تقرير :الحرب .. تسلب آخر مأوى للنازحين
تاريخ النشر: 18th, April 2025 GMT
غزة "عُمان" بهاء طباسي: بين ركام الخيام، فوق تراب الأرض العارية، تناثرت قطع قماش محترقة وعلب طعام مهشّمة، وكرسي متفحم لطفل مبتور الأطراف. لم يكن هذا مشهدًا من أطراف كارثة طبيعية، بل هو ما تبقى من حياة مئات العائلات النازحة في قطاع غزة، بعدما اجتاحها القصف الإسرائيلي بلا رحمة. فجرًا، حين كان بعضهم يستعد لصلاة الفجر، وآخرون يغطّون في نوم ثقيل تهاوت الخيام فوق رؤوس ساكنيها، وتبدّدت الأغطية والذكريات وأدوات المعيشة في لمح البصر.
شتات الخيام المحترقة
في مخيمات النزوح المنتشرة جنوب القطاع، لم تكن الخيمة مجرد غطاء من قماش بلون الغبار، بل بيتًا مؤقتًا حمل أحلام الناجين، وأحاط أوجاعهم بما يشبه الأمان الهش. الآن، أصبح هذا الملاذ المؤقت أثرًا بعد عين، وتحوّل إلى شاهد إضافي على استهداف ممنهج لحياة المدنيين، بما في ذلك أولئك الذين فرّوا من الجحيم، ليصطدموا بجحيم آخر.
ما تبقى من الخيام لم يعد يصلح حتى لإيواء قطة ضالة. وبينما يحاول النازحون جمع بقايا أغطيتهم الممزقة أو البحث عن أدوات طهو بسيطة تحت الأنقاض، تلاحقهم الطائرات المُسيرة، وتقصفهم نظرات الخوف من أطفالهم الذين فقدوا حتى قدرتهم على البكاء. ومع كل غارة، تزداد فوهة الهاوية التي يُدفع فيها هؤلاء، حتى لم يعد هناك ما يُسمى «مكانًا آمنًا»
إنهم في العراء الآن، بلا خيم، بلا مأوى، بلا كهرباء، بلا غذاء. تتكئ النساء على الحائط المتبقي من مبنى مدمر، والأطفال ينامون على أرضية من الغبار، والشيوخ يجلسون على حواف القهر، ينتظرون عودة ضائعة لأبسط حقوق الحياة: سقف فوق رؤوسهم.
رحلة الألم اليومية
تقول النازحة أم محمد ابو الروس(35 عامًا)، من مدينة، جنوبي قطاع غزة، وهي تحتضن ابنها المريض وقد غطت أنفه بقطعة قماش مبللة تقول لـ«عُمان»: «ابني يحتاج إلى جلسات علاج بالبخار من أجل التنفس، لازم ياخدها كل يوم. ما في كهرباء. عشان أديه تبخيرات لازم أروح عند ناس عندهم ألواح طاقة شمسية. ومع القصف على الخيام والمنازل، الطاقة كلها خربت».
تتابع وهي تنظر شرقًا، حيث تتصاعد أعمدة الدخان من آخر قصف: «لازم أضطر كل يوم أروح من شرق خان يونس إلى مستشفى ناصر وسط القصف عشان ابني يأخذ تبخيراته. الطريق طويل، والخوف في كل خطوة. مرات أوصل وألاقي المستشفى مزدحم، ومرات ما ألاقيش تبخيرات. بس ابني لو ما خذهاش، ممكن يختنق. إحنا نعيش في رعب يومي».
تحاول أم محمد أن تحافظ على توازنها النفسي وسط كل هذا الخراب، لكنّ صوتها المرتجف وعينيها المتورمتين يفضحان ما لا تستطيع الكلمات وصفه: «إحنا مش طالبين شي، بس نعيش، بس ابني يتنفس، بس نكون بأمان. الاحتلال ما خلاش لنا شي، حتى خيمتنا دمرها. وين نروح؟».
