لجريدة عمان:
2025-07-31@02:41:25 GMT

الفزاعة

تاريخ النشر: 25th, March 2025 GMT

الفزاعة

وأنا أقرأ رواية "الفزاعة" لبدرية البدري، شعرتُ أنني عالقة بين الفزاعة وزياد، بين المقاومة واللاجدوى، بين الهلع والسكينة، وسؤال عالق: هل الفزاعة كيان حقيقي أم خيال زياد؟ هل هي شيء مستقل عنه، أم أنها جزء من وجدانه؟ هذا التداخل الذي خلق توترا سرديا دفعني للتساؤل، لكنه في نفس الوقت عكس حالة زياد النفسية، الذي لم يعد قادرا على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، لأن صدمته غيرت طريقته في إدراك العالم.

رغم كل الألم الذي تحمله الرواية، إلا أنها لا تغرق في السوداوية، بل تقدم في النهاية رسالة: "الحياة تستمر، حتى بعد أقسى الخسارات"، العثور على حبة البطاطا لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان بمثابة إشارة إلى أن الأمل قد يكون مدفونا، لكنه موجود، وأن من يبقى على قيد الحياة، لا يجب أن ينظر إلى ذلك على أنه عقوبة، بل كفرصة جديدة للبحث عن معنى وسط الفوضى.

عند الغوص في رواية الفزاعة، يجد القارئ نفسه أمام نص يمزج بين الواقعية المؤلمة والرمزية العميقة، حيث تتحول الحرب من مجرد خلفية للأحداث إلى قوة قاهرة تفرض وجودها على كل تفصيلة في السرد.

قدمت الكاتبة رواية تدمج بين البعد النفسي، الاجتماعي، والفلسفي، حيث لم تكتفِ برصد مأساة شخصية، بل فتحت المجال لطرح أسئلة أوسع حول الحرب، الهُوية، والذاكرة، بلغة مكثفة، وأسلوب سردي يحمل في طيّاته تلميحات رمزية تجعل النص متعدد الأبعاد، مما يمنحه قيمة فكرية تتجاوز مجرد الحكاية.

منذ البداية، لا تُقدم الرواية على أنها حكاية بطل تقليدي يسعى للنجاة، بل تتخذ منحى فلسفيا يطرح تساؤلات وجودية عن الفقد، والنجاة، والمقاومة، والذاكرة التي تصبح عبئا حين تتحول إلى أشباح تُطارد من بقي على قيد الحياة. زياد، بطل الرواية، ليس مجرد طفل فقد عائلته، بل هو ما يخلفه كل صراع وحرب، يجد نفسه أمام أسئلة لا إجابات لها، يقف على خط رفيع بين الحياة والموت، بين الرغبة في الاستسلام والقدرة على المقاومة، بين أن يكون مجرد ضحية أو أن يتحول إلى شاهد على مأساة جيله.

تمر شخصية زياد بتحولات نفسية حادة، تبدأ بالذهول والصمت، ثم تتحول إلى حالة من الغضب المكبوت، فالرغبة في اللحاق بعائلته، قبل أن يدخل في مرحلة التيه الذهني، حيث يصبح الحقل والفزاعة جزءا من وجدانه، هذه التحولات تعكس التجربة النفسية لمن يتعرض لصدمات حادة، فيتحول الشعور بالذنب إلى وحش ينهش الروح، ويتحول البحث عن إجابة لسؤال "لماذا بقيت؟" إلى رحلة طويلة من المعاناة.

تلعب "الفزاعة" في الرواية دورا مركبا، فهي ليست مجرد مجسم خشبي مهمل في الحقل، بل شريك صامت في معاناة زياد، وكأنها المرآة التي تعكس حالته النفسية. في البداية، تبدو مجرد شيء جامد، لكنها سرعان ما تتخذ شكلا أكثر تعقيدا، فتصبح كيانا يحمل دلالات متعددة، وكما بقيت الفزاعة واقفة رغم الدمار، بقي زياد وحده، وكأن كليهما يتشاركان المصير ذاته، وهي الشاهد على الخراب، كما شهدها زياد، وكأنها تحفظ ذاكرة الأرض.

