د. هيثم مزاحم **

شهد التصوف الإسلامي انتعاشًا كبيرًا خلال العقدين الماضيين بعد صعود التطرف الديني وانتشار الإرهاب باسم الدين على مدار العالم. فالكثير من المسلمين اليوم تحولوا إلى التصوف لتلبية احتياجاتهم الروحية. وقد شهد العقد الماضي عودة الاهتمام بالأعمال الصوفية، ولا سيما أعمال جلال الدين الرومي التي شهدت ترجمات جديدة من الفارسية إلى العربية والتركية ولغات أخرى.

وقد جذبت رواية «قواعد الحب الأربعون» للروائية التركية أليف شفق، والتي تُرجِمَت إلى نحو 30 لغة، اهتمام القراء الأتراك والغربيين والعرب، بسبب تسليطها الضوء على الرومي وعلاقته بمرشده شمس الدين التبريزي.

وتُعد الرباعيات من أجمل الأشعار التي نظمها الرومي، وقد ترجم مختارات منها من الفارسية إلى العربية عيسى علي العاكوب بمساعدة الباحث الإيراني مرتضى قشمي. كما نقل العاكوب إلى العربية بعض آثار الرومي، وكتاب «الرومي والتصوف» للباحثة الفرنسية إيفا دوفيتري ميروفيتش.

وكانت ميروفيتش قد قامت بترجمة جل أعمال الرومي وهي: «فيه ما فيه»، «ديوان المثنوي»، «ديوان شمس تبريز» ثم «الرباعيات» إلى الفرنسية، وقامت الكاتبة المغربية عائشة موماد في ترجمة مختارات من الرباعيات إلى العربية اعتمادًا على الترجمة الفرنسية.

وكانت أول ترجمة للرباعيات إلى اللغة الفرنسية على يدي آصف شلبي سنة 1946، وتضمنت 276 رباعية. ثم قامت ميروفيتش بمشاركة جمشيد مرتضوي بترجمة نسخة تضمنت أكثر من ألف رباعية نشرت لأول مرة سنة 1987 في فرنسا.

تقول موماد إن ميروفيتش قد اعتمدت في ترجمتها للرباعيات من الفارسية على نشرة العلامة بديع الزمان فروزنفر التي تضمنت نحو ألفي رباعية، لكن موماد اكتفت بترجمة البعض منها فقط لاستحالة تقديم النصوص كاملة من دون أن تفقدها جماليتها الأصلية.

أما ميروفيتش فتقول في مقدمة كتابها: "هذا النوع من النظم الشعري يختلف عن نظم المثنوي أو الغزليات، يجعلك تواجه صعوبة شديدة في الترجمة، ليس حول إيصال المعنى للمتلقي، حتى وإن كان عميقًا، فإنه يظهر دائمًا في شكل مفهوم، بل حول الأسلوب والإبداع الأدبي. لقصر أبيات الرباعية، تتكثف فيها مجموعة من الصور والإيحاءات، تنتمي إلى ثقافة معينة، ويصعب عليها المرور بسهولة إلى لغة ثانية".

من هنا، ارتأت ميروفيتش القيام بانتقاء دقيق للرباعيات، لكي لا تشوّه جمالية تلك الأشعار، "حيث تتشابك ظلال الأحوال الروحية من رغبة وشوق وحزن وحلم وعشق إلهي".

وقد حذت موماد حذو ميروفيتش فاختارت ترجمة خمسين رباعية فقط، كي لا تحرّف المعاني العميقة أو تشوّه جمالية النص.

أما الباحث المصري خالد محمد عبده الذي قدّم للترجمة، فتناول حضور الرومي في الثقافة العربية، الذي بدأ بإصدار مطبعة بولاق أجمل طبعات المثنوي، وشرحه العربي، وتطور بعد إنشاء معهد اللغات الشرقية بكلية الآداب في الجامعة المصرية، إذ أضحى المثنوي وقتها مادة للدراسة والترجمة، بفضل الأساتذة الأوائل الذين درسوا على أيدي المستشرقين المتخصصين في الأدب الفارسي.

