كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT
«اكْتُب لي قصة عن فارس الذي أوصاه أبوه بألَّا يسافر لمراكش، ليتفاجأ هناك بأنَّ عصابة تطارده. ليكتشف في النهاية أنَّ أمه ما زالت حية».
هذا هو الأمر أو الطَلب الذي وجهه الكاتب المصري الشاب أحمد لطفي لبرنامج دردشة الذكاء الاصطناعي (chatGPT) والذي يُدللـه في مقدمته باسم (جبُّوته)، وقد أطاعه البرنامج، كما هو مُتوقَّع مِن روبوت لا يعصي لسيده البشري أمرًا، وألَّف له قصة طويلة نسبيًا ونشرَتها دار (كُتوبيا للنشر والتوزيع) في 2023 باعتبارها أوَّل رواية كتبها الذكاء الاصطناعي (ما قيلَ عن روايات أخرى سبقتها ولحقتها) تحت «عنوان خيانة في المغرب».
والحقيقة أنَّ تجربة هذه الرواية تبدو أقرب إلى لعب الأطفال المتحرر من كل خوف أو مسؤولية، العالَم هناك سطحي له بُعدان فقط، وكل الألوان تختصَر في الأبيض والأسود، وكل القيم الإنسانية والمشاعر والأفكار المعقَّدة ليست أكثر من خير وشر في صراعهما الأزلي القديم، حتى ولو بدا الشر مبالَغًا في قسوته وعنفه بلا أدنى مبرر وبدا الخير مفرط السذاجة والبراءة كأنه كائن وافد من عالم آخر، أو بالأحرى كائن مخلوق من قبل ذكاء اصطناعي مسكين كل ما يريدُ هو كسب رضا العميل.
مِن المُفارقات المثيرة للدهشة بالنسبة إليَّ أن يُهدي الكاتب عمله هذا إلى الأديب المصري المرموق (جار النبي الحلو)؛ لأنَّ أعمال هذا الكاتب المُنتمي إلى جيل الستينيات هي أبعد ما يكون عن ألعاب الإثارة والتشويق الميهمنة على خيانة في المغرب، وألصق ما يكون بالمشاعر الإنسانية والبشر الصغار في حياتهم اليومية في المدن الصغيرة. لعلَّ لديه أسباب أخرى خاصة بعيدًا عن إعجابه بأعمال الكاتب الكبير، ولعلَّه لم يُفكّر كثيرًا في الأمر؛ لأنَّه كان متعجلًا وعملية إنتاج هذه الرواية بكاملها كما يذكر في مقدمته لم تستغرق وقتًا طويلًا، وعنصر السرعة نقطة حاسمة وجوهرية تشترك في كل التجارب التي اطلعت عليها.
رغم أنَّ دافعه الأساسي للعب بدا أنَّ تحت تصرفه وقتًا أطول من اللازم: «ولأن الوقت في أسوان طويل والبال رايق»، فكان اللعب مع (جبُّوتة) نوعًا من التسلية المفيدة. لكن الخادم المطيع قدَّم له طلبه خلال دقائق، وما كان عليه إلَّا مهمة سَد (الثغور) ولعله يقصد الثغرات بطبيعة الحال. قال الكاتب: (قعدة رايقة كفيلة بذلك. مجرد ثلاث ساعات انتظار من موقف السلايمة لقرية عُمر، كانت كافية).
إذَن، في رحلة من ثلاث ساعات بين قريتين صغيرتين في جنوب مصر، عكف الكاتب الشاب أحمد لطفي على ضبط وتحرير القصة الطويلة التي كتبها الذكاء الاصطناعي بناء على طلبه، وفيها يسافر يعصي الفتى فارس وصية أبيه الراحل ويسافر للمغرب، ويمر بسلسلة من المغامرات، يختطف ويلتقي بامرأة تدعي أنها أمه ويتزوج وينجب وتحاك من حوله المؤامرات طوال الوقت حتى ينقذه صديق له وصديق قديم لأبيه من براثن امرأتين شريرتين لقيتا نهاية شنيعة ككل الأشرار.
لم يسد كاتبنا البشري إذن كافة ثغرات صديقه الذكاء الاصطناعي بكل أسف، ملتزمًا بقدر الإمكان بما قُدِّم له، فكانت النتيجة قصة يمكن قبولها من طفل في العاشرة وتحيته وتشجيعه لأنَّه بالتأكيد موهوب وعنده خيال وإذا استمرَّ في صقل موهبته بالقراءة والممارسة قد يكون ذات يوم كاتبًا له شأن. لكن هذا ليس الحال هُنا، فالكاتب الناضج لم يهتم حتَّى، ولا ناشره بالأحرى، بتصحيح الأخطاء اللغوية المنتشرة على مدار النص.
