زهير عثمان

صوتٌ يرقص بين الروح والوطن

في فضاء الأغنية السودانية، حيث تتداخل الألحان الأفريقية مع الإيقاعات العربية، وتنحت الكلماتُ مشاعرَ الشعبِ بين ألمِ الحروبِ وبهجةِ الترابِ، يظلُّ اسم صلاح بن البادية علامةً فارقة. لم يكن مجردَ فنانٍ، بل كان ظاهرةً فنيةً جمعت بين العمقِ الروحيِّ والحداثةِ الفنيةِ، فخلقتْ لنفسها مسارًا خاصًا في ذاكرةِ السودانيين.

رحلَ الجسدُ، لكن صوته ما زال يُردِّدُ في الأسماعِ: "سالَ من شعرِها الذهبُ... فتدلّى وما انسكبُ".
البدايات: من قرى الجزيرة إلى عرشِ الأغنيةِ
وُلد صلاح بن البادية في منطقة الدبيبة بولاية الجزيرة، حيثُ النيلُ ينسابُ بين الحقولِ الخضراءِ، وحيثُ تُورِقُ الأغاني الشعبيةُ كأشجارِ الطلحِ. نشأ في بيئةٍ تتنفسُ التصوفَ والمدائحَ النبويةَ، فتعلَّمَ من تراتيلِ الزوايا والصوفيةِ كيف تكون الموسيقى صلاةً. انتقلَ إلى أم درمان ليكملَ تعليمَه، وهناكَ بدأتْ موهبتهُ تتفجرُ بين جدرانِ المدارسِ والأحياءِ الشعبيةِ.
في ستينيات القرن الماضي، خطا أولى خطواته الفنية، حاملًا معه روحَ الريفِ السودانيِّ ونبضَ المدينةِ. لم يكن صوته مجردَ آلةٍ موسيقيةٍ، بل كان جسرًا بين التراثِ والحداثةِ، بين الفصحى والعاميةِ، بين الصوفيةِ والعاطفةِ الإنسانيةِ.
"سال من شعرها الذهب": حين يُولد اللحنُ من إيقاعِ القطارِ
لا يمكن ذكر صلاح بن البادية دون التوقف عند تحفته الخالدة "سال من شعرها الذهب"، التي كتبها الشاعرُ أبو آمنة حامد بلغةٍ فصيحةٍ نادرةٍ في الأغنية السودانية، ولحنها الموسيقارُ عبد اللطيف خضر الحاوي (ود الحاوي).
القصةُ التي حيكت حول اللحنِ تُجسِّدُ سحرَ الإبداعِ: في رحلةٍ بالقطارِ من بورتسودان إلى الخرطوم، استوحى ود الحاوي الإيقاعَ من دندنةِ عجلاتِ القطارِ، فسجلَّ اللحنَ على عجلٍ في منزل بن البادية فجرًا، خوفًا من أن يطيرَ الإلهامُ مع أولِ خيطِ شمسٍ.
الأغنيةُ، التي غناها بن البادية بصوتهِ الجهوريِّ الممزوجِ بالحنينِ، تحولت إلى أيقونةٍ. كلماتُها تصفُ جمالَ المرأةِ بلغةٍ شعريةٍ مدهشةٍ:
"سالَ من شعرِها الذهبُ... فتدلّى وما انسكبُ
كلما عبثتْ به نسمةٌ... ماجَ واضطربُ".
لكنها أيضًا كانت قصيدةً في حبِّ السودانِ، حيثُ الذهبُ رمزٌ لثراءِ الأرضِ، والنسيمُ إشارةٌ إلى شوقِ المغتربين.
الحداثة الروحية: حين يصيرُ الغناءُ ابتهالًا
تميز بن البادية بقدرتهِ على تحويلِ الأغنيةِ العاطفيةِ إلى تجربةٍ روحيةٍ. في أعمالٍ مثل "يا زهرة الروض الظليل" و"وا أسفاي"، مزجَ بين الغناءِ الصوفيِ والعاطفةِ الإنسانيةِ، فكان صوتهُ يُشبهُ الدعاءَ.