بلا وطن
أما أبو صبحي زيد (62 عامًا)، الذي نزح من حي الزيتون، فيقف أمام ركام خيمته، ويشير بيده المرتجفة إلى حيث كان يعيش مع أولاده الأربعة: «هذه الخيمة تأوي أربع شباب، أولادي وزوجاتهم. ليس لنا في مقاومة ولا لنا في حاجة. مخلوش لنا حياة بالمرة هين في الخيمة. دمروا حياتنا. الخشب اللي كان يأوينا واللي كنا ننام تحت تعريشته كله تحطم».
يضيف بحسرة لـ«عُمان»: «واحنا مش عارفين وين نروح؟ لا فيه خيم ولا فيه حاجة. وضعنا صعب. بنتخبى ورا الجدران المهدومة، نلمّ شراشف من تحت الردم، نوكل خبز ناشف، ونشرب من جركانات فيها ريحة وقود. وين الإنسانية؟».
صوته المرتفع لا يخفي دمعته التي انحدرت رغمًا عنه: «يا بني، أنا رجل كبير، بس أولادي شباب، بيستاهلوا يعيشوا مع مرتاتهم وعيالهم، يفرحوا. الاحتلال قتل أحلامهم، حتى لو ما قتلهمش مباشرة».
ويختم كلماته بالقول: «إحنا مدنيين، والله مدنيين. شو ذنبنا؟ ليه بيقصفونا حتى وإحنا في الخيام؟».
الفرار... ثم لا عودة
محمد أبو نمر، نازح آخر من خان يونس، يروي مأساة ليلة من ليالي الرعب: «استيقظنا الساعة 5 الفجر على الناس تجري في الشارع، وتقول فيه إخلاء، هربنا بالملابس اللي علينا دون غسل وجوهنا حتى. ورجعنا بعد نصف ساعة على الحارة لم نجد ولا خيمة، هذه خيمتى تدمرت، وخيمة إخوتي، ودار عمي قُصف».
يتوقف، ينظر حوله، وكأن المشهد ما زال يحيطه: «كل المنطقة محيت، المربع كله، واحنا الحين الدنيا ما زالت شتاء، وفش خيم ولا شوادر، فش حاجة متوفرة لنا، فش مصاري. مش عارفين أين سننام؟ في الشارع. إحنا مدنيين فش عندنا ولا حاجة. وهذه نقطة طبية لوكالة الأونروا اتدمرت بردو».
يسترسل وهو يحدّق في كومة من الخشب المحترق: «حتى وكالة الغوث مش قادرة توفر خيم جديدة. صاروا يعتذروا، الوضع أكبر منهم. بس إحنا اللي بندفع التمن. كل يوم بنعيش نكسة جديدة، وكل مرة منعيد بناء خيمة من بواقي القماش، بنخاف تيجي غارة جديدة وتدمرها».
ثم يضيف بصوت واهن خلال حديثه لـ«عُمان»: «نفسي أصحى يوم ألاقي خيمتي موجودة، بس. مش طالب بيت، بس خيمة تأويني».
لا نجاة من القصف
أما شكرية الأغا (49 عامًا)، فتقول وهي تقف فوق ما تبقى من خيمتها، وقد لفت كتفيها ببطانية مهترئة: «والله احنا كنا نائمين، الساعة 5 ونص تقريبا كنت بصحي في زوجي، شفت الجيران بيجروا، سألناهم إيش في؟ قالوا: بدهم يقصفوا مكاننا. فشردنا. ولما رجعنا لقينا كل الخيم على الأرض، حتى الملابس احترقت».
تتابع بانفعال خلال حديثها لـ«عُمان»: «جيش الاحتلال يتعمد استهداف خيام النازحين، طب وين بدنا نروح؟ دمروا منازلنا، وهالقيت بيقصفونا في الخيام، صعبوا علينا عيشتنا الله يدمرهم».
تكمل شهادتها والعين تدمع: «حتى الأدوات البسيطة، الغاز، الأغطية، كلها صارت رماد. والشتاء بجلدنا، والبرد بيكسر عظام ولادي، وما عنديش وين أغطيهم».
