في مطلع أبريل/نيسان الجاري، أطلقت الصين سلسلة مناورات عسكرية واسعة النطاق، بمشاركة كافة أفرع جيشها تقريبا، من القوات البحرية والجوية والوحدات الصاروخية.

لم تكن تلك مجرد تدريبات روتينية، بل محاكاة متقنة لسيناريو يُشبه الغزو الفعلي لجزيرة تايوان، حيث بدا واضحًا أن بكين تختبر خطة منسقة جرى إعدادها بغية الاستيلاء على المجالين البحري والجوي للجزيرة، وتتخللها عمليات حصار للممرات البحرية، وهجمات على مواقع برّية وبحرية معادية في المنطقة.

خريطة لتايوان والبر الرئيسي للصين و"خط الوسط" بينهما (الجزيرة)

من الناحية العملياتية، شهدت التدريبات مشاركة 76 طائرة مقاتلة، و21 سفينة حربية، من بينها مجموعة قتالية لحاملة طائرات مكوّنة من 8 سفن، بالإضافة إلى سفن من خفر السواحل؛ اقتربت بشكل غير مسبوق من السواحل التايوانية، وفق ما أعلنته وزارة الدفاع التايوانية.

لكن اللافت أن هذه المناورات جاءت بصمت مريب من قبل الحكومة الصينية، ودون إعلان المدة الزمنية المتوقعة لإنهاء التدريبات، أو تحديد مناطق الحظر البحري، كما جرت العادة. هذا الغموض، إلى جانب التعقيد اللافت في المناورات، دفع بعض المراقبين لوصفها بأنها أقرب ما تكون إلى "عملية ما قبل الغزو".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الصين تعلمت الدرس من اليابان.. كيف تهزم البحرية الأميركية؟list 2 of 2كندا لترامب وأوكرانيا لبوتين وتايوان لشي.. ملامح النظام العالمي الجديدend of list إعلان

لم تكتف الصين بالتحركات العسكرية فقط، بل شنّ إعلامها بالتزامن، بحسب الواشنطن بوست، حملة شخصية شرسة ضد الرئيس التايواني، لاي تشينغ تي، شبّهته بالمجرمين التاريخيين مثل أدولف هتلر، وبأشرار من عالم ألعاب الفيديو! كما اتهمته بممارسة القمع وتصفية خصومه بأساليب "مكارثية". ورافقت الحملة الدعائية ضد الرئيس لاي ملصقات حربية تدعي أن الجيش الصيني "يضيق الخناق" على من وصفتهم "بانفصاليي تايوان".

فكيف يمكن قراءة المناورة الصينية؟ وهل ثمة تصعيد محتمل في الأفق تكشف عنه المناورة أم تضاف إلى سلسلة من المناورات التي اعتادتها الصين خلال السنوات القليلة الماضية في محيط تايوان رغم التعقيد العملياتي التي تشهده التحركات الحالية؟

إشارات غير معتادة

ثمة إشارات سياسية وعسكرية تطلقها هذه المناورات الصاخبة، فالصين تبدو وكأنها تلتقط اللحظة، مستثمرةً في قلق تايوان المتزايد من التردد الأميركي، لا سيما بعد مواقف إدارة ترامب المتقلبة تجاه دعم أوكرانيا.

وتحاول بكين تأكيد الرسالة التي لا شك أنها تقلق صناع القرار في تايوان، ومفادها أن واشنطن لن تقاتل من أجلهم، وأن دعمها للجزيرة قد يكون ظرفيا، وقد تُبادله واشنطن بمكاسب أخرى تتفاوض عليها مع الصين.

بيد أن ما يجري قد يكون أعمق من مجرد رسائل سياسية، فمن المحتمل أن يكون جزءا من استراتيجية متكاملة تهدف إلى تطويق الجزيرة بشكل مستدام، تمهيدًا لعمل عسكري مباشر.

وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أن ثمة تحولا نوعيا في فلسفة التدريبات الصينية، فبينما كانت التدريبات في الأعوام السابقة تبدأ من الصفر، أي تنطلق من مرحلة بسيطة تتصاعد تدريجيًا. جاء عام 2025 بتبدّل لافت، إذ بدأ الجيش تدريباته من مستويات متقدمة وأكثر تعقيدا من الناحية التكتيكية، ما يعكس نضوجًا في التحضير واستعدادًا مختلفا.

