«مشاهد من محاكمة في جمهورية التأويل الزائد وزمن اللامعقول… حين يتأخر الموت وتُعجَّل المحاكمة: البُعاتي بوصفه دليلًا على فشل الرواية»

عندما قررت عدالة حكومة بورتسودان أن تتأنّق بوقارها المزوّر، اختارت أن تبدأ بطيف يُحاكم نيابة عن غيابه، لا بجسدٍ يُحمل عبء ما اقترفت يداه.
محاكمة غيابية لرجلٍ حاضر في كل المآسي، وغائب فقط عن منصة الاتهام.



نُصبت الخيمة في بورتسودان، وتفتّحت سرديات الطهارة المؤقتة كإزهار خريفيّ يُزهر فوق ركام ذاكرة لا تُنبت إلا الإنكار.
أول الداخلين: السلطان سعد بحر الدين، يرفرف ثوبه بين عربات الشرطة والكلاب البوليسية، وكأننا أمام عرض تعبوي للهيبة لا للقانون.

خلفه، اصطفت وجوه جامدة كمذيعات نشرة العاشرة، يحملن شعارات مصقولة بصوت المونتاج، لا بصوت الشارع، وكأن ذاكرتهن أُعدّت مسبقًا في غرفة أخبار.

في الخارج، تم نصب «الدمية» الرديئة الصنع التي يُفترض أن تمثل حميدتي.
لا نعرف إن كانت هذه هي النسخة القديمة التي تعرّضت للرجم سابقًا، أم أن نحّاتًا مجهولًا أُعيد استدعاؤه على عجل لصياغة نسخة تتناسب مع متطلبات هذه الحلقة من المسرحية.

جمهور المحكمة مشغول بالدمية أكثر من النص، والصيحات تتعالى: «أضربوه!»، «أقلعوا رقبتو!»…
كأننا لسنا أمام محكمة، بل أمام طقس طرد رمزي للخطيئة…
لكن الخطيئة تمشي خارج المحكمة، ترتدي بزات رسمية، وتُجالس القضاة.

داخل القاعة، يتلعثم القاضي طويلًا عند قراءة الاسم:
هل هو «حِميتي» أم «محمد حمدان»؟
ينطق الاسم وكأنه يحاول انتزاع جريمة من مقطع صوتي، لا من سجل دموي طويل.

الرجل – أو لِنقل: تلك الدمية الرمزية الرديئة الصنع – يُحاكم بالنيابة عن سرداب عميق من الجرائم التي لم تُدفن، بل تسرح في الهواء، حرة، أنيقة، ومترقية.

ولا شيء في الورق يطابق الحياة.
ملفات، أختام، لائحة اتهام، شقيق المتهم…
لا شهود، لا سياق، لا تاريخ.

فقط حفنة من الكلمات تغطي فجوة كاملة من العار الوطني.
الوجوه متيبّسة، والعيون تلاحق كائنًا غائبًا لا ليمثل، بل ليتحمّل كل ما لن يتحمله أحد.

عربات مطافي، باصات ترحيل، كلاب بوليسية، أجهزة لا داعي لها في محاكمة ورقية،
وحتى المولد الكهربائي قرر أن يعلن موقفه:
توقف، فرغ من الوقود، وتوقفت معه الجلسة!
كأن الميكانيكا نفسها ترفض هذا التواطؤ.

أما العم سعد بحر الدين، فحين لاحظ أن النص انزلق إلى الكوميديا الساخرة أكثر من الدراما القضائية، انسحب بسيارته الـ«لكزس» الفارهة في صمت،
وترك خلفه جمهورًا يصفّق للفراغ، وقاعة تشهد على واحدة من أكثر اللحظات شفافية في التاريخ السوداني الحديث:
محاكمة دمية نيابة عن كابوس، في وطن اعتاد أن يُحاكم الضحايا ويُكافئ الجناة.

ألا يحق لنا نحن – ضحايا البث المشروخ – أن نسأل: من الذي يُحاكم اليوم؟
هل هو حميدتي الذي أعلن إعلام الكيزان وفاته مرارًا، ونشروا نعيه في نشراتهم قبل أن يدفنوه في الذاكرة باسم «البُعاتي»؟
أم أنهم يحاكمون البُعاتي نفسه، بوصفه تهديدًا سرديًا لم يكتمل موته؟
أم تراهم يحاكمون الدمية، لأنها تجرّأت على الوقوف بدلًا عن الجنرال؟
أم لعلّهم ببساطة، يحاكموننا جميعًا… على تجرؤنا في تصديقهم؟

حميدتي يُحاكم اليوم ليس لأن الجرائم لم تعد تُحتمل، بل لأنه بات خارج التحالف، مجرد خصم سياسي مؤقت.