ثم تختم: «هذه مش حياة، هذه جنازة ممتدة. إحنا ندفن حالنا كل يوم، تحت الأنقاض وتحت القهر».
بيت لاهيا... البرد والخوف
في بيت لاهيا شمال القطاع، قال ناصر سليم (41 عامًا)، نازح وأب لخمسة أطفال: «ضربوا الخيام عنا الساعة 4 الفجر، كنا نايمين، والأولاد صحت على صوت الانفجارات. لما طلعنا، لقينا كل شي مدمَّر، خيمتنا كانت آخر وحدة ضلّت صامدة، بس انهارت على آخرها».
يضيف بحزن لـ«عُمان»: «كنا نظن إنو شمال القطاع خلاص ما فيه ضرب، بس شكلهم بيتعمدوا يقصفوا كل منطقة فيها خيام. ما خلوش لا كبير ولا صغير. بنتي عمرها 6 سنين صار عندها تبوّل لا إرادي من الخوف».
يُكمل بينما يحمل بين يديه صورة ابنته الصغيرة: «ما عنا إلا الله، لا منظمات ولا حد بيسأل عنا. كل يوم ننتقل من مكان لمكان، كأننا أشباح. نعيش على المساعدات من أهل الخير. والله تعبنا. تعبنا».
خيمة من ستارة مشتعلة
في مدينة غزة، تروي أم نضال البلعاوي (52 عامًا): «قصفوا مخيمنا جنب المستشفى المعمداني، اللي قصفه الاحتلال، كنا نحتمي بجانب سور مهدود، ما خلونا نرتاح. وبص على المستشفى مدمرة على الآخر».
وتقول لـ«عُمان»: «بقينا نبني الخيمة بيدينا، أنا وبناتي، من مشمعات وبقايا ستائر. ويومين بس، وقصفوها. حسيت إنهم بيطاردونا، كأنهم بيقولوا لنا: موتوا، احنا مش بدنا حدا يعيش».
ثم تختم بصوت مبحوح: «أنا ما بكيت على بيتي، بكيت لما بنتي قالت لي: ماما ليش ما عنا سقف زي الناس؟».
وسط رماد الخيام
في تصريح خاص لـ«عُمان»، قال إسماعيل الثوابتة، مدير عام مكتب الإعلام الحكومي في غزة: «إن استهداف الاحتلال الإسرائيلي لخيام النازحين جريمة مركّبة، تُمثل خرقًا واضحًا لكل الأعراف الإنسانية، وتُظهر تعمدًا في قتل الحياة في غزة. لم يكتفِ الاحتلال بتدمير المنازل والمنشآت، بل يواصل انتقامه من المدنيين حتى بعد نزوحهم وتشريدهم».
ويضيف الثوابتة: «ما نشهده اليوم هو تطهير إنساني ممنهج. كل خيمة مدمّرة تعني عائلة بلا مأوى، وطفلًا بلا أمان، وأمًا بلا قدرة على تقديم الحد الأدنى من الحياة لأبنائها. إنهم يقتلون الإنسان الفلسطيني معنويًا وماديًا».
ويتابع: «المساعدات الإنسانية لا تدخل، والخيام البديلة ممنوعة من العبور. القطاع الصحي منهار، والمياه ملوثة، والكهرباء معدومة. وسط هذا الخراب، لا يمكن للعالم أن يصمت أكثر، لأن الصمت في هذه المرحلة تواطؤ».
وفي ختام تصريحاته، طالب الثوابتة المجتمع الدولي، وكافة منظمات حقوق الإنسان، بالتحرك الفوري والعاجل لوقف هذه الجرائم، وتأمين الحماية الدولية للنازحين: «إن غزة اليوم تقف عارية في وجه القتل، وتستحق الحياة».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
لماذا لم تنتصر إسرائيل رغم تفوقها؟
بعد ما يقرب من العامَين من الحرب على غزة والمنطقة، أظهرت "إسرائيل" تفوقًا ملحوظًا في المجالَين: العسكري، والأمني، مع دعم شبه مطلق من الولايات المتحدة، ما مكّنها من إنزال خسائر كبيرة بكل أعدائها، لكن ذلك لم يمنحها فرصة إعلان نصر واضح أو حاسم.