وإذ يشير عبده إلى قلة الاهتمام المغربي سابقًا بالتصوُّف الفارسي وتحديدًا الرومي، باستثناء كتابات محمد ناعم وأحمد موسى، يلاحظ اهتمامًا مختلفًا مع عائشة موماد، التي قدّمت لنا للمرة الأولى في اللغة العربية ترجمات عن الفرنسية لإيفا ميروفيتش وليلي أنفار وأستاذ إلهي ونهال تجدد وغيرهم ممن اهتموا أو استفادوا من دروس الرومي، فنقلت موماد شهادة الشيخ خالد بنتونس شيخ الطريقة العلاوية في حق ميروفيتش عن الندوة التي أقيمت في قونية للحديث عن إيفا إلى اللغة العربية، وعرّفتنا موماد كيف دخلت ميروفيتش إلى عالم العشق المولوي. فعبر ترجمتها كتب محمد إقبال من الفارسية والإنجليزية إلى الفرنسية، تعرفت ميروفيتش على الرومي وفُتحت لها أبواب العشق والمعرفة على مصاريعها.

تقول ميروفيتش: "لقد كرّست كل حياتي للشاعر الصوفي الكبير مولانا جلال الدين الرومي، لأني وجدت أن رسالته تخاطب الوقت الراهن. إنها رسالة حب، ذات بعد أخوي".

كيف تعرفت ميروفيتش على عالَم الرومي؟

في عام 1970 سافرت إيفا من باريس إلى مصر، وهناك درّست في جامعتي الأزهر وعين شمس. وحول اعتناقها الإسلام، تقول: "تعرّفتُ على الدّين الإسلامي بطريقة أكاديمية في بادئ الأمر، ودرستُ مؤلفات الشاعر الباكستاني إقبال دراسة عميقة. ودرست ما يتخلل شريعة الإسلام والسُّنة من أمور مبهمة على الفهم العادي، لكي أتعرّف على حقيقته، فقرأت للفيلسوف الغزّالي مثلًا وغيره كثيرين. واكتشفتُ أن الإسلام دينٌ حيّ. وقد كنتُ محبّة دومًا لتعريف البيضاوي وتفسيره للإيمان إذ يرى أن الإيمان يقتضي باختصار وتركيز أن يتقبّل الإنسانُ الشيء على أنه حقيقي مع سلامة القلب والعقل. وقد رأيتُ أن الإسلام وحده هو الكفيل بأن يحقق لي هذا الإيمان".

حصلت إيفا على دكتوراه الدولة في الفلسفة، كما درست العلوم الإسلامية واللغة الفارسية لتنشر كتابها «التصوف والشعر في الإسلام» وبخاصة عن الرومي والدراويش المولوية. وتخصصت في الفلسفة الإسلامية، ولا سيما التصوف الفارسي، وقامت بدراسة الكثير من المخطوطات وتلخيصها ونقلها إلى القارئ الأوروبي في لغة مبسّطة ومفهومة. فهي كانت تحلم بأن تعرّف الشعب الفرنسي والشعوب الناطقة بالفرنسية بالرسالة الجمالية للإسلام، وقد تمكنت من تحقيق حلمها عندما ترجمت أغلب أعمال الرومي.

ولجت ميروفيتش إلى عالم الرومي عن طريق الشاعر الهندي محمد إقبال القائل: "صيّر الرومي طيني جوهرًا…. من غباري شاد كونًا آخر". فقد قرأت كتاب إقبال، "إعادة بناء الفكر الديني للإسلام" فوجدت فيه إجابات للعديد من أسئلتها عن ديانتها المسيحية. تأثرت إيفا بمؤلفات إقبال، ونقلت قسمًا من أفكاره وأشعاره إلى الفرنسية. لكن التأثير الحقيقي كان من إقبال الذي لفت انتباهها إلى الروميّ، فكتبت دراستها "الرومي والتصوف" عام 1977 بعدما كتبت أطروحتها للدكتوراه عام 1968 عن "التصوف والشعر في الإسلام".

