محمد بن أنور بن خميس اللواتي **

[email protected]

 

 

 

في خطوةٍ استفزازية غير مسبوقة تهدف إلى إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثاني من أبريل عن شن حرب تجارية شاملة طالت أطرافًا متعددة، وذلك بفرض رسوم جمركية قاسية إضافية تبلغ في بعض الحالات نسبة 49%، مع فرض حد أدنى بنسبة 10% على جميع الواردات الأمريكية.

وقد برر ترامب خطوته هذه بأنها "ضرورة حتمية لإنقاذ الصناعة الأمريكية" و"تصحيحٌ لاختلالات مزمنة في الميزان التجاري". وقد أعقب فرض هذه الرسوم الجمركية سلسلة قرارات زادت من حدّتها أو جرى تعطيل بعضها لاحقًا، كما سارعت دول عديدة إلى الرد بقرارات انتقامية، بينما عبَّرت أخرى استعدادها للتفاوض مع واشنطن.

لقد شهد النظام الاقتصادي العالمي محطات مفصلية ساهمت في تشكيل ملامحه الحالية. فاتفاقية "بريتون وودز"، التي وقعت في يوليو 1944م بحضور ممثلي 44 دولة في غابات بريتون في ولاية نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية، جاءت لترسم ملامح الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ومن أبرز مخرجات اتفاقية "بريتون وودز" هو تشجيع التجارة الدولية من خلال إنشاء مؤسسات مالية عالمية جديدة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتثبيت سعر صرف الدولار عند 35 دولارًا لكل أونصة ذهب، وربط أسعار العملات الرئيسية الأخرى بأسعار ثابتة مقابل الدولار. أصبح الدولار الأمريكي -نتيجة لذلك- العملة المرجعية العالمية، في خطوة مثلت تتويجًا للهيمنة الأمريكية-الأوروبية على الاقتصاد العالمي الجديد، إذ خدمت بصورة أساسية المصالح الغربية، وتشكّلت بموجبه منظمات دولية تخضع -بلا أدنى شك- للنفوذ الأمريكي.

وفي منعطف تاريخي، أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 15 أغسطس 1971 -بصورة أحادية ومفاجئة- تخلي الولايات المتحدة عن تعهدها بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، وفرض رسوم جمركية مُؤقتة بنسبة 10% لحماية الصناعات الأمريكية؛ معلناً بشكل ضمني نهاية اتفاقية "بريتون وودز" وأسعار الصرف الثابتة، وبداية حقبة اقتصادية جديدة. وقد دفعت هذه الخطوة عوامل عدة أبرزها الأعباء المالية على الخزانة الأمريكية الناجمة عن حرب فيتنام، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة. ومع أن هذه الإجراءات سبّبت مرحلة عدم استقرار قصيرة الأمد، وركودًا تضخميًا خلال منتصف السبعينيات، فإنها عزَّزت في الوقت نفسه من مركزية الدولار، ورسّخت النفوذ الأمريكي في النظام التجاري العالمي.

تواجه الولايات المتحدة حاليًا أزمة متفاقمة تتمثل في اختلال مالي متصاعد؛ فقد تجاوز العجز في الموازنة الفدرالية 1.8 ترليون دولار للسنة المنتهية في سبتمبر 2024، في الوقت ذاته يزداد العجز التجاري مع شركاء تجاريين رئيسيين، لا سيما الصين والاتحاد الأوروبي. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الدَّين العام الفدرالي إلى أكثر من 36 تريليون دولار، أي ما يعادل نحو 122% من الناتج المحلي الإجمالي. وتعد هذه النسبة مرتفعة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، ما يعكس حجم التحديات المالية والاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة، ويثير تساؤلات جوهرية حول استدامة اقتصادها وقدرته التنافسية.