والساخر في المشهد، أن من يحاكمونه الآن هم شركاء له في هندسة المذبحة، ورفاق سلاح وخرائط.
بينهم من ارتكب، ومن أمر، ومن صمت، ومن صاغ بيانات القتل بلغة وطنية.

وهل ثمّة ما هو أكثر فداحة من مفارقة كهذه، حين تنقلب الذاكرة ضد ضحاياها؟
أليس من اللافت أن مالك عقار، الذي يشغل اليوم منصب نائب رئيس مجلس السيادة، ومصطفى طنبور، رئيس لجنة السلام، قد حُكم عليهما بالإعدام غيابيًا في زمن سابق؟
لا أحد جلب دمية لهما.
لا صرخات، لا قضاة تائهون في اللقب.
تمّ نسيان الأمر كما تُنسى الجرائم في بلد لا يحتفظ بأرشيف، بل بأحقاد سائلة.

أما نحن، الذين ما زلنا ننتظر محاكمة قتلة شهداء القيادة العامة،
فنجلس على الرصيف ذاته الذي كتب عليه نبيل أديب ذات مرة تقريرًا لم يُسلَّم، وعدالة لم تولد.

شهداء القيادة لا يشبهون الأبطال في الملاحم، ولا يُرفعون على لافتات ميتة كعُذر بيروقراطي.
ماتوا واقفين، بالحناجر العارية، وبأنفاس أخيرة نطق بعضها بـ«حرية، سلام، وعدالة»، وبعضها لم يُتح له حتى النداء.

المجزرة بثّتها أقمار الأرض جميعها، بما فيها تلك التي تدّعي الحياد وتمتهن المؤامرة.
والقتلة، ما زالوا يبدّلون أدوارهم:
هذا يصبح وزيرًا، وذاك نائبًا، والثالث يكتب قصائد وطنية في حفل استقبال رسمي.

فما الذي شهدناه إذن؟
محاكمة؟
أم احتفال رسمي بالإنكار وقد صار له منصة وقاضٍ ونشيد ودمية؟
أم مجرد تمرين جماعي على إعادة كتابة الجريمة دون شهود؟

يريدون منا أن نصدّق المعادلة المستحيلة: «لقد قتلناه… وها نحن نحاكمه».
فمع أي عقل يتعاملون؟
وأي ذاكرة هذه التي يُفترض أن تهتز، لا حين يُقتل الناس، بل حين يُبعث من رُوّج له كـ«بُعاتي» ليُقدَّم فجأة بوصفه حيًّا ومسؤولًا؟
وكأن من صدّعوا رؤوسنا بموته، لم يكونوا هم أنفسهم من يصنعون اليوم منصّة محاكمته.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ی حاکم

إقرأ أيضاً:

اليوم.. الحكم في إعادة محاكمة أبناء كمال الشاذلي بتهمة الكسب غير المشروع

تنظر محكمة الجنايات الاستئنافية، اليوم الأحد، في قضية إعادة محاكمة أبناء كمال الشاذلي وزير الدولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى الأسبق ومتهم آخر معهم، بتهم الكسب غير المشروع والإثراء بلا سبب والتربح من المال العامة عن طريق مورثهم المتوفى.

سبب إعادة محاكمة أبناء كمال الشاذلي

وكان قد أصدر جهاز الكسب غير المشروع أمرا بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبل معتز ومحمد ومنى الشاذلي أبناء الراحل كمال الشاذلي، وإيهاب ناصف خليفة، واستبعاد نيرة محمد أمين عامر، أرملة كمال الشاذلي، بعد قيامهم برد مبالغ مالية وأراضي مملوكة للدولة بالقاهرة وبحيرة قارون بالفيوم والباجور بالمنوفية.