وبصورة عامة، تزايدت الأنشطة العسكرية الصينية حول تايوان في الأشهر الأولى من العام الحالي، حيث تشير دراسة نشرتها كلية الحرب البحرية الأميركية إلى أن الجيش الصيني بات أكثر نشاطًا قرب تايوان مما كان عليه في الأعوام الماضية، مع زيادة العمليات اليومية، وزيادة وتيرة الدوريات والتدريبات.

إعلان

ووفقا للدراسة، ازداد عدد السفن الصينية العاملة في محيط تايوان خلال شهري يناير وفبراير حتى وصل إلى 419 سفينة، مقارنة بـ305 سفن في الفترة ذاتها من عام 2024، و218 فقط في 2023.

تدريب ولكن بطعم الحرب!

في المجمل لم يعد ممكنا قراءة التصعيد العسكري الصيني حول تايوان بكونه مجرد استعراض عضلات أو رسائل ضغط عابرة، بل تحوّل مع مرور الوقت إلى ما يشبه "البروفات" الجادة لمعركة محتملة. فالمناورات التي تنفذها بكين باتت أقرب ما تكون إلى "تدريب قتالي واقعي"، يُمارس في ظل ظروف تحاكي ساحات القتال الفعلية، وسط تهديدات ملموسة، وتجاور خطير مع خصوم استراتيجيين بحسب وصف بكين.

ومفهوم "التدريب القتالي الواقعي" لا يعني مجرد حركة آلية للقوات، بل يشمل التمرين باستخدام الذخيرة الحية، في بيئات غير مستقرة وأجواء مناخية صعبة، وضمن سيناريوهات تقترب من واقع الحروب.

ما يجري في محيط تايوان، إذن، ليس عرضًا عسكريًا بحسب ما يرى عدد من الخبراء العسكريين، بل مختبرًا مفتوحًا للتجربة والخطأ، واستيعاب الدروس القتالية الحية.

تتعامل الصين مع محيط تايوان على أنه "ميدان تدريب ضد العدو"، حيث يُشكّل الوجود العسكري الأميركي والتايواني والياباني فرصة لا تُعوض لمحاكاة المواجهة الفعلية، بحسب الباحث "ك. تريستان تانغ"، الذي وثّق في تقريره مدى اقتراب الطائرات الصينية من نظيراتها الأميركية، في مناورات تنطوي على جرأة ومخاطرة محسوبة.

وتأكيدًا على مدى الجهوزية، يمكن النظر إلى التدريبات التي أجرتها الصين في فبراير/شباط 2025، والتي شهدت مشاركة واسعة لسفن إنزال برمائية من النوع "071"، وحوض مروحيات من الطراز "075"، إلى جانب مدمرات وفرقاطات وسفن دعم، في منطقة "جيا لو تانغ" جنوب غرب الجزيرة، وهو موقع يُعتقد أنه سيكون بوابة الإنزال الأولى في حال اندلاع الحرب.

وعلى مدار الشهور الأخيرة، صعّدت بكين من وتيرة الدوريات المشتركة بين قواتها البحرية والجوية حول تايوان، بمشاركة أصول من مختلف فروع الجيش، في نمط يؤكد أنها ليست مجرد طلعات استكشافية، بل تدريبات حقيقية تُختبر فيها الجهوزية وتُقاس فيها كفاءة التنسيق بين وحدات الجيش المختلفة.

إعلان

كل هذه المؤشرات ترسم صورة لبلد لا يخفي استعداده لاستخدام القوة من أجل "توحيد تايوان"، بل يبدو أنه يتقن استغلال هذه المناورات لاختبار ردود الفعل الإقليمية والدولية، وهو يبعث برسالة مفادها أن الصين لم تَعُد تتدرب فقط، بل تتهيأ.