وفي مواجهة هذا الواقع الاقتصادي الأمريكي، تبنّت إدارة الرئيس دونالد ترامب نهجًا جديدًا يعتمد على استخدام الرسوم الجمركية كسلاح اقتصادي وأداة صدمة تهدف إلى إعادة هندسة القواعد الاقتصادية العالمية، وإجبار الأطراف المختلفة على إعادة التفاوض على قواعد اقتصادية جديدة تتماشى مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية. وتُمثل هذه الحرب بداية لتشكّل نظام اقتصادي جديد يتسم بالحمائية والتكتلات الإقليمية، بدلًا عن الانفتاح والعولمة. ما نشهده اليوم ليس استثناءً، بل قد يكون حلقة جديدة من حلقات إعادة تشكّل النظام العالمي، ولكن بأدوات أكثر حدَّة وتوجّه قومي أكثر تطرفًا بما يحفظ المصالح الأحادية للقوة العظمى. تشير الوقائع التاريخية إلى أن الأحداث الاقتصادية والسياسية الكبرى غالبًا تأتي بعد مرحلة من الفوضى بنظام اقتصادي وسياسي جديد، كما رأينا في اتفاقية بريتون وودز، ونهاية معيار الذهب.

وفي هذا السياق، يبرز مفهوم "دورة صعود وسقوط الأمم" كما يطرحه راي داليو، مؤسس صندوق التحوط العالمي بريدج ووتر أسوشيتس، وأحد أبرز المفكرين في دراسة الدورات الاقتصادية التاريخية. في كتابه "مبادئ للتعامل مع النظام العالمي المتغير: لماذا تنجح الأمم أو تفشل"، يقدّم داليو تصورًا لدورة تمر بها الأمم، تبدأ بـمرحلة الصعود والبناء، وتتميز بالإنتاجية المرتفعة والتعليم القوي والانضباط المالي، تليها مرحلة الذروة والهيمنة التي تتصف بالقوة الاقتصادية والعسكرية وازدهار العملة الوطنية، ثم تأتي مرحلة التراجع والانحدار حيث تتراكم الديون وتتسع الفجوات الاجتماعية والسياسية وتضعف القدرة على الابتكار، وغالبًا ما تنتهي هذه المرحلة بأزمة اقتصادية أو صراع واسع النطاق. ويستشهد داليو بتجارب دول مثل هولندا وبريطانيا، معتبرًا أن الولايات المتحدة تقف اليوم عند ذروة هذه الدورة، وسط مؤشرات واضحة على التراجع، في مقابل صعود قوى كبرى على رأسها الصين.

ومن هذا المنظور، فإنَّ ما تقوم به الولايات المتحدة عبر "حرب ترامب الجمركية 2.0" لا يعدو كونه محاولة لتأخير الانحدار الحتمي. فعلى الصعيد الخارجي، تتورط الإدارات الأمريكية المتعاقبة في صراعات عبثية حول العالم، بينما تتهاوى منظومة القيم التي طالما تغنت بها، وتُسيّس الدولار بشكل يفقده حياده وقيمته الاقتصادية. أما على المستوى الداخلي، فيتصاعد الدَّين العام إلى حدود غير مستدامة، وتتركز الثروة في أيدي قلة، بينما تتعمّق الهوة الاجتماعية والاقتصادية، ويزيد الانقسام السياسي.

الفترة المقبلة ستكون حبلى بالتطورات المتسارعة مما يحول دون الوصول إلى استنتاجات سريعة أو دقيقة الآن، لكن الواضح أن العالم قد دخل بالفعل مرحلة جديدة في العلاقات الاقتصادية بين الدول؛ مرحلة تحكمها الحمائية، وتعاد معها تشكّل سلاسل التوريد، وتصاحبها ضغوطات تضخمية، وتُنتج نظامًا عالميًا اقتصاديًا جديدًا. ما نجهله عن المستقبل يفوق بكثير ما نعرفه، ولهذا فإن العمل على التهيؤ لمختلف السيناريوهات يبقى الخيار الأكثر واقعية في عالم تسوده اللايقينيات.

