حين تُكذّب الحربُ مقولةَ التفاوض
تاريخ النشر: 27th, March 2025 GMT
كتب الدكتور عزيز سليمان استاذ السياسة والسياسات العامة
قال أرسطو “نحن نخوض الحروب لنعيش في سلام”، لكن التاريخ، ذلك المعلّم الصلب، يعلمنا أن السلام ليس دائمًا ثمرة طاولة مستديرة، بل قد يكون غصنًا ينبت من رماد انتصارٍ كاسح. يتردد في الأذهان قولٌ شائع: “كل حربٍ لازم تنتهي بالتفاوض”، تعبيرٌ يحمل في طياته حكمةً شعبيةً تبدو بديهية، لكنه يصطدم أحيانًا بجدار الواقع الذي لا يرحم.
ميراث التاريخ: انتصاراتٌ بلا مساومة
لنعد بالذاكرة إلى أمثلةٍ تاريخيةٍ تُناقض هذا القول. حرب القرطاجيين الثالثة (149-146 ق.م) بين روما وقرطاجة لم تنته بتفاوض، بل بانتصارٍ روميٍّ مدوٍّ أحرق مدينة العدو وأذابها في ملح الأرض، كما يروي المؤرخون. وفي العصر الحديث، سقوط برلين عام 1945 على يد الحلفاء لم يترك للنازية بابًا للتفاوض، بل كان نهايةً حاسمةً أعقبتها استسلامٌ بلا شروط. حتى في حرب الاستقلال الأمريكية (1775-1783)، لم يكن انتصار المستعمرات على بريطانيا ثمرة حوارٍ دبلوماسيٍّ مبكر، بل جاء بعد معاركَ دمويةٍ فرضت واقعًا جديدًا.
يقول الفيلسوف توماس هوبز: “الحرب هي حالة الإنسان الطبيعية حين يغيب القانون”، لكن الانتصار العسكري قد يكون أحيانًا القانون الوحيد الذي يُنهي تلك الحالة. فالتاريخ لا يُكتب دائمًا بحبر الدبلوماسية، بل قد يُسطر بدماءٍ تُجبر المهزوم على الصمت.
السودان: حربٌ ترفض طاولة التفاوض
في السودان اليوم، حيث يتصارع الجيش الوطني مع مليشيا “الدعم السريع” (الجنجويد)، تبرز معالم صراعٍ قد يُثبت استثناءً لهذه المقولة. الجيش السوداني، مدعومًا بإرادة شعبيةٍ جارفة، يخوض معركةً ليست مجرد نزاعٍ على السلطة، بل حرب وجودٍ ضد قوى التمرد والعمالة. الشعب السوداني، ذلك العمود الفقري للأمة، لم يكتفِ بالمشاهدة، بل حمل السلاح إلى جانب جيشه، في مشهدٍ يذكرنا بقول شكسبير: “إذا لم تكن ذئبًا، أكلتك الذئاب”. هنا، لا مكان للتردد.
لماذا يبدو الانتصار الكامل للجيش محتومًا؟ أولاً، لأن الشعب السوداني يرفض الجنجويد رفضًا قاطعًا، ليس فقط لفظاعاتهم من نهبٍ وقتلٍ وتشريد، بل لعمالتهم المكشوفة لأجنداتٍ خارجيةٍ تُريد تقطيع أوصال البلاد. ثانيًا، لأن المجموعات المدنية التي ساندت المليشيا، سواء بنيةٍ أو بغفلة، فقدت مصداقيتها بعد أن كشفت الأيام خيانتها لتطلعات الشعب، فأصبحت كمن يحفر قبره بيده. ثالثًا، لأن الجيش ليس مجرد مؤسسةٍ عسكرية، بل رمزٌ للوحدة الوطنية في مواجهة الفوضى.
أصل المقولة: حكمةٌ أم وهم؟
من أين جاءت مقولة “كل حرب لازم تنتهي بالتفاوض”؟ لعلها وليدة تجاربَ مثل معاهدة فرساي أو اتفاقية كامب ديفيد، حيث أعقبت الحروبَ جلساتُ حوارٍ شكلت السلام. أو ربما هي صدى لقول تشرشل: “التفاوض أفضل من التقاتل”، معاد صياغته بلغةٍ شعبيةٍ عربيةٍ تلخص واقعًا شائعًا. لكنها، كما يقول نيتشه: “الحقائق الكبرى تبدأ كبدعٍ ثم تصير بديهيات”، قد تكون بدت بديهيةً حتى اصطدمت بحروبٍ لا تقبل الحلول الوسط.
خاتمة: السودان يكتب تاريخه
في السودان، قد لا تكون طاولة التفاوض سوى سرابٍ في صحراء الصراع. الجيش، بقوة الشعب، يسير نحو انتصارٍ قد يُعيد تعريف المقولة، ليثبت أن بعض الحروب تنتهي لا بحبر الأقلام، بل بحد السيوف. كما قال ابن خلدون: “إذا تعانى القومُ أمرهم، صلح حالهم”، والسودانيون اليوم يعانون أمرهم بإرادةٍ لا تُقهر. فلتكن هذه الحرب استثناءً يُضاف إلى سجل التاريخ، حيث الانتصار الكامل هو البوابة الوحيدة للسلام.
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السودان على مفترق طرق: حرب استنزاف أم مفاوضات جادة؟
واستعرض برنامج "سيناريوهات" التطورات الميدانية الأخيرة التي شهدت إعلان قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة بابنوسة الإستراتيجية وحقل هجليج النفطي، أهم وأكبر حقل نفطي في السودان.