وتقدم النائب العام بطعن أمام محكمة الجنايات وفق صحيح القانون على الأمر الصادر من جهاز الكسب غير المشروع بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبل المتهمين، إسنادا لنص المادة 15 من القانون رقم 62 لسنة 1975 بشأن الكسب غير المشروع التي ينص على أنه يتعين على إدارة الكسب غير المشروع إخطار النائب العام بالأمر الصادر منه "بالأ وجه لإقامة الدعوى الجنائية" خلال 7 أيام من صدوره، وللنائب العام الحق في الطعن عليه خلال 30 يوم، فإذا تم قبول الطعن وألغى الأمر قدمت القضية للمحكمة.

وألغت محكمة الجنايات أمر الكسب غير المشروع بحفظ القضية والأ وجه لإقامة الدعوى الجنائية، وإعادة الدعوى إلى رئيس محكمة الاستئناف لتحديد جلسة لمحاكمة المتهمين، الذى حدد الدائرة الأولى الاستئنافية برئاسة المستشار خالد الشباسي لنظر القضية بجلسة اليوم الأحد، مع التنبيه بإعلان المتهمين ومثولهم بشخصهم خلال الجلسة.

تفاصيل قضية كمال الشاذلي

الجدير بالذكر أن جهاز الكسب غير المشروع كان قد حقق عام 2011، في بلاغات تتهم كمال الشاذلي بتحقيق كسب غير مشروع باستغلال سلطات وظيفته، فضلا عن تربيح أبنائه وزوجته بثروة ضخمة لا تتناسب مع مصادر دخولهم أو دخل موروثهم الذى كان يعمل طيلة حياته في العمل بالسياسة كعضو مجلس شعب أسبق ووزير للدولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى الأسبق، ورئيس للمجلس الطبية المتخصصة سابقا.

كما تبين قيام الشاذلي وأبنائه بكتابة بعض ممتلكاتهم لشخص يدعى إيهاب ناصف، أحد أقارب كمال الشاذلي بهدف إخفاء الثروة والذى تم توجيه له تهم إخفاء وطمس أدلة، والحصول على كسب غير مشروع.

وكشفت تقرير خبراء الكسب غير المشروع، وتحريات الرقابة الإدارية والأموال العامة، أن الوزير الراحل كمال الشاذلي، تحصل على كسب غير مشروع عبارة عن أراضي مساحتها 20 ألف متر ببحيرة قارون بالفيوم بحق الانتفاع، وارضى زراعية الباجور والتي تم تحويلها إلى مباني، ومبالغ مالية ضخمة، مستغلا صفته النيابية والوزارية، وأيلولة تلك الثروة إلى أفراد أسرته بعد وفاته.

اقرأ أيضاًبعد قليل.. محاكمة 9 متهمين في قضية «خلية المطرية»

حدث وأنت نائم.. «الداخلية» تواصل حملاتها ضد مقدمي المحتوى الخادش وتضبط عددا من «التيك توكرز»

مقالات مشابهة

  • اليوم.. محاكمة الفتاة المتهمة بالتسبب في وفاة طفل وإصابة آخرين بالساحل الشمالي
  • اليوم.. جلسة محاكمة المتهمة بالتشهير بفنانة شهيرة على السوشيال ميديا
  • اليوم.. استكمال محاكمة 6 متهمين في قضية «خلية العجوزة»
  • اليوم.. نظر محاكمة 6 متهمين بقضية خلية العجوزة
  • اليوم.. الحكم في إعادة محاكمة أبناء كمال الشاذلي بتهمة الكسب غير المشروع
  • أذكار الصباح اليوم الأحد 10 أغسطس 2025.. «بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء»
  • اليوم.. محاكمة 46 متهما في قضية «خلية العجوزة الثانية»
  • اليوم.. استكمال محاكمة المتهمين بقضية «الخلية الإعلامية»
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: إذ تستعيد هذه الخطوة نهج المؤتمرات التي سعت لتقسيم سوريا قبل الاستقلال فإن الحكومة السورية تؤكد أن الشعب السوري الذي أفشل تلك المخططات وأقام دولة الاستقلال سيُفشل اليوم هذه المشاريع مجدداً ماضياً بثقة نحو بناء ا
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: هذا المؤتمر خرق للاستحقاقات التي باشرت الحكومة السورية في تنفيذها بما في ذلك تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وبدء أعمالها، ومسار الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة السورية في شباط الماضي والمستمر حتى إيصال البلاد إ