أما بالنسبة لسلطنة عُمان، فإنها لن تكون بمنأى عن هذه المتغيرات؛ لذا لابد أن نكون على أهبة الاستعداد، خاصة في ظل هبوط أسعار النفط، والضغوط التضخمية، وتزايد مخاطر الإغراق التجاري من منتجات تبحث عن أسواق جديدة. وفي مواجهة هذه التحديات، تبرز فرص مهمة كتوسيع العلاقات التجارية مع الدول المتضررة من الرسوم الأمريكية ودول الجوار، وإعادة هيكلة سلاسل التوريد، وفتح قنوات تصديرية جديدة، مع ضرورة حماية الصناعات المحلية؛ ففترة التحرير الكلي للتجارة الدولية قد انتهت.

ومن الضروري أيضًا الدفع نحو بلورة سياسات خليجية اقتصادية موحدة، تشمل فرض رسوم جمركية مضادة على الولايات المتحدة، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، ومراجعة سياسة ربط العملات بالدولار في إطار استراتيجيات اقتصادية خليجية متكاملة وسريعة.

** كاتب في المجال الاقتصادي

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

«آي صاغة»: الذهب يتعثر أمام الدولار.. تراجع جديد قبل اجتماع الفيدرالي الأمريكي

شهدت أسعار الذهب في السوق المحلية اليوم السبت انخفاضًا محدودًا خلال التعاملات، بالتزامن مع العطلة الأسبوعية للبورصة العالمية، وذلك عقب تراجع الأوقية عالميًا بنسبة 0.4% خلال الأسبوع. وجاء هذا الانخفاض على خلفية بيانات اقتصادية قوية صادرة عن الولايات المتحدة، إضافةً إلى التقدم المحرز في مفاوضات تجارية بين واشنطن وشركائها، ما قلل من الطلب على المعدن النفيس كملاذ آمن، بحسب تقرير صادر عن منصة «آي صاغة» المتخصصة في تداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت.


وأوضح سعيد إمبابي، المدير التنفيذي لمنصة "آي صاغة"، أن أسعار الذهب تراجعت بنحو 15 جنيهًا خلال تعاملات اليوم، ومقارنة بختام  تعاملات أمس، ليسجل سعر جرام الذهب عيار 21 مستوى 4620 جنيهًا، في حين تراجعت الأوقية بالبورصة العالمية بنحو 13 دولارًا لتُسجل 3337 دولارًا خلال تعاملات الأسبوع المنتهي مساء أمس الجمعة.


وأضاف، أن سعر جرام الذهب عيار 24 بلغ 5280 جنيهًا، وعيار 18 سجل 3960 جنيهًا، وعيار 14 وصل إلى 3080 جنيهًا، فيما بلغ سعر الجنيه الذهب نحو 36960 جنيهًا.


وكانت الأسعار قد أنهت تداولات أمس الجمعة على تراجع محلي قدره 25 جنيهًا، حيث افتتح عيار 21 عند 4660 جنيهًا وأغلق عند 4635 جنيهًا، بينما تراجع سعر الأوقية من 3371 إلى 3337 دولارًا.


تعرض الذهب لضغوط بيعية عقب صدور بيانات عمل أمريكية قوية، إلى جانب تقدم في المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما انعكس على تحركات المستثمرين، كما دعم انتعاش الدولار الأمريكي على حساب عوائد سندات الخزانة المتراجعة هذا الاتجاه، ما جعل المعدن أكثر تكلفة للمشترين الأجانب.


أثرت البيانات الاقتصادية الصادرة عن الولايات المتحدة والتقدم المحرز في اتفاقيات التجارة مع الأخيرة على الطلب على الملاذ الآمن، مما دفع المعدن الأصفر إلى الانخفاض، بالإضافة إلى ذلك، استعاد الدولار الأمريكي بعض قوته على الرغم من انخفاض عوائد سندات الخزانة الأمريكية. 


من المتوقع أن يُبقي مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة دون تغيير عند نطاق 4.25%-4.50% للمرة الخامسة هذا العام في الأسبوع المقبل، بررت البيانات الصادرة خلال الشهر موقف الاحتياطي الفيدرالي بالإبقاء على سياسته الحالية بعد انخفاض طلبات إعانة البطالة الأولية للأسبوع الرابع على التوالي، مما يُبرز قوة سوق العمل. في حيث غضون ذلك، انخفضت طلبات السلع المعمرة يوم الجمعة، مدفوعةً بانخفاض طلبيات الطائرات.