هل اقتربت ساعة الصفر؟

ما تقدم من تحركات لا يمكن قراءته بمعزل عن الصورة الأشمل، التي تتشكل شيئًا فشيئًا حول تايوان، فالأفق بات ملبدًا بإشارات توحي بأن الصين قد تقترب من لحظة القرار العسكري. أحد أبرز هذه المؤشرات هو التوغلات الجوية المكثفة التي نفذتها الطائرات الحربية الصينية في الأجواء الدفاعية لتايوان، والتي تجاوزت 3000 مرة خلال عام 2024 وحده.

هذه التوغلات ليست فقط رسائل ضغط أو اختبار حدود، بل هي جزء من نمط محسوب يُسمى في أدبيات الصراع العسكري "حرب المنطقة الرمادية"، ذلك الفضاء المراوغ بين السلم والحرب، حيث تُمارس الضغوط والاستفزازات دون تجاوز العتبة التي تفرض ردًا عسكريًا تقليديًا.

وفق تعريف قيادة العمليات الخاصة الأميركية، فالمنطقة الرمادية هي حلبة تنافسية تتحرك فيها الدول والجهات الفاعلة دون الانزلاق الكامل إلى الحرب، لكنها تستخدم أدوات الحرب الخفية: إنهاك الخصم، جمع المعلومات، قياس ردة الفعل، وبث الخوف.

وفي هذا الإطار، تبدو التوغلات الجوية الصينية كأنها اختبار مستمر للدفاعات التايوانية، تهدف إلى استنزاف الموارد، ورصد نمط الاستجابة، واكتشاف مكامن الضعف، لا سيما في ظل الشكوك المتزايدة حول مدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن الجزيرة.

وليس الأمر محصورًا في السماء، ففي البر والبحر، تعمل الصين على تعزيز أدواتها اللوجستية والهجومية استعدادًا لسيناريوهات أبعد من مجرد الضغط. ومن أبرز معالم هذه الاستعدادات ظهور ما يُعرف بـ "صنادل الإنزال المتخصصة"، المعروفة باسم "فئة شوكياو"، وهي آليات بحرية صُممت خصيصًا لنقل الدبابات والمدفعية والمعدات الثقيلة مباشرة إلى السواحل التي تفتقر إلى بنية تحتية مرفئية.

إعلان

ما يميز هذه الصنادل ليس فقط حمولتها، بل قدرتها على تشكيل جسور عائمة أو أرصفة مؤقتة، تُثبّت في قاع البحر بأرجل معدنية، لتسمح للمركبات بالنزول المباشر إلى البر، في ظل ظروف بحرية صعبة. وفي مشهد يُشبه البنية التحتية المتنقلة، وبذلك يصبح كل شاطئ وجهة محتملة للإبرار، وكل زاوية غير محصنة ثغرة يمكن اقتحامها.

وقد رُصدت بالفعل ثلاث من هذه الصنادل في حوض بناء السفن بمدينة غوانغشو في يناير/كانون الثاني 2025، قبل أن تلتقطها الأقمار الصناعية خلال اختبارات قبالة الساحل الجنوبي للصين في مارس/آذار الماضي، وهي تمد جسورها على الماء، وتحاكي لحظة الوصول إلى اليابسة.

ويرى فريق من محللي الدفاع أن هذه الصنادل تمثل حجر زاوية في استراتيجية الصين لغزو تايوان، إذ تمنح الجيش الصيني مرونة كبيرة في اختيار نقاط الإنزال، بعيدًا عن المواقع المُحصنة تقليديًا. إنها تُمثل الوجه العملي لما تُخفيه الصين من استعداد مدروس، وخطة مرنة، وإصرار يتجاوز التلويح بالقوة إلى محاكاةٍ دقيقةٍ لتفاصيل المواجهة.

في مجمل المشهد، تتقدم الصين بثبات نحو إعادة صياغة الجغرافيا السياسية في مضيق تايوان، لا من خلال الكلمات أو البيانات، بل عبر الصلب والحديد والسماء التي تضيق يومًا بعد يوم.

طائرة مقاتلة نفاثة تقلع من حاملة الطائرات الصينية شاندونغ، فوق مياه المحيط الهادي. (رويترز) استعداد شامل

هكذا تشير التطورات إلى جهوزية كاملة للصين لعملية الغزو تنتظر القرار السياسي، فقد تزايدت أعداد القوات الصينية قرب تايوان بشكل هو الأكبر على الإطلاق، واقتربت السفن الحربية من السواحل التايوانية إلى مسافة لا تتجاوز 6 كلم (مسافة تكاد تُلامس النبض الدفاعي للجزيرة).