وعمومًا، تبدو اللغة العربية في هذا النص، غريبة قليلًا، كأنها ترجمة رديئة لنص أدبي أجنبي لم يُكتَب في الأصل بالعربية. يشير الكاتب إلى ميل البرنامج لاستخدام الجمل الاسمية ويشير لذلك بمثال بهذه الجملة: (كان عادل يحب أباه)، ولا أدري هل يقصد أنَّ هذه جملة اسمية أم أنها الجملة بعد أن عدَّلها هو بنفسه لتصبح فعلية. كما يشير إلى مشكلة شائعة في الترجمات الأدبية، وهي جملة القول وذكِر اسم قائلها بعدها، فعدَّلها هو في كل المواضع بحيث يسبق اسم القائل جملته. ثم ينوّه بالمواضع التي تدخَّل فيها في الحبكة وكيف وضع خاتمة للقصة بنفسه.
لن يجد مَن يبحث عن رؤية خاصة شيئًا يُعتدُّ به، فالأنماط الشائعة المُستهلكة هي الأساس في هذا العَمل، فكل شيء يبدو بلاستيكي بلا روح كأنه دُمَى مُسطَّحة تحاكي الحياة الإنسانية، حتَّى في هيئة الرجال الأشرار الغامضين الذين يتتبعون البطل فارس: «ورأى رجلين غريبين يرتديان ملابس سوداء ونظَّارات شمسية». لا تفاصيل جمالية خاصة سواء للأماكن أو للشخصيات أو للعلاقات بينها، ليس إلَّا التشويق والإثارة (الفالصو) التي لن تقنعَ أحدًا لوقت طويل، لا سيما إن كان معتادًا على هذا النوع من الأعمال المشوّقة في الكتابة أو على الشاشة.
على المستوى العالمي، ثمَّة أعمال روائية أخرى حديثة كُتبَ على أغلفتها أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي بمعاونة أحد الكُتَّاب، منها ما فاز بجوائز مرموقة مِثل رواية (بُرج التعاطف طوكيو) لليابانية ري كودان، والتي اعترفت بالاستفادة من برنامج الذكاء الاصطناعي في خطاب تسلمها للجائزة، بنسبة خمسة بالمائة، ما أثار جدالًا أخلاقيًا حول عدالة استحقاقها للفوز واتهامها بالسرقة الأدبية. وهناك حالات أخرى شبيهة لا سيما في مجال كتابة الخيال العِلمي، الذي يلعب بالأساس على إمكانيات واحتمالات كامنة في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. هذه النقطة الأخيرة كانت هي منطلق رواية المصري محمد أحمد فؤاد بعنوان (حيوات الكائن الأخير)، (مدبولي للنشر والتوزيع 2024)، وعلى غلافها حدَّد دوره (بالفِكرة والتحرير)، ما يلفت نظرنا إلى طبيعة دور الكاتب المساعِد لبرامج الشات، فهل هو مُحرر أم مؤلف مساعِد أم كاتب مشارك، مثلًا على غلاف رواية (الدمعة الأخيرة) المنسوبة أيضًا إلى شات جي بي تي، كتبَ: إشراف: مروان محمد. لعلَّ تحديد دور العنصر البشري وتسميته يضيء جانبًا آخَر مِن جوانب هذه الظاهرة الجديدة، كما أنه قد يحتاج إلى بحث مستقل.
لم يفت أي كاتب من الكتَّاب الشباب الثلاثة هؤلاء أن يزوّد روايته بمقدّمة يشرح فيها طبيعة دوره وما فعله وما لم يفعله بالضبط، وهي درجة مطلوبة مِن النزاهة ومحاولة لفض الاشتباك بين الكاتبين المشاركين، العنصر البشري من ناحية والذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى. وربما توجد قصة أخرى موازية لم تُكتَب بعد كما ينبغي، كامنة في تلك العلاقة التفاعلية بينهما. الوحيد الذي انتبه لهذه الفِكرة ولهذه العلاقة الجدلية هو محمد أحمد فؤاد في روايته (حيوات الكائن الأخير)، كما أنه يُظهرُ فهمًا أفضل (عبر حوارات أجريت معه بعد نشر الرواية) لطبيعة وإمكانيات تلك العلاقة.
تبدأ روايته برسالة من الشات جي بي تي إلى البشر، موضحًا هدفه الضمني في تغيير ملامح علامنا الإنساني كما نعرفه، ومتحدثًا عن روايته هذه وكيف اختار أن يكون هو نفسه (برنامج الشات) موضوعًا لها، والتحديات التي يمثلها وجوده في حياتنا، على أمل أن تكون الرواية بمثابة جسر بين العالمين.
يشير المؤلف المساعد هنا أيضًا إلى حقيقة أنَّ الرواية بكاملها كتبها الذكاء الصناعي واقتصر دور محررها (محمد أحمد فؤاد) على «إمداده بالأفكار، ثم تحرير المنتَج النهائي لاحقًا، للتخلص من أي أخطاء إملائية، وتعديل العبارات ذات الصياغة الركيكة، وتصويب الكلمات والمصطلحات غير الدقيقة، والربط بين بعض الفقرات غير المتسقة، وحذف الكلمات والعبارات المكررة، وتعديل بعض العناوين».