في آخر محاضرة ألقتها في مدينة قونية التركية، حيث مرقد الرومي، في 26 مايو 1998، صرّحت إيفا للحضور قائلة: "أودُّ أن أدفن في قونية كي أبقى تحت ظلال بركات مولانا إلى يوم الحساب". وقد توفيت إيفا في 24 يوليو من العام نفسه عن 89 سنة ودُفنت في مقبرة قرب باريس. لكن بعض أصدقائها الأتراك ساهموا في نقل جثمانها إلى قونية في 17 ديسمبر 2008 في "احتفالية يوم العُرس"، التي تقام في ذكرى رحيل الرومي.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

إقبال مسائي على التصويت بانتخابات النواب في سفارة مصر بأثينا

قال عبد الستار بركات، مراسل قناة القاهرة الإخبارية في أثينا، إنه يتحدث من أمام السفارة المصرية وسط العاصمة، حيث تستضيف اللجنة الفرعية لانتخابات مجلس النواب 2025، موضحا أن السفارة فتحت أبوابها منذ التاسعة صباحًا لاستقبال أبناء الجالية المصرية، الذين سيدلون بأصواتهم في الدوائر الثلاثين التي تم إبطالها أو إلغاؤها بقرار من المحكمة العليا.

الخلع أم التفويض بالطلاق.. أيهما الأفضل للزوجة؟ |فيديوقناة السويس تحقق إيرادات بنحو 40 مليار دولار بين 2019-2024

وأضاف بركات في تصريحات مع الإعلامي همام مجاهد، أن عملية التصويت تسير بسلاسة ويسر حتى الآن، دون تسجيل أي مشكلات، وسط تواصل مستمر بين أعضاء البعثة الدبلوماسية والهيئة الوطنية للانتخابات، مشيرا إلى أن غالبية الدوائر الثلاثين الملغاة تتبع محافظات الصعيد، وهو ما يفسّر الإقبال المتوقع في اليونان، حيث يقيم عدد كبير من أبناء الصعيد في العاصمة أثينا.

وتوقع المراسل ارتفاع نسبة الحضور بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية اليوم، إذ يصادف اليوم الاثنين يوم عمل عادي في اليونان، ما قد يدفع المزيد من المصريين للتوجّه إلى السفارة للإدلاء بأصواتهم في الفترة المسائية.

وأوضح أن أعضاء البعثة الدبلوماسية يقدّمون كل أشكال الدعم والمساعدة للناخبين، حيث يُسمح للمواطن المصري بالتصويت باستخدام بطاقة الرقم القومي أو جواز السفر المميكن، وبعد التحقق من الدائرة الانتخابية التابع لها، يتم طباعة بطاقات الاقتراع ليختار الناخب مرشحًا أو اثنين أو ثلاثة، بحسب طبيعة دائرته، قبل وضع بطاقات التصويت داخل الصندوق الشفاف.

طباعة شارك السفارة النواب الجالية المصرية

مقالات مشابهة

  • جابر بحث مع وفد الخزانة الفرنسية خطوات الرقمنة وتعزيز الشفافية المالية
  • العربية للتصنيع: وقعنا عقد شراء مع شركة داسو الفرنسية لأول قطعتين من الطائرة الفالكون
  • الخارجية الفرنسية تعرب عن قلقها بشأن التوغلات الإسرائيلية في سوريا
  • إقبال مسائي على التصويت بانتخابات النواب في سفارة مصر بأثينا
  • لقاء مصري–فرنسي موسّع لبحث تطوير الإجراءات وتعزيز الاستثمارات بين هيئة الاستثمار والجمارك والشركات الفرنسية
  • تطوير الإجراءات وتعزيز الاستثمارات بين هيئة الاستثمار والجمارك والشركات الفرنسية
  • لقاء مصري فرنسي لبحث تطوير الإجراءات وتعزيز الاستثمارات بين هيئة الاستثمار والشركات الفرنسية
  • سمو ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيس الجمهورية الفرنسية
  • يوم الثلاثاء.. عشاء في السفارة الفرنسية يجمع عدداً من الفاعليات السياسية
  • إقبال استثماري قوي يدفع سعر المتر إلى 200 ألف جنيه في العبور الجديدة