التفوق الساحقمنذ اللحظة الأولى، قررت دولة الاحتلال طي صفحة عملية طوفان الأقصى بكل تأثيراتها السلبية عليها والإيجابية لأعدائها، ضمن سياسة "كيّ الوعي" وفرض نسيان ما حصل يومها من انتكاسة كبيرة لها على كافة المستويات.
كما ترسخت القناعة بالخطر الوجودي على دولة الاحتلال، ما فرض عليها تغيير تعاملها مع التهديدات التي تواجهها في المنطقة، إضافة إلى الرغبة في استعادة ثقة الجبهة الداخلية بالدولة والمؤسسة العسكرية والحكومة، فضلًا عن كون ما حصل فرصة غير مسبوقة لفرض وقائع ومسارات جديدة على المنطقة في إطار "تغيير خرائط الشرق الأوسط"، والتي كانت خطة معدة مسبقًا وُضعت في إطار التنفيذ.
تفاعل كل ما سبق ليولّد "إسرائيل" جديدة، في ذروة العدوان والوحشية والدموية، بنظرية أمنية مختلفة، لا تنتظر حصول التهديد لتتعامل معه احتواءً أو إدارةً أو إفناءً، وإنما تسعى لمنع نشوئه، ومواجهة هذا الاحتمال/ الإمكانية بالقوة الغاشمة وبأقصى دموية ممكنة، بشكل متعمد، كبديل عن معادلة الردع التي تداعت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تبلور ذلك إبادةً جماعيةً في غزة، ذهب ضحيتها عشرات آلاف الشهداء، وأكثر منهم من الجرحى والمصابين، ونزوح معظم سكان القطاع، وتدمير شبه كامل لمؤسساته وبنيته التحتية، وخسائر كبيرة للمقاومة الفلسطينية في العتاد والرجال، وفي القطاعات العسكرية والسياسية والحكومية.
وسعيًا للضغط بالقوة القصوى على المقاومة في المفاوضات، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا، وتجويعًا غير مسبوق، وتهجيرًا مستمرًّا لسكان القطاع؛ تمهيدًا لمشروع تهجير شامل إن استطاع. كل ذلك بغطاء أميركي كامل ساهم في قدرة "إسرائيل" على التعامل مع الضغوط الدولية.
إعلانوفي لبنان، شنّت دولة الاحتلال حربًا ساحقة على حزب الله؛ بغية تدميره واجتثاثه، من خلال عمليات "البيجر" والاتصالات، ثم سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية وأمنية وسياسية وازنة، على رأسها أمينه العام السابق حسن نصر الله، بكل ما يمثله من ثقل ورمزية وقدرات قيادية.
وترافق ذلك مع مئات الغارات التي استهدفت أسلحته وصواريخه الإستراتيجية، وتبعها توقيع الاتفاق المجحف لوقف إطلاق النار، وإطلاق يد "إسرائيل" في لبنان قصفًا وتوغّلًا واغتيالًا، مع ضغط الجبهة الداخلية اللبنانية لتسليم سلاح الحزب. كما لا يمكن تجاهل آثار تغيير النظام في سوريا على خطوط إمداد الحزب وقدرته على التعافي.
وفي إيران، وجّهت "إسرائيل" لها خلال "حرب الـ12 يومًا" ضربات موجعة، بالاغتيالات، واستباحة الأجواء، وتدمير منظومات الدفاع الجوي، وصولًا لاستهداف المنشآت النووية بالقصف الأميركي المنسق معها.
كما استهدفت قوات الاحتلال اليمن مرات عديدة، مُوقعة خسائر فادحة في ميناء الحُديدة ذي الأهمية الإستراتيجية، فضلًا عن غارات جوية مستمرة، ومحاولات الاغتيال.