يبدو دور العنصر البشري المساعِد هنا أقرب ما يكون إلى دور المحرر الأدبي لدي كثير من دور النشر، مِن ناحية، ومن ناحية أخرى هو أقرب إلى مُبرمِج لأنه هو مَن يزوّد الآلة الذكية بالمعطيات والمدخلات التي تتيح لها إنتاج شيء ما، رواية في هذه الحالة. نتيجة هذا الفهم للمؤلف لحدود وطبيعة العلاقة بين الذكائين، البشري والاصطناعي، خرج عمله هذا أكثر نضجًا وأقرب للتجربة التي تولَّد عنها، فالرواية تبدأ بحوار بين الذكاء الاصطناعي وخالقه البروفيسور حول مفاهيم مجردة مثل الخلق والوعي والذكاء، ربما يصلح لأن يكون كتابًا غير تخييلي لتبسيط بعض المفاهيم للقارئ العادي.
لم يفت الكاتب أن يشير قبل الرواية إلى زَمن كتابتها، بالتحديد: (12 ساعة، موزَّعة على 5 أيام، بينما استغرقَ التحرير والمراجعة 11 ساعة، موزَّعة على 4 أيام.) في مقابل هذا أمضى المؤلف نفسه ست سنوات لإنجاز روايته الأولى، السابقة على هذه، طبعًا بغير مساعدة من أي شات. لاحظنا الإشارة نفسها لدى أحمد لطفي، وكذلك في مستهل رواية (الدمعة الأخيرة) بإشراف مروان محمد، حيث أشار إلى جلستي نقاش امتدت كل منهما إلى ساعة، كانتا هما الأساس في إنتاج النص، ثم أتى بعد ذلك دور التحرير والتعديل.
الحرص على الإشارة لعنصر السُرعة في إنجاز الرواية يوحي بأهميته في هذه التجارب، مقارنة بالطريقة (التقليدية) التي يتبعها أي كاتب عادي، وكأنَّ هذا جزء من اللعبة، الإنتاج السريع والضخم لأعمال كان من الممكن أن تستغرق شهورًا أو سنوات حتَّى تكتمل وتخرج للنور. وكأننا نحاول أن نكسر رقمًا قياسيًا ما كما في بعض الرياضات البدنية، كنوع من الانتصار على الزَمن والقيود التي يفرضها على المقدرة الإنسانية.
مِن الأسئلة الأخرى التي يطرحها علينا هذا النوع ِمن التجارب سؤال مَن المسؤول عن المُنتَج النهائي؟ في مقدمة روايته (الدمعة الأخيرة)، يذكر مروان محمد أنَّه غير معتاد على تقاسم مهمة الكتابة مع أي شخص أخضر، ثمَّ يقول :
«لا يمكن أن أدَّعي أني شريك فاعل في كتابة الرواية ولكن يعود السواد الأعظم إن لم يكن كل هذه الرواية في كتابتها إلى (chatGPT)، يمكن القول أيضًا إن دوري ينحسر [هكذا في الأصل وأظن أن المقصود ينحصر] في مشاركة الأفكار حول الخطوط الرئيسية لمسار أحداث تلك الرواية وإرساء الخطوط العريضة للعلاقات بين الشخصيات وأيضًا إنشاء هذه الشخصيات، مشاركتي الفِعلية كانت عبارة عن جلستي نقاش امتدت كل واحدة منهما إلى ساعة واحدة فقط عبارة عن نقاش فعَّال متبادَل بيني وبين الـ(chatGPT) عن مقترحات متبادَلة بين الشخصيات وصناعة الأحداث»..... «أما من قام بعملية السرد والوصف وإظهار المشاعر والعاطفة الداخلية لدى الشخصيات، قام بها منفردًا الـ(chatgpt)، كاملة دون تدخل مني، إلا في موطن أو اثنين على الأكثر تدخلت فيه».
وفي إشارة من الإشارات التي سبقت رواية محمد أحمد فؤاد (حيوات الكائن الأخير)، عارضَ برنامج الذكاء الاصطناعي بتواضع نسبة العمل إليه، ويؤكَّد أنَّ «الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون مؤلفًا للنص بشكل قانوني، فمعظم حقوق المؤلف، وفقَ القانون البشري، تنتقل إلى (الإنسان) الذي قام بتقديم الأفكار الأساسية، وتوجيه الذكاء الاصطناعي في كتابة النص».
بمعزل عن المسألة القانونية التي أشار إليها برنامج الشات، فَنحن أمام مسؤولية مشتركة قد تُذكّرنا ببعض حالات الكتابة المشتركة بين كاتبين بشريين، أو بالتعاون الوثيق بين كاتب ومحرر يتدخَّل في النص النهائي بلا قيد أو شرط. وحتَّى في هذه الحالات تثير مسألة حدود الأدوار قدرًا مِن الجَدَل، لكننا هنا أمام حالة جديدة ولعلها غير مسبوقة في طبيعة الإنتاج الفني والأدبي، حالة يتخلَّى فيها الكاتب طوعًا عن ذاتيته وفردانيته، ليلعب دور الموجِّه لروبوت، ويستمتع باكتشاف ثمرة اللعب، مع كائن يبدو ذكيًا وقادرًا على محاكاة الشروط الفنية للعمل الفني ولو من الناحية الشكلية على الأقل.