أسلوبُه اعتمد على:
الانتقاء الشعري الراقي: تعاون مع شعراء كبار مثل أبو آمنة حامد والتجاني حاج موسى، واختار قصائدَ تحملُ طبقاتٍ من المعنى.
التلحين الهادئ العميق: فضلَ الألحانَ التي تتنفسُ برويةٍ، كأنها تيارٌ نهرِيٌّ يلامسُ الشواطئَ.
الأداء المسرحيِّ الوقور: على المسرح، كان يرتدي الجلبابَ الأبيضَ، ويحركُ يديهِ كأنه يُناجي السماءَ.
أغنياتٌ صارت عيونًا: بصماتٌ لا تُنسى
من أبرز أعماله التي شكلت "عيون الأغنية السودانية":
"ليالي الخير": احتفاليةٌ بالأملِ، لحنٌ يرقصُ بين الفرحِ والطمأنينةِ.
"كسلا": قصيدةٌ في حبِّ المدينةِ، غناها وكأنها معشوقةٌ تستحقُ التمجيدَ.
"ردي النضارة": حوارٌ مع الذاتِ عن فقدانِ البراءةِ في زمنِ الحربِ.
في كلِّ أغنيةٍ، كان بن البادية يحفرُ في الذاكرةِ الجمعيةِ للسودانيينَ، ليتركَ نقشًا يقولُ: "هنا مرَّ فنانٌ رأى الجمالَ حتى في جراحِ الوطنِ".
الجدلُ الفنيُّ: عندما اختلفَ العمالقةُ
أثارتْ أغنيةُ "سال من شعرها الذهب" غضبَ الفنانِ الكبيرِ إبراهيم عوض، الذي اعتبر أن ود الحاوي كان يجب أن يمنحَ اللحنَ لهُ بعد تعاونهما الناجحِ في أغانٍ مثل "المصير". لكن التاريخَ أثبتَ أن اختيارَ ود الحاوي لبن البادية كانَ صائبًا، فقد حوّلَ الصوتُ القويُّ والروحُ التأمليةُ الأغنيةَ إلى تحفةٍ خالدةٍ.
الإرثُ: ما بعد الرحيلِ
رحل صلاح بن البادية تاركًا وراءه إرثًا غنائيًا يُدرسُ في كلياتِ الموسيقى، وصوتًا ما زالَ يُعيدُ للسودانيينَ ذكرياتِ زمنٍ كان الفنُّ فيهِ رسالةً وليسَ سلعةً. اليومَ، تُعيدُ الأجيالُ الجديدةُ اكتشافَ أغانيهِ، لا كتراثٍ فحسب، بل كدليلٍ على أن الفنَّ الحقيقيَّ لا يموتُ.
في زمنِ الانقساماتِ، يظلُّ بن البادية رمزًا لوحدةِ السودانِ الثقافيةِ، حيثُ لا فرقَ بين شمالٍ وجنوبٍ، إلا في تنوعِ الإيقاعاتِ التي تجتمعُ تحتَ سماءِ أغانيهِ.
النغمةُ التي صارتْ ترابًا
عندما يُذكر صلاح بن البادية، يُذكر السودانُ بكلِّ تناقضاتِه: جمالُ الأرضِ وقسوةُ الحروبِ، غنى الثقافةِ وفقرُ السياسةِ. كانَ صوتُه مرآةً لهذا التناقضِ، لكنه اختارَ أن يُغني للجمالِ رغمَ الجراحِ. اليومَ، وبعد رحيلِه، صارتْ أغانيهِ جزءًا من ترابِ السودانِ، تُنبِتُ كلما مرَّ عليها مطرُ الذاكرةِ.
رحم الله صلاح بن البادية، فقد كان نغمةً صادقةً في سماءِ الفنِّ السودانيِّ.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأغنیة السودانیة