وفي سوريا، ورغم غياب أي تهديد حقيقي لها، أعلنت "إسرائيل" إلغاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، واحتلت مساحات جديدة، وسيطرت على مصادر المياه، وقصفت قرب القصر الرئاسي، وهددت باغتيال الرئيس أحمد الشرع، وأعلنت جهارًا دعم الأقليات، وهددت بتقسيم البلاد، وفرضت واقعًا جديدًا في السويداء تفاوض دمشق بخصوصه، فضلًا عن تدمير معظم الأسلحة وقدرات الدولة السورية.
لا انتصارَ ساحقًايعطي كل ما سبق انطباعًا بأن "إسرائيل" هزمت كل أعدائها، بل وخصومها المحتملين مستقبلًا، وحقّقت الانتصار الكامل الذي طالما وعد به نتنياهو، وأنها أعادت فعلًا رسم خرائط المنطقة بالقوة والنار، على ما تبجّح به الأخير.
والحقيقة أن هذا ليس مجرد انطباع خاطئ وحسب، بل هو إيحاء تعمل على ترسيخه البروباغندا "الإسرائيلية"، لتخدم أهدافًا داخلية وخارجية على حد سواء.
في غزة، بؤرة الحرب الرئيسة والجبهة التي أذلّت الاحتلال يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وهزّت دعائم نظريته الأمنية وتفوّقه الاستخباري والعسكري، في تلك الجبهة المحاصَرة تمامًا والمفتقدة للدعم الخارجي بالكامل، تكيّفت المقاومة بقيادة كتائب القسام بنيويًا ومؤسسيًا وميدانيًا بحيث ما زالت تُنازل الاحتلال رغم ضخامة الخسائر التي تعرضت لها.
أثبتت الكتائب قدرتها على استنزاف العدو وإيقاع خسائر كبيرة فيه، بل وطوّرت عملها لمحاولة أسر جنود إضافيين في المعركة. وما زالت المقاومة ممسكة بورقة الأسرى، والتي هي ورقتها الأقوى في مسار التفاوض، الذي يؤكد بدوره أنها ما زالت عصية على الهزيمة والانْسحاق، بما يفرض على الطرف الآخر التفاوض معها حتى اللحظة.
وفي لبنان، ورغم الخسائر صعبة التعويض، لم ينكسر حزب الله ولم يستسلم، ورغم مرونته الكبيرة- والمستغرَبة- في موضوع السلاح جنوب نهر الليطاني، حيث تتحدث التقارير عن مصادرة معظم سلاحه هناك، فإنه بعيد جدًّا عن فكرة تسليم السلاح، وما زال الرئيس جوزيف عون مصرًّا على سيناريو الحوار الداخلي بهذا الخصوص وليس المواجهة.
إعلانكما ارتفعت وتيرة تصريحات الحزب مؤخرًا، بما في ذلك تصريح أمينه العام نعيم قاسم، بأنه يتعافى ورمّم الكثير من خسائره، وبات "مستعدًّا للمواجهة" إن اضطر لها.
كما أن إيران استوعبت الصدمة الأولى وخاضت حرب استنزاف لاحقة، مستهدفة- كما كشفت تقارير لاحقة- الجبهة الداخلية "الإسرائيلية"، وبعض المواقع الحساسة بدقة فاقت التوقعات.
كما فرضت صواريخها معادلات ردع جديدة دفعت نتنياهو للدعوة إلى وقف إطلاق النار بعد الضربة الأميركية للمنشآت النووية، وهذا- من البديهي- ليس موقف مَن حقق انتصارًا كاسحًا.
كما أنه ليس من المعروف حتى اللحظة مدى الضرر الذي تعرض له المشروع النووي، بل تشير معظم التقديرات إلى عدم تدميره بالكامل، ما يعني إمكانية استعادته النشاط، وبشكل أسرع ربما، إن توفرت إرادة سياسية لذلك.