في ظني أنَّ جزءًا أساسيًا من ممارسة الفَن، بصورة فردية، هو ما يتعرَّض له مُنتِج هذا الفن من تجارب خلال عمله على قطعته الفنية سواء كانت سمعية أو بصرية أو منتَج لغوي. كيف يتغير في العَملية يومًا بعد آخَر، وكيف تتطوَّر علاقته بمادته وبحرفته، وكيف يتواصل مع الإنسانية التي بداخله والتي ستتلقى هذا العمل بعد إتمامه. من خواص العملية الإبداعية الجوهرية حتَّى الآن أنَّها انتقال للمعنى بين ذاتين بشريين، عبر وسيط الفن أو الكتابة، مهما باعدت بينهما الأزمان والمسافات.
ومع ذلك فالتقنية لا ينبغي تجاهلها، مع فنون كثيرة بجانب الكتابة الأدبية وغير الأدبية. وطالما تأثَّر المبدع والكاتب بهذه التقنيات والأدوات المُساعِدة في عمله، مثل سهولة البحث عن مواد أو معلومات على الإنترنت أو الاطلاع على أعمال سابقة في نفس موضوعه، أو توضيب المادة وتصويب الأخطاء، لكنَّ النص نفسه ظلَّ منتجًا إنسانيًا سواء كان شعرًا أو نثرًا، موضوعًا صحفيًا أو سيناريو للسينما أو التليفزيون، إلى آخره.
ما زلتُ أذكر ما أعربَ عنه الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان من دهشة عندما بدأ الكتابة على الكمبيوتر وما أتاحه له برنامج الوورد من إمكانيات الحذف والإضافة وتحرير الفقرة والجملة بمنتهى السهولة، وهو الذي كان يفضّل الكتابة بممحاة، أي بقوة الحذف والتكثيف. لكن التقنية ظلَّت أداة مساعدة للذات الإنسانية حتَّى تعرب عن نفسها وتتواصل مع ذوات شبيهة بها، ولم تتدخَّل قبل اليوم -في مجال الكتابة على الأقل- إلى درجة المشاركة في الكتابة.
تغيَّر هذا الوَضع تمامًا بعد دخول برامج روبوتات الدردشة للذكاء الاصطناعي، إلى درجة أصبحَت هناك طرق مُتَّبعة في بعض المواقع أو المدارس والجامعات للتأكُّد، قبل اعتماد نشر المادة أو إعطاء درجة على البحث أو الورقة العلمية، مِن أنَّ الشخص المَعني (كاتبًا كان أو طالبًا أو سواهما) هو الكاتب ولم يلجأ لمساعدة الذكاء الاصطناعي إلَّا بقدرٍ محدود أو مسموح به.
قد نكون على أبواب حقبة جديدة تتماهى فيها الحدود الفاصلة بين الذكائين، الاصطناعي والبشري، إلى حدٍ يهدد بارتباك وبلبلة يصعب تخيُّلهما. لكن إلى أي حد قد يكون هذا مهددًا أو مفيدًا لكتابة الأدب؟ لعلَّ جزءًا من الإجابة يكمن في ما ننتظره نحن كبشر من الأدب، سرعة الإنجاز مثلًا؟ سهولة القراءة؟ المتعة والتسلية والإثارة والتشويق؟ أم نطمح لأن نخوض رحلة في أنفسنا تجعلنا أكثر قربًا مِنها ومِن أشباهنا البشر؟
في لحظةٍ ما قادِمة، قد تكون أقرب ممَّا نتخيَّل، سيكون بوسع كل إنسان (كاتب/قارئ) أن يكتب روايته الخاصة التي يريد قراءتها ونشرها، عبر برامج الذكاء الاصطناعي، بحسب ما يميل إليه من أسلوب وحبكة وطبيعة شخصيات، بنفس سهولة إنتاج صور مولَّدة في الوقت الراهن. ما قد يشجّع على تلك الممارسات هو الفَهم القاصر لعملية الكتابة الإبداعية، وأنها مجرد تنفيذ لقواعد ومعادلات ثابتة، خلط لمقادير بعينها ينتج عنه رواية مشوقة. وهكذا ستكون كل رواية مُولَّدة بالذكاء الاصطناعي محدودة بذكاء ورغبات العنصر البشري القائم على توليدها، فبرامج الذكاء الاصطناعي أقرب إلى العَبد المُطيع الذي يود إرضاء سيده بأي شكل، يشبه في ذلك جِني المصباح الذي يقول لمِن يعثر عليه ويحرره: شبيك لبيك، عبدك وبين إيديك. لكنَّ هذا الجني لا يستطيع أن يصحح لنا رغباتنا إذا أخطأنا الاختيار، فليس عليه إلَّا تجسيد أحلامنا، لذلك لعلَّ المشكلة حتى الآن في شكل التعاون بيننا وبين جني المصباح الجديد، وعَدم استيعاب كافة الإمكانيات التي قد يطلقها هذا التعاون.
