الولايات المتحدة لا تريد تقسيم سوريا إلى دول، ويذهب محللون لطبيعة السياسات الأميركية إلى أن هذا الرفض ليس حبا بوحدة سوريا، وإنما لمخاوف حقيقية من أن هذا التقسيم سيخلق كيانات ضعيفة تحتاج حماية دائمة، وأنه سيفتح الباب أمام روسيا وإيران وتركيا لزيادة نفوذها هناك.
كما سيخلق حدودا جديدة تزيد التوتر في المنطقة، بما سيكلف واشنطن التزامات عسكرية دائمة، وتنظر الجهات الأمنية المركزية في الولايات المتحدة إلى أن سوريا المقسمة ستعني الفوضى، والفوضى تعني عودة "تنظيم الدولة"، وهو أمر بالغ التكلفة على أميركا. كل ذلك يعني أن موقف واشنطن الإستراتيجي هو وحدة سوريا الجغرافية، مع نظام جديد قادر على ضبط الأمن.
إن رغبة واشنطن بوحدة الأراضي السورية، تعني ضمنا أنها لا تريد للأكراد في سوريا دولة مستقلة لما قد يسببه ذلك من حرب مفتوحة في العراق وتركيا وغيرهما، بل تريد حقوقا سياسية، إدارة محلية موسّعة وضمانات ضد الإبادة أو الاجتياح.
والسؤال المطروح في سوريا والمحيط العربي والإقليمي، هو: هل يمكن للشرع منع التقسيم؟ والجواب يرتبط بقدرته على النجاح في ثلاثة ملفات؛ هي:
تفكيك النفوذ الإيراني العسكري. استيعاب "قسد" وإعادة دمج الشمال الشرقي بصفقة سياسية. التسوية مع تركيا بخصوص الشمال الغربي.سوريا الشرع تقف اليوم في نقطة تحوّل حقيقية: نفوذ إيراني يتآكل تحت ضغط دولي وإقليمي، ونافذة اقتصادية واسعة تُفتح للمرة الأولى منذ سنوات، وإسرائيل تفرض عبر القوة الإيقاع الذي يجب أن تتعامل معه دمشق في كل خطوة، كما تلوح بعض القيادات الدينية والقومية بالانفصال عن سوريا، كل هذا قد يشكل فرصة نادرة لإعادة بناء الدولة السورية، وقد يكون بداية مرحلة جديدة من مواجهة التحديات. الجواب سيظهر في الطريقة التي ستدير بها حكومة الشرع هذا المزيج من الضغط والفرص والتحولات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات الولایات المتحدة النفوذ الإیرانی سوریا إلى فی سوریا
إقرأ أيضاً:
سوريا في المصيدة
نجح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالاتفاق مع مجرم الحرب «بنيامين نتنياهو» في وضع استراتيجيات لكل دولة من دولنا العربية تقوم على فكرة المصيدة، وهي تضع النظام العربي تحت لافتة السلام بعد أن يكون هذا النظام ودولته قد تلقوا ضربات شديدة الرعب، فلا يكون أمام صاحب القرار إلا القبول بسلام وهمي يحصل به ترامب على لقطة تليفزيونية باعتباره صانعا للسلام، وينفذ به نتنياهو حلم إسرائيل الكبرى.
ونجحت هذه الاستراتيجية في صناعة مصيدة للمقاومة في غزة، حيث حشد ترامب دول العالم العربي والإسلامي المؤثرة خلف خطته للسلام المزعوم، وأنقذ إسرائيل من طوفان المظاهرات التي تندد بها في العواصم الأوروبية، وأضاع على العرب والفلسطينيين فرصة تاريخية بتغيير المزاج الأوروبي من داعم ومساند على طول الخط للدولة العبرية إلى رافض ومناهض لجرائم إسرائيل.
وينفذ نتنياهو الآن خطة إبادة وتدمير شامل لغزة والضفة تحت لافتة خطة ترامب وكل ذلك يتم لأن المقاومة وضعت في المصيدة ولن تخرج منها أبدًا، لأنها ستصبح معادية للسلام إن هي حاولت الدفاع أو المقاومة ضد العدوان الإجرامي الإسرائيلي- الأمريكي في غزة الآن.
ومع نجاح فكرة المصيدة في غزة بنسبة 100%، ينتظر نجاح الفكرة بنفس القدر في لبنان عندما تشتعل الحرب الأهلية بين الشيعة والسنة والمسيحيين، وتلتهم إسرائيل الجنوب اللبناني ويقتل مئات الآلاف هناك، وهي خطوة تنفذها إسرائيل وأمريكا بشكل سريع الآن، وليس أمام الحكومة اللبنانية من خيار غير الحرب الأهلية أو تدمير لبنان ككل.
ومع النجاح منقطع النظير بمصيدتي غزة ولبنان، تبدو أن المصيدة الثالثة لـ سوريا التي وضع فيها الرئيس الشرع ونظامه، تتحرك بقوة نحو مراحلها الأخيرة التي تعني تحقيق الهدف الأسمى لإسرائيل بتقسيم سوريا واحتلال أجزاء منها.
وقد أوضحت حادثة قرية بيت الجن السورية التي دخلتها قوات إسرائيلية الجمعة الماضية وقتلت 13 وأصابت 25 واعتقلت 3 أفراد دون أن يتدخل الجيش أو الشرطة أو أي فصيل مسلح ودون أن تندد أمريكا حليفة الشرع أو أي دولة أوروبية بالحادث الذي تكرر لأكثر من 40 مرة في أقل من عام، هذا يعني أن المصيدة أحكمت حلقاتها على الشرع وسوريا، ولم يبقى أمام النظام من خيار غير أن يسلم بتقسيم سوريا إلى دولة درزية، وثانية كردية وثالثة علوية ورابعة سنية.
ويسلم الشرع أيضًا لإسرائيل الجولان وجبل الشيخ والقنيطرة وجزءا من درعا، ويوافق على ضم محافظة السويداء الدرزية لإسرائيل مع توفير ممر آمن من الحدود الإسرائيلية إلى السويداء، وفوق كل هذا على الشرع أن يوقف تسليح جيشه ويخفض أعداده ويدرب ما تبقى منه للعمل كمرتزقة للحرب ضد حزب الله وحماس والحرس الثوري الإيراني والفصائل المسلحة في العراق والحوثيين في اليمن.
هذه هي شروط بقاء النظام حيًا داخل المصيدة السورية وإذا ما رفض، فإنه سيُقضى عليه ونظامه وتدمر سوريا بالكامل.