وبقاء "الفزاعة" وسط الخراب يطرح تساؤلا: هل تقف لأنها قوية، أم لأنها بلا روح؟ هل بقاؤها نوع من الصمود، أم أنه مجرد عبث؟ وكذلك زياد، هل استمراره هو فعل مقاومة، أم مجرد عجز عن اتخاذ قرار الرحيل؟

كما تفتح الرواية باب الأسئلة حول تأثير الفقد على الهُوية، فزياد الذي فقد عائلته، يجد نفسه فاقدا أيضا لذاته، لا يعود يعرف من هو خارج إطار العائلة التي كانت تحدد وجوده، وحين يفقدهم، يبدأ في البحث عن ذاته بين الأنقاض، وفي ظل "الفزاعة"، وفي طين الأرض الذي يخفي داخله حبة البطاطا، التي تصبح نقطة التحول في الرواية.

حبة البطاطا تلك ليست مجرد اكتشاف بسيط، بل هي لحظة رمزية مكثفة، إذ تعني أن الحياة لم تنتهِ بعد، وأن الأرض، رغم الدمار، لا تزال قادرة على العطاء، في هذه اللحظة، يدرك زياد أن الذاكرة، رغم كونها مؤلمة، يمكن أن تكون أيضا مصدرا للأمل، وأن من يحمل الذكريات لا يعني بالضرورة أنه محكوم بالمعاناة، بل ربما تكون تلك الذكريات هي القوة التي تجعله يستمر.

لا تكتفي الرواية بمناقشة تجربة زياد الشخصية، بل تسلط الضوء على قضية أعمق تتعلق بذاكرة المجتمعات التي تعيش الحروب، كيف يتعامل المجتمع مع جيل الحرب؟ هل يحاول تضميد جراحه، أم يسعى لنسيانها؟ وتقدم غير مباشر للمجتمعات التي تحاول إخفاء معاناة الناجين، بدلا من منحهم فرصة للحديث والبوح واستيعاب الألم.

"فزاعة" بدرية البدري هنا لا تمثل فقط مأساة فردية، بل هي تجسيد لواقع أوسع، حيث تتحول الحرب إلى شيء يُراد طمسه بعد انتهائها، رغم أن آثارها لا تمحى بسهولة، وتشير الرواية إلى أن محاولات تجاهل المعاناة لا تعني زوالها، بل قد تؤدي إلى تراكمها في الذاكرة الجمعية، مما يجعلها تعود بطرق أكثر تعقيدا في الأجيال القادمة.

في النهاية، الفزاعة ليست مجرد رواية عن طفل في زمن الحرب، بل هي قصة عن الإنسان في مواجهة مصيره، وعن كيف يمكن للحياة، حتى في أكثر اللحظات ظلاما، أن تجد طريقًا للاستمرار.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

السودان الرجل الصالح .. والله في !

الإقصاء الأمريكي لبريطانيا من ملف السودان وتداعياته الجيوسياسية
في خطوة تحمل دلالات عميقة، أبعدت الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا عن ملف السودان في اجتماعات “الرباعية” المعنية بالشأن السوداني، والتي تضم كلاً من الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات. ورغم أن هذه الخطوة قد تبدو تكتيكية في ظاهرها، إلا أن خلفها قراءة استراتيجية تُعبر عن تحوّل في موازين التأثير الغربي في المنطقة، وربما تعكس رغبة أمريكية في احتكار مفاتيح التغيير والتحكم بالمشهد السوداني بعيدًا عن “شريكها التاريخي” الذي كان يحتل السودان بالأمس القريب.

أولاً: السياق التاريخي والرمزية
بريطانيا ليست مجرد دولة أوروبية عادية في ما يخص السودان، بل هي الدولة التي استعمرت السودان منذ عام 1898 عبر الحكم الثنائي (الإنجليزي-المصري)، وشكلت جزءاً محورياً في تشكيل بنيته السياسية والإدارية، وأخرجته إلى الاستقلال على طريقة “الفخاخ المزروعة” كما حدث في تقسيم الجنوب، وتكريس المركزية، وتمكين النخب التابعة. هذا الإرث لا يمكن عزله عن أي محاولة لفهم علاقة بريطانيا بالسودان أو تحليل موقعها في أي ترتيبات دولية تخصه.
وبالتالي، فإن إقصاءها بهذه الطريقة من الرباعية، ليس مجرد مسألة “تنظيم طاولة” بل إشارة ناعمة من واشنطن مفادها أن زمن لندن في الخرطوم قد ولّى، وأن الهيمنة على قرار السودان الإقليمي والدولي بات أمريكياً صرفاً، ولو بشراكة شكلية مع حلفاء من “الصف الثاني”.
ثانيًا: الرد البريطاني.. اعتراف بفلسطين