شهد الأسبوع الماضي أخبارًا إيجابية على صعيد التجارة الدولية؛ إذ أعلنت واشنطن وطوكيو عن اتفاق تجاري، فيما تزايدت التوقعات بشأن صفقة مماثلة مع الاتحاد الأوروبي قبل الأول من أغسطس، وقد صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن هناك فرصة "متساوية" لإبرام اتفاق مع أوروبا، مشيرًا إلى أن أغلب الصفقات التجارية قد تم الانتهاء منها، مع توقعات بتحديد تعريفات جمركية تتراوح بين 10% و15%.


ورغم تراجع عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات بمقدار ثلاث نقاط أساس لتصل إلى 4.386%، ما أدى لانخفاض العوائد الحقيقية إلى 1.936%، إلا أن الذهب لم يستفد من هذا التراجع، في ظل سيطرة تفاؤل الأسواق التجارية وارتفاع الدولار.


يوم الخميس، أشارت طلبات إعانة البطالة الأولية التي جاءت أفضل من المتوقع إلى استمرار قوة سوق العمل، حتى مع إعلان ستاندرد آند بورز جلوبال عن انكماش في نشاط التصنيع، انخفضت طلبيات السلع المعمرة الأمريكية في يونيو، مدفوعةً بشكل رئيسي بانخفاض حاد في الطلب على الطائرات.

سعر الذهب اليوم السبت فى مصر.. جرام عيار 21 يسجل 4660 جنيهسعر الدولار بالبنوك المصرية اليوم السبت 26-7-2025


انخفضت الطلبات الرئيسية بنسبة 9.6% على أساس شهري، بعد ارتفاع بنسبة 16.5% في مايو. ورغم أن الانخفاض كان ملحوظًا، إلا أنه كان أقل من توقعات المحللين بانكماش بنسبة -10.8%.

 وتصدرت معدات النقل التراجع، حيث انخفضت بنسبة 22.4% في يونيو.


مع ذلك، ارتفعت طلبيات السلع المعمرة الأساسية - التي تستثني النقل - بنسبة 0.2%، مما يشير إلى بعض القوة الكامنة في استثمارات الأعمال.


في الأسبوع المقبل، سيتضمن جدول الأعمال الاقتصادي الأمريكي قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي في 30 يوليو، والأرقام الأولية للناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني، وإصدار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية، بالإضافة إلى أرقام الوظائف غير الزراعية.

طباعة شارك الذهب الدولار الفيدرالي أسعار الذهب المعدن النفيس سعر جرام الذهب عيار 21 السلع المعمرة سندات

مقالات مشابهة

  • مسؤول أميركي يدلي بتصريح بشأن تطبيق الرسوم الجمركية
  • ادارة ترامب تعتزم تشديد اختبار الجنسية الأمريكية وتغيير نظام تأشيرات العمالة الماهرة
  • «آي صاغة»: الذهب يتعثر أمام الدولار.. تراجع جديد قبل اجتماع الفيدرالي الأمريكي
  • تقليص الرسوم الجمركية وفتح الأسواق أمام السلع الأمريكية| تفاصيل
  • صحيفة: مسار مفاوضات غزة لم يُغلق بل دخل مرحلة جديدة
  • عجز قياسي في ميزانية الصين وسط إنفاق مكثف لمواجهة الرسوم الجمركية
  • أخبار كاذبة.. السفارة الأمريكية في طرابلس تنفي الأنباء عن نقل سكان غزة إلى ليبيا
  • هتافات اليمنيين تزلزل الصمت العربي .. ثورة الشعب اليمني ضد إبادة غزة تدخل مرحلة جديدة وهذه تفاصيلها
  • في يومه العالمي.. المملكة الأولى عالميًا في مكافحة الغرق وانخفاض الوفيات بنسبة 17%
  • وزير التجارة بكوريا الجنوبية يناقش مع نظيره الأمريكي التعريفات الجمركية