بدوره، أعلن الجيش عن "انسحاب تكتيكي" بهدف حماية المنشآت النفطية الحيوية، في تطور يدخل الحرب مسارا تصعيديا ينذر بمرحلة أصعب.
وطرح البرنامج على ضيوفه تساؤلات جوهرية حول مستقبل السودان، ورأوا أن مستقبل السودان تحدده 3 سيناريوهات رئيسية:
استمرار حرب الاستنزاف لفترة طويلة على عدة جبهات رغم التكلفة البشرية والاقتصادية الباهظة. ترسيخ مناطق نفوذ يسيطر فيها كل طرف على مساحات شاسعة، مما يزيد احتمال تفكك البلاد. الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة وتفاقم الكارثة الإنسانية قد تجبر الأطراف على العودة إلى مفاوضات جادة والقبول بهدنة إنسانية على الأقل.وقد أسفرت الحرب حتى الآن عن مقتل نحو 150 ألف شخص، وفق تقارير الأمم المتحدة، بينما تجاوز عدد النازحين في الداخل والخارج 12 مليون سوداني.
وتفشت المجاعة في مناطق واسعة، خاصة في إقليم دارفور، مع وضع إنساني متدهور إلى مستويات غير مسبوقة.
وأشار الخبير الإستراتيجي والسياسي الدكتور أسامة عيدروس إلى أن الحدث الأكبر في التطورات الجارية هو سقوط مدينة الفاشر وما تلاها من مجازر وتصفيات عرقية.
ورأى عيدروس أن جغرافيا الحرب تظل كما هي دون تغيير كبير، مشيرا إلى أن الجيش يحتفظ بقوته النوعية من 25 فرقة، فقد منها 6 فرق كانت محاصرة، لكنه استطاع سحب قواته منها وإعادتها إلى الشمال.
السيطرة الجغرافية
وعلى صعيد توزيع السيطرة الجغرافية، أوضح رئيس تحرير صحيفة الوسط الدكتور فتحي أبو عمار من ميلانو أن 90% من كردفان -باستثناء عاصمة الإقليم الأبيض والدلنج وكادقلي- تحت سيطرة الدعم السريع، إضافة إلى الصحراء غرب دنقلا والدبة والمثلث والعوينات.
ومن جهة أخرى، شدد المتحدث باسم التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة -المعروف باسم صمود- الدكتور بكري الجاك من كمبالا على عدم وجود صيغة معروفة للحسم العسكري.
وأكد رفض التحالف للحرب مبدئيا وأنه لا يرى فيها وسيلة لتحقيق أي حلول في البلاد، محذرا من أن انخراط القوى المدنية والسياسية في الحرب يجعل تقسيم البلاد أمرا يسيرا وسهلا.
وفي إطار البحث عن الحلول الممكنة، استعرض البرنامج المبادرات الرئيسية لإنهاء الحرب، بدءا من مبادرة جدة التي انطلقت في مايو/أيار 2023 برعاية سعودية وأميركية وأدت إلى توقيع إعلان جدة الإنساني الذي نص على حماية المدنيين والمرافق، لكن الطرفين لم يلتزما به.
ثم تلتها مبادرة الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) التي بدأت في يوليو/تموز 2023 بدعم الاتحاد الأفريقي، لكنها واجهت تحديات بسبب رفض الحكومة السودانية رئاسة كينيا للجنة الرباعية متهمة الرئيس الكيني وليام روتو بالانحياز لقوات الدعم السريع.
ثم جاءت المبادرة الرباعية -التي تضم الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات- كآخر المحاولات لإنهاء الصراع
ودعا بيان المجموعة الصادر في 12 سبتمبر/أيلول الماضي إلى هدنة إنسانية مدتها 3 أشهر لتوفير المساعدات العاجلة، يليها وقف دائم لإطلاق النار ثم عملية انتقال سلمي للسلطة تمتد لـ9 أشهر تفضي إلى حكومة مدنية مستقلة.
شروط المبادرةولإنجاح هذه المبادرة، شدد مستشار المبعوث الأميركي السابق إلى السودان الدكتور كاميرون هدسون على ضرورة قبولها من الطرفين بدون شروط لوقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي أكد صعوبة تحقيقه.
واتهم هدسون دولا إقليمية بالضلوع في تأجيج الأزمة في السودان، مما يحول دون نجاح المبادرة الرباعية، موضحا أن الدعم الذي تتلقاه قوات الدعم السريع من دول إقليمية لا يمكن مقارنته بالدعم المحدود الذي يتلقاه الجيش السوداني من مصر أو السعودية أو قطر أو تركيا.
ويرى الجاك أن السيناريو المرجح ليس تقسيما إداريا منتظما كما حصل في ليبيا، بل تحول البلاد إلى كانتونات عسكرية تحكم بواسطة أمراء حرب يتقاسمون السلع ويسيطرون على بعض الموارد الاقتصادية، محذرا من استخدام عملات مختلفة وتوقف الخدمة المدنية والتعليم في مناطق واسعة.
وخلص عيدروس إلى أن السودان يقف على مفترق طرق خطير، حيث يتطلب إنهاء الحرب تضافر الجهود الدولية والإقليمية مع نهوض السودانيين أنفسهم لمقاومة العدوان ووقف النزيف، مع ضرورة ظهور طبقة سياسية جديدة ونخبة مستنيرة قادرة على تجاوز الصراع الصفري على السلطة وبناء مستقبل مستقر للبلاد.
Published On 12/12/202512/12/2025|آخر تحديث: 01:58 (توقيت مكة)آخر تحديث: 01:58 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2شارِكْ
facebooktwitterwhatsappcopylinkحفظ