ولأن الدول لا تصمت طويلاً على الإهانة الدبلوماسية، جاء الرد البريطاني سريعًا ومفاجئًا: اعتراف رسمي بالدولة الفلسطينية. وهو اعتراف يبدو في ظاهره “دعمًا للعدالة وحقوق الشعوب”، لكنه من منظور العلاقات الدولية ليس إلا ورقة ضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، ومحاولة لاستعادة بعض الوزن الأخلاقي والاستراتيجي الذي فقدته بريطانيا في المنطقة.

ومن سخرية القدر أن هذه هي ذات بريطانيا التي منحت إسرائيل “الحق في وطن قومي” عبر وعد بلفور المشؤوم في 1917، أي أنها الدولة التي زرعت بذرة الأزمة، وتأتي اليوم لتعلن -بكل صفاقة سياسية– أنها تحاول إنصاف الشعب الفلسطيني. هذا الاعتراف ليس أكثر من محاولة لترميم موقعها في الشرق الأوسط، بعد أن أخرجتها واشنطن من بوابة السودان.

ثالثًا: ترامب والتبسيط الرأسمالي للسياسة
أما دونالد ترامب، التاجر الذي تسلل إلى البيت الأبيض، فقد مثّل قطيعة أخلاقية وعقلية عن مسار الدبلوماسية الأمريكية الكلاسيكية. لم يكن يرى العالم إلا من نافذة الصفقات: صفقة القرن، صفقة التطبيع، صفقة الانسحاب… رجل أعمال بقالة أكثر من كونه رجل دولة، اختزل قضايا الشعوب ودماءها في أرقام وإيصالات شراء.

سياسات ترامب كانت ولا تزال جزءًا من هذه الفوضى الموجهة التي أفضت إلى تعقيد المشهد السوداني والإقليمي، عبر ترك ملفات ملتهبة دون معالجة جذرية، بل وإشعال بعضها بهدف ابتزاز الحلفاء واستنزاف الخصوم.
خاتمة: الصراع ليس على السودان فقط
ما يحدث اليوم ليس مجرد تنافس دبلوماسي حول السودان، بل هو صراع على النفوذ في قلب أفريقيا، في منطقة تقاطع الموارد والثورات والصراعات. إبعاد بريطانيا من ملف السودان قد يبدو انتصاراً أمريكياً تكتيكياً، لكنه في حقيقته فتح الباب أمام تحالفات جديدة، وتحركات انتقامية ناعمة، كاعتراف لندن بفلسطين.

وبين طموحات واشنطن، وردود لندن، وارتجال ترامب، لن يكون السودان هو الضحية، ولن تُعاد صناعته خارج حدوده، ولن تُرسم له الأقدار على طاولات لا وجود لممثليه فيها، ولن تُختبر عليه معادلات النفوذ العالمي، ونحن سنرسم وطننا وحدنا .
وليد محمد المبارك
وليد محمدالمبارك احمد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • هل الخيار المتطرف الذي تبحثه إسرائيل في غزة قابل للتنفيذ؟
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • السودان الرجل الصالح .. والله في !
  • الأمير الذي نام طويلاً.. واستيقظت حوله الأسئلة
  • فجوة كبيرة بين الرواية الإسرائيلية وأعداد قتلى جيش الاحتلال في غزة
  • ترامب يقلص المهلة التي منحها لبوتين لوقف الحرب
  • ترامب: أنقذت العالم من 6 حروب.. وسأقلل مهلة الـ 50 يوما التي منحتها لبوتين
  • مشروع هارب وحرائق العراق.. حقائق علمية أم مجرد نظريات مؤامرة؟
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • ورقة تحليلية: فجوة كبيرة بين الرواية الإسرائيلية وأعداد قتلى جيش الاحتلال في غزة