إقرأ أيضاً:

صابرين النجيلي: كواليس «متدقش» كانت ممتعة ونجاح الأغنية فاق التوقعات.. فيديو

كشفت الفنانة صابرين النجيلي كواليس أغنيتها الجديدة "متدقش"، والتي طرحتها مؤخرًا عبر المنصات الرقمية، مؤكدة أن بداية إعجابها بالأغنية جاءت خلال جلسة عمل جمعتها مع مهندس الصوت يوسف حسين والملحن محمود حسن داخل الاستوديو.

وأضافت صابرين النجيلي، خلال لقاء خاص ببرنامج سبوت لايت مع الإعلامية شيرين سليمان، المذاع على قناة صدى البلد، قائلة: "كنا قاعدين في الأستوديو، وعجبتني الأغنية جدًا، وجربت صوتي عليها وطلعت حلوة جدًا بصوتي، كمان مستر فهد الزاهد من شركة لايف ستايل عجبه العمل وقررنا نتعاون فيها".

وتابعت صابرين النجيلي، قائلة: "اختارنا المخرجة رودينا حاطوم عشان تعمل الكليب، لأنها حتتها الألوان والرقص والهيصة والحلاوة، والحمد لله نفذنا الأغنية والكليب كان أحلى مما توقعنا".

وروت صابرين موقفًا طريفًا من كواليس تصوير الكليب، قائلة: "أصعب حاجة كانت البغبغان، ضوافره كانت داخلة في كتفي، وكان بيأكل شعري ومش راضي يصور، لكن الكليب كله كان دمه خفيف، اللبس والألوان والممثلين كلهم كانوا طعمهم حلو جدًا".

وأشارت صابرين النجيلي، إلى أن تنفيذ الأغنية لم يستغرق وقتًا طويلًا، قائلة: "ركبنا الصولو على طول، ويوسف حسين خلّص التوزيع بسرعة لأنه كان حابب المزيكا، صورنا بسرعة، وحتى الاستوري بورد اتعمل فورًا لأن الأغنية نفسها شجعتنا نتحمس ليها، بس اللي اتأخر شوية كان توقيت نزولها بسبب رمضان".

وحول تتابع أعمالها، أوضحت صابرين أنها اختارت طرح "متدقش" بعد نجاح "أنت مين"، رغم تحذيرات البعض من استعجال الطرح قائلة: "في عز ما أنت مين كانت تريند، قررت أنزل دق دقة، الناس قالتلي استني، بس أنا حبيت أنزلها، وفعلاً رغم إن الريتش كان ضعيف، الأغنية حققت نجاح كبير، وفنانين كتير عملوا عليها فيديوهات، واتفاجأت بمسلسلات قبل رمضان بتطلب استخدامها".

واختتمت صابرين النجيلي، حديثها قائلة: "كنت متوقعة نجاحها، بس مش للدرجة دي… الحمد لله".

اقرأ أيضاًتامر حسني يكشف سر تعاونه مع رضا البحراوي بفيلم «ريستارت».. فيديو

نصير شمة: معرض «ربع تون» يمثل هويتنا الموسيقية.. وأحول نشارة العود إلى لوحات فنية

محمد ثروت: وقوفي أمام ميمي جمال شرف كبير.. وسعيد بتجربة فيلم «ريستارت».. فيديو

باسم سمرة: «ريستارت» يناقش قضية أسرية مهمة في إطار كوميدي.. فيديو

مقالات مشابهة

  • بتعاون مع هيفاء وهبي.. بوسي تشارك في الأغنية الدعائية لفيلم أحمد وأحمد
  • طرح الأغنية الدعائية لـ فيلم أحمد وأحمد بطولة أحمد السقا وأحمد فهمي
  • غناء هيفاء وهبي وبوسي .. طرح الأغنية الدعائية لفيلم أحمد وأحمد
  • هزاع بن زايد: في يوم الأب نقف بكل شموخ واعتزاز أمام سيرة زايد العطرة
  • منى الشاذلي تتصدر تريند جوجل بعد استضافتها نجل حسن الأسمر: "كتاب حياتي" يُعيد الجمهور إلى زمن الأغنية الشعبية الذهبية
  • صابرين النجيلي: كواليس «متدقش» كانت ممتعة ونجاح الأغنية فاق التوقعات.. فيديو
  • وزير الطوارئ وإدارة الكوارث السيد رائد الصالح في مقابلة مع قناة الإخبارية: بدأ عمل الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) قبل 12 عاماً ووصل عدد العاملين فيه قبل التحرير إلى 3500 شخص
  • داعية بنغلاديش البارز.. سيرة الشيخ دلوار سعيدي بين المنبر والبرلمان
  • هيفاء وهبي وبوسي يقدمان الأغنية الدعائية لفيلم «أحمد وأحمد»
  • أونكتاد: مصر نموذج رائد لجذب الاستثمار رغم انخفاض التدفقات العالمية