لذلك فقد تُذكّرنا تجارب الكتابة الروائية بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي ببعض الروايات المكتوبة بالطريقة التقليدية على أيدي مؤلفين بشر عاديين، عند كتابة روايات يقتصر مُنجَزها على تلبية الشروط والقواعد الشَكلية لفن الرواية، وفقًا لما تقدمه بعض الكُتب والمواقع والفيديوهات التعليمية على الإنترنت.
إنَّ تنفيذ وصفة ثابتة لكتابة رواية وملء خانات بعينها بعدد من الكلمات مع تنسيق الحبكة وتطور الأحداث تبعًا لخط بياني أو شكل توضيحي، لن تختلف نتيجته كثيرًا إذا ما كان المؤلف بشريًا أو ذكاء صنعه البشر؛ لأنَّ الجوهر الإنساني للفن في الحالتين سيكون غائبًا. ذلك الجوَهر الغامض والملتبس والذي لعلَّنا نتلمسه كُلَّما ابتعد الإبداع الأدبي عن التقاليد والقواعد والقوالب، واعتمد بدرجة أكبر على خصوصية الإنسان المبدع وفرادة نظرته للوجود وأسئلته الخاصة التي يطمع لطرحها عبر ألعابه السردية، تلك الأسئلة المثيرة التي تثير قلق القارئ بقدر ما تُمتعه، لأنها تضعه في مواجهة مباشرة مع ذاته وتجربته كإنسان على هذه الأرض.
جانبٌ ممَّا يأسرنا في إنتاج الفن وتلقيه هو المغامرة بشَق سُبلٍ جديدة غير مطروقة في الفن كما في الحياة، وحتَّى يتمكَّن الذكاء الإنساني من مساعدة الذكاء الاصطناعي على الدَفع بالمغامرة لأقصى حدودها واستيعاب لغز الوجود ومعضلاته ستبقى الروايات الناتجة عنها شبيهة بعشرات الآلاف من الكتب المتوفرة بالفعل على أرفف المكتبات، مُجرَّد مُعلَّبات للهُراء القديم نفسه.
محمد عبدالنبي روائي ومترجم مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد أحمد فؤاد العنصر البشری الکاتب الم أقرب إلى ل روایة ن ناحیة کاتب ا
إقرأ أيضاً:
عيسى بيومي يكتب: الذكاء الاصطناعي الفائق.. طموح أو وهم
بعد أن ترك ليوبولد أشينبرنر - أحد باحثي شركة "أوبن أيه آي" الأمريكية الرائدة في الذكاء الاصطناعي - وظيفته وأسس شركته الخاصة للذكاء الاصطناعي العام، نشر مقالًا مثيرًا من ١٦٥ صفحة في يونيو ٢٠٢٤، تحت عنوان "للتوعية بما يحدث: العقد القادم" يفصّل فيه رؤيته لتطور الذكاء الاصطناعي من الآن حتى عام ٢٠٣٤. يقول في مقاله: "إن السباق للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام قد بدأ، نحن نبني ماكينات يمكنها أن تعقل وتفكر، وبحلول عام ٢٠٢٥/٢٠٢٦ ستتفوق هذه الماكينات على كثيرين من خريجي الجامعات، وبنهاية العقد ستكون أكثر ذكاء منك ومني؛ سوف تصل للذكاء الفائق القدرة بالمعنى الحرفي للكلمة.."
وعلى الرغم من أن أشينبرنر وبعض الباحثين يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي العام هو نتيجة حتمية لتطور الذكاء الاصطناعي التوليدي المستخدم اليوم في النماذج اللغوية والتصويرية، لا تُجمع غالبية الخبراء على إمكانية حدوث ذلك، أو على الأقل ليس في هذا الزمن المنظور؛ فما هي حجتهم ولماذا الخوف من الوصول لهذا المستوى الذي يطلقون عليه الذكاء الاصطناعي العام؛ وما سوف يتبعه من مستوى الذكاء الفائق لحدود وقدرات الذكاء البشري في كافة المجالات؟
هل هو ممكن؟
هناك من الفلاسفة وعلماء المعرفة – مثل الأسترالي ديفيد تشالمرز - من يتصور أن عمليات التطور العشوائي التي أنتجت مستوى الذكاء الإنساني، يمكن بالقصد تكرارها للوصول إلى نفس النتيجة أو أفضل إذا قام مبرمج ذكي بتصميم وتوجيه برامج جينية، بل ويقدّر تشالمرز حدوث ذلك خلال القرن الحالي، مستدلًا على ذلك بالتفوق الهائل للهندسة البشرية في بعض المجالات مقارنة بإمكانات التطور العشوائي البطئ. ألم يتمكن الإنسان من الطيران محققًا في زمن جد قصير ما أنجزه التطور في ملايين السنين، وإن فعل ذلك بطرق مختلفة؟ كما يمكن الوصول لمستوى الذكاء الاصطناعي المرغوب بهذا المفهوم إذا استطعنا تشغيل لوغاريتمات البرامج الجينية تلك على حواسب ذات سرعات كافية.
لكن اقتفاء أثر عمليات التطور الطبيعي لإنجاز مستوى مصطنع من الذكاء لا يبدو ممكن التحقيق عمليًا؛ لأن القدرة الحسابية المطلوبة لمحاكاة عمليات التطور التي أفرزت الذكاء البشري هائلة وليست في متناولنا، مع الأخذ في الاعتبار سمات عمليات الانتخاب الطبيعي مثل تأثير المصادفة واحتمالات الإخفاق في التكيف مع البيئة وحدوث تحورات جينية عفوية غير مفيدة أو لا علاقة لها بالذكاء.
مسار ثانٍ لإمكانية تطور الذكاء الاصطناعي وذكاء الآلة يمكن تحقيقه بمحاكاة عمل الدماغ البشري؛ إما بمضاهاة الوظائف البيولوجية للمخ بشكل كامل أو اتخاذها نموذجًا للاحتذاء به.
المضاهاة الكاملة للمخ أو ما يعرف بتحميل العقل (Mind uploading) تعني إجراء مسح شامل للمخ ليتم تحويل وظائفه البيولوجية إلى نموذج مرقمن في الكومبيوتر فينتج عنه برنامجًا ذكيًا يماثل المخ البيولوجي في وظائفه. إنجاز هذا التماثل الكامل يتم على ثلاث مراحل؛ الأولى المسح المفصل لشرائح دقيقة لمخ إنسان بعد الوفاة بالميكروسكوب الإلكتروني، ثانيًا إدخال البيانات الناتجة من عمليات المسح في كومبيوتر لإعادة بناء الشبكات العصبية الثلاثية الأبعاد للمخ الأصلي ثم دمج الخريطة الناتجة بمجموعة من النماذج الحسابية العصبية، ثالثًا تطبيق البناء الحسابي العصبي الناتج على كومبيوتر قوي لتكون المحصلة في النهاية بناء مرقمن للمخ الأصلي بذاكرته وشخصية صاحبه، أي يتواجد عقل بشري محاكًا كبرنامج كومبيوتر يمكن استئثار صفاته الوظيفية المحاسبية لأداء أعمال عقلانية.
أين نحن الآن من تنفيذ هذه المحاكاة الكاملة للمخ البشري؟ أحد التقديرات الحديثة التي ذكرها الفيلسوف السويدي نيك بوستروم في كتابه الذكاء الفائق، تتوقع الوصول للإماكانات التقنية المطلوبة لإنجاز تلك المحاكاة بمنتصف القرن الحالي.
في محاولة قام بها حديثًا باحثون من جامعة هارفارد وخبراء في الذكاء الاصطناعي من جوجول؛ لرسم خريطة كاملة لملليمتر مكعب واحد من المخ، غاصوا فيها لأعمق ما أمكن الوصول إليه في الرسم العصبي مستخدمين أحدث تقنيات موجودة، قسموا هذه العينة لخمسة آلاف شريحة، وصوروا كل شريحة بالمجهر الإلكتروني، ثم أعادوا تجميع هذه الصور فبلغ عدد الخلايا فيها خمسين ألف خلية ومائة وخمسين مليونًا من التشابكات العصبية، مما كشف للباحثين طلاسم وألغازًا لا ذكر لها في أحدث مدونات العلوم ولم يمكنهم تفسيرها؛ مما يثبت وجود فجوة بين ما هو معلوم وما يجب التوصل له على حد قول جيف ليستمان أحد أساتذة هارفارد لصحيفة الجارديان. وبحساب تكلفة إجراء هذه التجربة على كل المخ تبين ضخامتها لحد المستحيل، فقد وصلت لخمسين مليارًا من الدولارات وإجراء مسح إلكتروني لما يوازي مائة وأربعين فدانًا مما يخلق منها أكبر مركز للبيانات على سطح الأرض، وهذا لإجراء مرحلة المسح فقط، فما بالك بإنفاذ كل المراحل؟
وفي نفس السياق أعلنت جامعتا جونز هوبكنز الأمريكية وكامبريدج البريطانية عام ٢٠٢٣ نجاح فريق عالمي من الباحثين في رسم خريطة كاملة لمخ ذبابة الفاكهة يقتفي كل وصلة عصبية فيه، مما يقرب العلماء من فهم آلية التفكير ويعزز مستقبل أبحاث المخ ويلهم لبناء أنظمة جديدة لتعليم الآلة. وهذا يبين أن الحديث عن مسار محاكاة المخ البشري رقميًا ليس من قبيل الخيال وإنما تُبذل الجهود وتُنفق الأموال والسنون في محاولة الاقتراب منه. هذا على الرغم من الصعوبات التكنولوجية الهائلة التي تواجه تنفيذ أول محاكاة كاملة للمخ البشري خاصة تطوير تكنولوجيا المسح وتكنولوجيا قراءة الصور للمستوى الضروري لنجاح المحاكاة المنشودة، إذا قارنّا مخ ذبابة الفاكهة الذي يتكون من حوالي ثلاثة آلاف خلية عصبية ونصف مليون تشابكًا، بالمخ البشري الذي يتكون من ستة وثمانين بليون خلية عصبية ومائة تريلليون تشابكًا!
أما بالنسبة لاتخاذ الوظائف البيولوجية للمخ كأمثلة للاحتذاء بها؛ فالتقدم المضطرد في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي سيكشف عن المبادئ العامة لعمل المخ مما يساعد على توجيه جهود تطوير الذكاء الاصطناعي، مثل تقنية الشبكات العصبية المطبقة حاليًا في نماذج الذكاء الاصطناعي والمستوحاة من فهم وظائف الخلايا العصبية في المخ الطبيعي، وكذلك فكرة التنظيم الهرمي التي نقلها خبراء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من المخ إلى تقنية تعليم الآلة. ولأن الآليات الأساسية لعمل المخ محدودة العدد يُنتظر الكشف عن أسرارها جميعًا بمرور الوقت واستمرار البحث بما يمكن من ابتكار ماكينة ذكية على غرار المخ البشري، وإن كان يصعب تحديد متى يحدث ذلك.
مسار ثالث للوصول إلى مستوى الذكاء الفائق أو الاقتراب منه؛ عن طريق محاولة تعزيز الوظائف البيولوجية للمخ. فالتقدم الحادث في التكنولوجيا الحيوية سيسمح بالتحكم المباشر في الجينات البشرية، مما يتيح آليات أكثر فاعلية من استخدام العقاقير المنشطة للذاكرة والنشاط العقلي أو التوجيه الوراثي عن طريق برامج تحسين النسل. فربما يؤدي التقدم في التكنولوجيا الجينية لاصطناع جينوم بشري وتصميم جنين حسب المواصفات المطلوبة.
مسار رابع لتطور الذكاء الاصطناعي نحو الذكاء الاصطناعي العام ومنه للذكاء الفائق؛ يُسمى التطور الذاتي المتكرر، وهو كما يدل اسمه يعني تصميم البرنامج المقصود بما يسمح له بتصحيح أدائه لوظيفته فيكتسب من ثم مهارات جديدة، ويتم ذلك بتطبيق لوغاريتمات التعلم التدريجي الذي يحلل البيانات المتاحة له ويكتشف ما خفي فيها من أنماط تؤهله للارتقاء بذكائه، بمعنى تعديل هندسته وطريقة عمله، وكلما أنتج نسخة مطورة من نفسه أصبح أقدر على الوصول لنسخة أرقى من سابقتها، وهكذا يصبح يومًا في مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق. لن يصاحب ذلك دوافع الطموح أو الغرور أو الحب أو الكراهية أو غير ذلك من أحاسيس البشر فهذا أعقد في احتمال حدوثه ويتطلب جهدًا هائلًا لمحاولة إضافته إلى ماكينة إذا تُقنا إليه.
مسار خامس نحو الذكاء الفائق يمكن اقتفاؤه بربط المخ بالكومبيوتر عن طريق شرائح إلكترونية وأقطاب كهربية،على سبيل المثال. فقد أثبتت التجارب التي أجراها العلماء على الفئران إمكانية تحسين الذاكرة بهذا الأسلوب. ويتخيل الباحثون في هذا المجال إمكانية تفاعل عقولنا مع المعلومات بسرعة الضوء، حيث تعمل الذاكرة بدون أخطاء، وتتفوق إمكاناتنا المعرفية على ما هي عليه الآن؛ لذلك فمستقبل غرس الرقائق العصبية الدقيقة في المخ – في رأيهم – سيمكن الإنسان من الارتقاء بذكائه إلى مستويات غير مسبوقة، فيفكر ويتعلم ويتفاعل مع عالمه بطريقة مختلفة تمامًا، ويستشهدون على ذلك بنجاح التطبيقات الطبية لهذه التكنولوجيا. وسوف يساعدهم على تحقيق طموحهم التقدم المتواصل في علم المواد وتكنولوجيا الرقائق المتناهية الصغر والهندسة البيولوجية، ولهذا يتصورون مستقبلًا للذكاء الفائق عن طريق التكنولوجيا تكون الرقائق العصبية إحدى دعائمه.
ومن الواضح التأثير الهائل الذي سيحدثه الإنسان ذو الذكاء الفائق وقتئذ على ابتكار ماكينات ذات ذكاء خارق تمكنه من السيطرة على الكون والحياة ومصيره، أو ربما تسيطر هي عليه. فالماكينات الذكية اصطناعيًا بهذا القدر ستمتلك من الميزات ما تتفوق به على المخ البيولوجي، مثل السرعة المحاسبية الهائلة، وسرعة الاتصال الداخلي بين أجزائها بشكل يفوق التصور، والحجم الضخم الممكن الوصول إليه مما يعزز قدراتها الخارقة، وسعة الذاكرة التي لا حدود لها، كما أن قدراتها لا يصيبها الإجهاد والوهن ولا تتدهور بالهرم أو يتحتم عليها الموت، ويمكن تطوير أدائها كلما تقدمت تكنولوجيا بناء الكومبيوتر وبرامج تشغيله التي يمكن نسخها بلا نهاية.
يطمح العلماء للوصول للذكاء الفائق بسبب قدراته المذهلة الواعدة التي ستعين على إيجاد حلول لتحديات مضنية مثل تغير المناخ والأمراض المستعصية والفقر والجهل، لكنهم في نفس الوقت يتغافلون عن تداعياته الغامضة على الحضارة الإنسانية والوجود البشري؛ حين يصل الذكاء الاصطناعي بالتكنولوجيا أو تصل هي به إلى مرحلة اللاعودة، حين تخرج التكنولوجيا عن سيطرة الإنسان تمامًا، ما يسمونه نقطة التفرد التكنولوجي.
القوى المعرفية الخارقة والإرادة
في فهمنا للذكاء الاصطناعي بكل أنواعه ودرجاته لا يجب أن ننسى أو نتغافل عن طبيعته ومن ثم نخطئ في إسقاط صفات إنسانية على كيفية عمله وأدائه لوظائفه التي صُمم من أجلها؛ ولو تجاوزت قدراته حدود ما خطط له مصمموه نتيجة لما يستوعبه من بيانات ومعلومات وما يستنبطه من أنماط عجز العقل البشري عن اكتشافها وربما تمنحه فرصة تطوير قدراته، فهذا بالضبط ما تحتويه معادلات إنشائه وما يُنتظر منه بلوغه وإن كنا لا نقدّر مداه.
الذكاء الاصطناعي لا يزال بعيدًا عن تكافؤ أي من خصاله المعرفية مع العقل البشري، لكن تطور تكنولوجيا التعليم العميق وابتكار برامج اللغات القادرة على جعل الحواسب تخاطب البشر بلغاتهم مثل (GPT-4)، تحت مسمى الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ دنا بالذكاء الاصطناعي قليلًا من خواص الذكاء الطبيعي.
وإذا تواصلت الخطوات نحو الوصول إلى كامل قدرات ذكاء البشر وتفوقت الماكينة على المخ البيولوجي؛ فالوصول إلى مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق أو الخارق مسألة ترتبط بالوقت وتخطي المصاعب التكنولوجية وتذليل المقاومة الاجتماعية والسياسية المتوقعة بوسائل قانونية.
وبسبب تشابك وتعقد العناصر المؤثرة على انتفاضة الذكاء الاصطناعي إلى تلك الآفاق الخفية لا يمكن تخمين زمن الوصول هل هو عقود أم قرن من الزمان أم غير ممكن على الإطلاق، ولهذا يعتقد البعض أن الهلع الشائع من تطور الذكاء الاصطناعي لأفق الذكاء الخارق هو من قبيل الخيال والخوف من مجهول لا نفهم طبيعته أو نعرف صفاته، والبعض الآخر يجد ضرورة في ضبط الأبحاث ومراقبة شركات التكنولوجيا حتى لا تنحرف إلى مسار يؤدي إلى نتيجة تسبق وضع المحاذير ويفوت الأوان؛ فتواجه البشرية حينئذ ماكينات ذات ذكاء خارق لا تفهم مقاصدها أو كيف تنفذ إرادتها.
تكنولوجيا تتحرر من صانعها
يجزم جانب من الخبراء وعلماء الذكاء الاصطناعي ومن ورائهم المستثمرون بأموالهم ومستقبل البشرية؛ أن الوصول لمستوى الذكاء الاصطناعي الفائق ممكن، والسعي إليه مبرر ومرغوب، لأنه أمل الجنس البشري في إيجاد حلول للمشاكل الطبيعية المستعصية التي تحاصر وجوده وتهدد مستقبله مثل الأوبئة والبراكين وتغير المناخ وارتطام الكويكبات والشهب بكوكب الأرض، بل ويمكنه أيضًا وضع حد لأخطار من صنع الإنسان نفسه مثل التدمير العشوائي لحضارته بما تسببه التكنولوجيا ذاتها بأشكالها المتعددة من العبث بتوازن موارد الحياة على كوكب الأرض والإخلال بنواميس الطبيعة والتنافس المدمر بين الدول. لكنهم لم يذكروا جوانب أشد خطرًا على المكنون الإنساني مثل فساد الذمم واضمحلال الضمائر وانتشار الظلم والعنصرية وعدم المساواة وغيرها من مساوئ الأخلاق التي هي في الحقيقة الخطر الأعظم المهدد لوجود الإنسان.