وفي العمق التايواني، تكشف التحقيقات عن تزايد حالات التسلل الاستخباراتي، مع ضبط عملاء صينيين يعملون في مواقع شديدة الحساسية، ما يوحي بأن المواجهة بدأت فعلًا، وإنْ كان ذلك عبر وجهها الخفي.

إعلان

لكن الصين لا تكتفي بالتفوق العسكري وحده، حيث تبني أرضية قانونية متقنة تُضفي على مشروع الغزو ملامح "المشروعية"، فيما يعرف في أدبيات الحرب باسم "الحرب القانونية"، وفي هذا السياق، تسنّ بكين القوانين وتُفعّل النصوص التي تمنح غطاءً قانونيًا لأي تحرك عسكري تجاه تايوان، سواء أمام الشعب الصيني أو على طاولة الرأي العام الدولي.

ويشكّل مبدأ "الصين الواحدة" العمود الفقري لهذه العقيدة، حيث تُصوِّر أي خطوة تجاه تايوان على أنها شؤون داخلية بحتة، لا يحق لأي قوة خارجية التدخل فيها.

ويعزّز هذا التوجه قانون مناهضة الانفصال (2005)، الذي يتيح للصين استخدام "وسائل غير سلمية" إذا ما سلكت تايوان طريق الانفصال أو تعذّر تحقيق التوحيد السلمي. يضاف إلى ذلك قانون الأمن القومي (2015) وقانون الدفاع الوطني (2020)، اللذان يدمجان الملف التايواني في منظومة الأمن القومي الشامل، ليجعل من الحل العسكري أداة شرعية لا بديل عنها، إذا ما اقتضت الضرورة.

متظاهرون مؤيدون للصين الواحدة وآخرون يؤيدون تايوان في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة عام 2017 (رويترز) متى وكيف؟

في عام 2021، أطلق الأدميرال الأميركي المتقاعد فيل ديفيدسون تحذيره الشهير: الصين قد تكون مستعدة لضم تايوان بحلول عام 2027.

ومنذ ذلك الحين، تحوّلت "نافذة ديفيدسون" إلى محور في تحليل الإستراتيجية الأميركية في المحيطين الهندي والهادي. ويرى العديد من المحللين أن هذه النافذة يمكن أن تتسع لتشمل ما بين عامي 2024 و2028، لتشكل فترة مثالية لشنّ عملية عسكرية، في ظل جهوزية الصين المتصاعدة، والتصدعات الظاهرة في الجبهة الغربية، لا سيما بين ضفتي المحيط الأطلسي.

لكنّ بكين براغماتية على الدوام، لا تُراهن فقط على الضربة المفاجئة، فهناك سيناريو آخر، يطفو تدريجيًا إلى السطح، عنوانه "الحصار الخانق"، هدفه ليس غزو الجزيرة، بل البدء بعزْلها، وربما إخضاعها دون إطلاق رصاصة، ولو لم يحدث ذلك فربما يكون العزل مقدمة للغزو.

إعلان

فبحسب خبراء عسكريين تحدثوا إلى وول ستريت جورنال، فإن الصين طورت "قوة هجينة" تجمع بين العناصر العسكرية والمدنية، قادرة على تنفيذ حصار شامل يبدأ بضربة جوية تستهدف البنية التحتية الحيوية لتايوان، من المطارات والموانئ إلى محطات الطاقة والمنشآت العسكرية.

في هذا السياق تحلق المقاتلات، وتتغطى السماء بالطائرات المسيرة والمروحيات، بعد ذلك يبدأ بناء الحصار، حيث تدور السفن الحربية حول الجزيرة، محافظةً على مسافة من ساحل تايوان لتجنب الصواريخ المضادة للسفن المتمركزة على الشاطئ.

في قلب المشهد، تتربص مجموعة حاملة طائرات هجومية جنوب شرق تايوان، حيث تنطلق منها طائرات مقاتلة من طراز "جي-15″، هدفها ردع أي دعم خارجي، وتحديدًا الأميركي.

وعلى خط الساحل، ينتشر خفر السواحل الصيني، بينما تُزج السفن المدنية -من قوارب الصيد إلى ناقلات الشحن- لإغلاق الفجوات البحرية. فالصين تملك ما يمكن اعتبارها "مليشيا بحرية"، وهي عبارة عن سفن مدنية تعمل في الشحن أو الصيد تُنفّذ مهامّ عسكرية بغطاء مدني.

ولإبعاد السفن التجارية، ستزرع الغواصات الصينية ألغامًا في موانئ تايوان الرئيسية، ثم تعمل سفن الشرطة البحرية على مراقبة المنطقة وتمنع أي سفن أخرى من الاقتراب، كما ستوضع سفن شحن وسفن سياحة كبيرة عمدًا أمام الموانئ لمنع الدخول والخروج.

بعد ذلك، تبدأ عملية العزل السيبراني، فتسحب بعض سفن الشحن الصينية مراسيها على قاع البحر بهدف قطع كبلات الإنترنت التي تصل تايوان بالعالم، مع حرب إلكترونية صينية تستهدف قيادة الجيش التايواني والأنظمة المالية والمصرفية، مما يغرق البلاد في فوضى شاملة.

في ضوء هذه الصورة المتداخلة، من الجهوزية العسكرية إلى التعبئة القانونية، ومن التوغلات الرمادية إلى هندسة الحصار، تبدو الصين كأنها تسير بخطى مدروسة نحو هدفها التاريخي. قد لا تستعجل الحرب، لكنها في كل الأحوال لم تَعُد تخشاها.

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد محیط تایوان حول تایوان عسکری ا فی هذا

إقرأ أيضاً:

إلغاء تأشيرات الطلاب واتساع رقعة الحرب التجارية الأميركية الصينية

علاقة الصراع بين أميركا والصين بدأت مبكرًا، وإن كانت وصلت إلى الحرب الاقتصادية العلنية مع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى 2017-2020، ويمكن رصد مسيرة الصراع منذ مطلع الألفية الثالثة حتى الآن في 5 محاور رئيسة.

فقد شملت دائرة الصراع الاقتصادي الأميركي الصيني المحاور الآتية:

اتهام الصين بإصرارها على إبقاء قيمة عملتها منخفضة من أجل زيادة الصادرات. اتهام الصندوق السيادي الصيني بممارسة دور سياسي. اتهام شركات التكنولوجيا الصينية بالقيام بأعمال تجسس. قيام أميركا باستخدام آلية الرسوم الجمركية بشكل مبالغ فيه ضد الواردات من الصين. الإعلان عن العزم على البدء بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين، وبخاصة أولئك الذين يرتبطون بعلاقة بالحزب الشيوعي، أو يدرسون في تخصصات حساسة.

وهنا يأتي التوظيف السياسي للقرار المزمع اتخاذه من قبل أميركا تجاه الطلاب الصينيين، إذ سيصنف الطلاب حسب انتمائهم السياسي داخل بلدهم، وكذلك نوعية الدراسات التي يلتحقون بها.

ووصفت الخارجية الصينية إعلان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأنه غير منطقي، وأنه يضر بمصالح الطلاب الصينيين. ويذكر أن الطلاب الصينيين يعدّون من أحد أهم مصادر التمويل للجامعات الأميركية، لكونهم يدفعون رسوما دراسية كاملة.

إعلان

وتذهب بعض التقديرات إلى أن عدد الطلاب الصينيين بأميركا يصل إلى 277 ألف طالب بمراحل التعليم الجامعي والدراسات العليا، وترصد بعض التقارير أن العدد في تناقص منذ عام 2021، إذ كانت الأعداد تزيد على 300 ألف طالب.

وذكرت وكالة بلومبيرغ أن نواب من الحزب الديمقراطي قد نبهوا في تقرير لهم إلى خطورة اطلاع طلاب صينيين على أبحاث موّلت من قبل وزارة الدفاع، وهو ما يعني نقل أسرار هذه الدراسات لدولة معادية.

وهنا الملاحظة المهمة، والتي يمكن من خلالها قراءة خلفيات ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي، أن الأمور تأتي من خلال مخاوف أمنية تتعلق بنقل للتكنولوجيا، وبخاصة في ظل الحرب الاقتصادية المعلنة بين أميركا والصين.

الجدير بالذكر أن بعثات الصين التعليمية إلى أميركا بدأت في سبعينيات القرن العشرين بمبادرة من الرئيس الأميركي جيمي كارتر، إذ بدأت بابتعاث نحو 10 آلاف طالب صيني، إلا أنها في السنوات الأخيرة في أقل تقديراتها، وكانت في بعض السنوات قد تجاوزت 900 ألف طالب.

المصالح لا المبادئ

على الرغم من تبنّي مشروع العولمة الأميركي منظومة من المبادئ، من حرية التجارة والاستثمار الأجنبي، والمنافسة الاقتصادية والتجارية، وتوزيع المنافع بين الشركاء في الاقتصاد العالمي، فإن الواقع يعكس صورة أخرى عمادها أن المصالح مقدمة على المبادئ، والأخطر أن العلاقة بين القوى الاقتصادية تأتي في إطار الصراع وليس المنافسة، وعكست صحة هذا الادعاء ممارسات ترامب في مواقف عدة تتعلق بالرسوم الجمركية وحجب التكنولوجيا.

ولذلك كثُر المتضررون من ممارسة أميركا الاقتصادية، سواء من خلال تصديرها لمشكلاتها الاقتصادية الداخلية، عبر سياساتها المالية والنقدية، أو الخروج على منظومة المنظمات الدولية المعتمدة على مبدأ "تعدد الأطراف".

فالعجز التجاري المزمن في أميركا، وإشكالية دينها العام المتزايد، يضغطان على الوضع المالي هناك، مما دعا لإعادة التصنيف الائتماني لأميركا من قبل وكلات التصنيف الدولية، حيث تراجع تصنيف أميركا على مؤشر وكالة موديز في مايو/أيار 2025 من "إيه إيه إيه" إلى "إيه إيه1".

إعلان تجاهل التاريخ

محاور الصراع والحرب الاقتصادية بين أميركا والصين تم تناولها ومناقشتها من قبل بشكل واسع عبر وسائل الإعلام أو الحلقات العلمية، إلا أن الخطوة الأخيرة التي تخص إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين هي الأكثر حداثة في مسيرة الصراع.

وإن كانت أميركا تقوم اليوم باتخاذ مثل هذه الخطوة ضد طلاب الصين فمن الوارد أن تتخذها ضد دول أخرى كلما شعرت بأن هؤلاء الطلاب يسعون لنقل التكنولوجيا لبلدانهم، أو أن هذه الدول تمثل نوعًا من المنافسة غير المرغوبة للاقتصاد الأميركي.

ولكن على أميركا أن تعي أن سجلات التاريخ محفوظة، وأنها إبان بناء نهضتها اتجهت لإرسال طلابها إلى دول أخرى في بعثات تعليمية أسهمت في تقدمها تكنولوجيًّا، فالكاتب البريطاني جون تشانج يذكر في كتابه "ركل السلم بعيدًا.. إستراتيجيات التنمية والتطور قديمًا وحديثًا" أنه مما يدلل على تقدم نوعية التعليم في ألمانيا أنه "قدم إليها 9 آلاف أميركي للدراسة بين عامي 1820-1920".

وإن كانت الفترة تمتد إلى 100 عام، إلا أن المبدأ نفسه استفادت منه أميركا، ولنا أن نتخيل هذا العدد في ذلك الزمن، فهو عدد معتبر بمعايير عدد السكان آنذاك، كما أن الأيام دول وأميركا لم تكن بلا هدف من وراء بعثاتها التعليمية لألمانيا، فقد رأينا كيف لعبت أميركا أدوارا متعددة في الحربين الأولى والثانية، مكنتها في ما بعد من قيادة العالم، وكان للعلم والبحث العلمي دور كبير في هذا الأمر.

ويقدر عدد الطلاب الوافدين إلى أميركا في عام 2024 بنحو 1.1 مليون طالب، يمثل الطلاب الهنود والصينيين منهم نصيب الأسد بنحو 50%، وإن كانت الهند تتقدم الصين من حيث عدد الطلاب الوافدين لأميركا.

التأثير الاقتصادي

حسب بيانات البنك الدولي، تبلغ صادرات الخدمات الأميركية في 2023 نحو تريليون دولار. تستحوذ الصين منها على قرابة 50 مليار دولار، حسب أرقام العام نفسه، بينما الأرقام الخاصة بصادرات الخدمات التعليمية الأميركية للصين بلغت 14.3 مليار دولار.

إعلان

وإن كان الرقم كبيرا إلى حد ما، عندما ننظر إليه في ضوء إنفاق الدول الأخرى على الخدمات التعليمية بأميركا، إلا أنه لا يمثل شيئا يذكر عند مقارنته بالناتج المحلي الإجمالي الأميركي البالغ 27.7 تريليون دولار في عام 2023.

ثقل إنتاج التكنولوجيا

التأثير الاقتصادي قد يُنظر إليه في الأجل القصير أو في الجانب المباشر بحجم إنفاق هؤلاء الطلاب وما يحدثونه من زيادة في الطلب على السلع والخدمات، ولكن التأثير غير المباشر هو ما استرعى انتباه إدارة ترامب، ومن قبلها مسؤولين أميركيين، إذ يتمثل هذا الأثر غير المباشر في تغيير ثقل إنتاج التكنولوجيا، فقد لاحظ النواب الأميركيون أن طلاب الصين يمثلون الكتلة الأكبر من الطلاب الأجانب بالجامعات الأميركية في مجالات العلوم والتكنولوجيا.

ولكنّ ثمة أمرا مهمًّا يتعلق بإسهام الأجانب في تطوير البحث العلمي بأميركا، حيث تعتبر إسهامات الأجانب ملموسة ولا يمكن تجاهلها، وقد تؤدي الخطوة الأميركية إلى تأثير سلبي على مسار البحث العلمي في ضوء منع تأشيرات الدخول للبلاد للطلاب الصينيين.

ويتوقع أن يتزايد الصراع بشكل عام، وفي مجال البحث العلمي بشكل خاص، وكلا الطرفين بلا شك سوف يبحث عن بديل، فقد تذهب الصين بطلابها للأبواب الخلفية للتكنولوجيا الأميركية في الهند أو كوريا الجنوبية.

بينما قد تفتح أميركا الباب لجنسيات أخرى من أميركا اللاتينية أو تزيد حصة الطلاب من شرق آسيا لتعويض الحضور الصيني في التعليم الجامعي والدراسات العليا.

ونحسب أن حسابات كلا الطرفان إستراتيجية ولا تخضع للتكتيك، فالصراع في طريقه للتزايد، وحتى لو هدأت ملفات أخرى تتعلق بالرسوم الجمركية، إلا أن ملف نقل التكنولوجيا من أميركا للصين ستكون له حسابات أكثر تشددًا، وهو أمر يمثل اتفاقا بين الحزبين الأميركيين، الديمقراطي والجمهوري، فإبان ولاية بايدن زادت القيود التكنولوجية على الصين.

إعلان

مقالات مشابهة

  • تايوان تتأهب لـ"المنطقة الرمادية": مناورات مشتركة لمواجهة التهديدات الصينية
  • مجلة الجيش الصيني: على البحرية الصينية أن تتعلم من معارك البحر الأحمر
  • بحرية الصين تؤكد تعلمها من الدروس التي تجرعها الأمريكان على يد اليمن في البحر الأحمر
  • تايوان تجري تدريبات عسكرية بالقرب من بحر الصين الجنوبي
  • برلين تتجهز تحت الأرض لمواجهة قد تندلع في 4 سنوات.. هل اقتربت الحرب من أوروبا؟
  • اقتربت من نصف مليون.. المرور تطرح لوحة سيارة مميزة في المزاد العلني
  • لمواجهة التهديدات الصينية.. تايوان تجري تدريبات بين الجيش وخفر السواحل
  • أسعار النفط تتجه لتحقيق مكاسب مع استئناف المحادثات الصينية الأمريكية
  • جنون لابوبو.. كيف اجتاحت الدمية الصينية العالم؟ وكيف تأثرت بحرب ترامب التجارية؟
  • إلغاء تأشيرات الطلاب واتساع رقعة الحرب التجارية الأميركية الصينية