ولعل اليمن أقل الجبهات التي تعرضت لضربات "إسرائيلية" كبيرة، وهي- للمفارقة- الجبهة التي ما زالت على نشاطها وفاعليتها، مع سقف خطاب أعلى بكثير اليوم، وبوعيد بتصعيد الاشتباك مع الاحتلال؛ بسبب حرب التجويع لأهل غزة.
والخلاصة..يتيح التفوق العسكري والاستخباري الكبير لدولة الاحتلال، والذي بنته لها الولايات المتحدة الأميركية على مدى عقود، وانخراط الأخيرة بشكل واسع في الحرب دعمًا وغطاءً ومشاركة فعلية (كما حصل في إيران وجبهات أخرى)، يتيح لها توجيه ضربات قاسية لأعدائها، بما يشمل الدمار الكبير، والاغتيالات الوازنة، والاختراقات العميقة، وبما يتسبب بخسائر بشرية كبيرة جدًّا، ولا سيما في غزة.
لكن كل ذلك لم يمكّنها من تحقيق الانتصار، ولا حتى ادعائه.
تحاول دولة الاحتلال أن تُصوّر الخسائر الكبيرة التي تسببت بها على أنها النتيجة النهائية للحرب، ويتساوق معها البعض أحيانًا، إما جهلًا بالوقائع، أو تحت ضغط الأزمة الإنسانية الخانقة، أو بسبب أجندات سياسية معروفة.
لكن ذلك غير دقيق بالمرة، ليس تقليلًا من شأن الإنسان، شهيدًا وأسيرًا ومصابًا ومهجّرًا ومجوَّعًا، ولا تقزيمًا من قدرات "إسرائيل" وأثر الدعم الذي تحظى به، ولكن لأن ذلك جزء من تقييم المعركة/الحرب، وليس نتيجتها النهائية.
لقد فصّلنا في مقالات سابقة العوامل التي تُقيّم نتائج الحروب على أساسها، والتي منها بالتأكيد الخسائر البشرية والمادية، ولكنها ليست الوحيدة، وفي أحيانٍ كثيرة ليست الأولى، فكم من دولة قدّمت خسائر أكبر بكثير من عدوّها ولكن انتصرت عليه في النهاية.
فإذا كان ذلك حال الدول، فحركات التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال أولى وأجدر. فضلًا عن أن المبالغة في الوحشية مع المدنيين مقصودة لذاتها من قبل "إسرائيل"، ما يدفع للحذر من الوقوع في فخ التقييم الذي تنصبه.
كل ذلك في حال وُضعت الحرب أوزارها واتضحت نتائجها بشكل كامل، فما بالنا والحرب مستمرة، وهي- بالمعنى الأشمل- طويلة الأمد، قد تقف مؤقتًا، لكن مسارها ومفاعيلها مرشحة دائمًا للانفجار والتوسع، ولا سيما في ظل النوايا المعلنة لنتنياهو وشركائه؟
والإشارة الأخيرة، أنه كلما أظهر طرف من الأطراف مرونة كبيرة وسعيًا ملحوظًا لوقف الحرب، تَصَلَّب الموقف "الإسرائيلي" أكثر، وبات أكثر عدوانية ودموية. وقد تكرر الأمر في غزة، ولبنان، وسوريا، وإيران.
أخيرًا، ما زالت نتائج عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قائمة، لم تُمحَ ولم تُنسَ، وسيُبنى عليها.
وأما تفاعلاتها ومآلاتها طويلة الأمد، فما زالت لم تتبلور جميعها بشكل واضح وكامل.
قد نكون اليوم أمام نصف الساعة الأخير من الجولة الحالية من الحرب، وقد نكون أمام جولة ممتدة، لذلك فالمنطق المُجدي تركيزُ كافة الجهود لتعزيز أوراق القوة، وزيادة الضغط على "إسرائيل"، وليس العكس.
فالمطلوب حاليًّا الصمود وتعزيز الموقف، وإلّا تحوّلت الأزمة الإنسانية التي تسبب بها الاحتلال إلى انتصار إستراتيجي له، وهذا ما ينبغي منعه.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline