حين تنظر إلى خريطة العالم، قد يبدُو البحر الأحمر كخطٍّ رفيع بين قارتَي آسيا وإفريقيا. ولكن في حقيقة الأمر، هو شريان نابض، لا يقل أهميَّة عن قلب العالم التجاريِّ، يحمل في تياراته أكثر من 13% من تجارة الأرض، وينقل عبر مياهه الطاقة والغذاء والدواء من قارات الإنتاج إلى قارات الاستهلاك. إنَّه الرابط بين الشرق والغرب، بين الحقول والمصانع والأسواق، بين الطموح الاقتصاديِّ والاحتياج الإنسانيِّ، ومع كل اضطرابٍ في مياهه، يختنق العالم شيئًا فشيئًا.

منذ أواخر عام 2023، ومع تصاعد الهجمات التي استهدفت السفن التجاريَّة في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، بدأت علامات الاختناق تتَّضح.

شركات الشحن الكُبْرى مثل ميرسك وإيفر جرين أعادت مساراتها نحو رأس الرجاء الصالح، مضيفةً أكثر من أسبوعين إلى زمن العبور، ومتسببة في زيادة تكاليف النقل بنسبة تفوق 40%.. وفي المقابل، قفزت أقساط التأمين على الشحنات البحريَّة بنسبة تزيد عن 300%، وفق تقارير أبريل 2025.ما بدأ كاضطراب موضعيٍّ، تحول إلى أزمة عالميَّة، حيث لا تُقاس الخسائر فقط بالدولارات، بل بتباطؤ دوران عجلة التجارة، وارتفاع أسعار السلع الأساسيَّة التي تصل إلى المستهلكين.

ووسط هذا المشهد المتعثِّر، لم تكن التدفقات التجاريَّة وحدها مَن تعاني.. الاقتصادات الوطنيَّة شعرت بالضغط سريعًا.. مصر فقدت 40% من إيرادات قناة السويس، خلال عام واحد.. الأردن شهد تراجعًا بنسبة 20% في وارداته من الحبوب.. وباكستان، التي كانت تعوِّل على تفعيل دور ميناء جوادر كمركز لوجستيٍّ إقليميٍّ، وجدت نفسها محاصرةً بتباطؤ حركة الملاحة البحريَّة.. أمَّا الهند، التي يمرُّ أكثر من 80% من صادراتها إلى أوروبا عبر البحر الأحمر، فقد واجهت اضطرابًا متصاعدًا في سلاسل الإمداد، انعكس على صناعاتها الحيويَّة مثل الأدوية والمنسوجات.

وما زاد الصورة تعقيدًا أنَّ الأزمة لم تبقَ محصورة في مياه البحر الأحمر.. فبالتوازي، اندلعت حرب تجاريَّة شرسة بين الولايات المتحدة والصين.. فرضت واشنطن تعريفات جمركيَّة بنسبة 145% على العديد من السلع الصينيَّة، وردَّت بكين بتعريفات انتقاميَّة بنسبة 125%.. هذه الحرب التجاريَّة دفعت الدول والشركات إلى إعادة توجيه التدفقات التجاريَّة؛ ممَّا ضاعف الضغط على الممرَّات البحريَّة المتاحة، وزاد الحاجة إلى مسارات بديلة.الصين لم تتوقف عند حدود البحر الأحمر.. رأت في الأزمة فرصةً لتسريع خططها الإستراتيجيَّة لبناء بدائل لوجستيَّة بعيدة عن الممرات المُضطربة.. استثمرت بقوَّة في تطوير السكك الحديديَّة العابرة لآسيا الوسطى، مثل خط الصِّين – كازاخستان – أوروبا، لتعزيز الربط البريِّ، وتقليل اعتمادها على الممرات البحريَّة.. كما عزَّزت وجودها في موانئ شرق إفريقيا، مثل بورتسودان وجيبوتي، لتأمين نقاط ارتكاز إضافيَّة على طرق التجارة العالميَّة.. لكن رغم هذه الجهود، لا تزال الصين تواجه تحدِّيًا صلبًا: أكثر من 95% من صادراتها ما تزال تمرُّ عبر البحار، والبحر الأحمر يبقى مسارًا لا يمكن تجاهله.

التعريفات الجمركيَّة لم تضرب الصين وحدها.. دول الخليج والأردن والبحرين، التي تعتمد على صادرات الألمنيوم، الكيماويات، والصناعات التحويليَّة، وجدت نفسها فجأةً أمام ارتفاع في تكاليف الشحن، وانخفاض في الطلب العالميِّ، وتحدِّيات متزايدة لإعادة تخطيط سلاسل الإمداد.

الألمنيوم البحريني، على سبيل المثال، واجه ارتفاعًا في تكلفة النقل بنسبة 25%، بسبب اضطرار الشحنات لسلوك مسارات أطول وأكثر تكلفة؛ ممَّا انعكس على الأسعار النهائيَّة، وزاد الضغط على الأسواق.

هذه الحلقة المفرغة بين اضطرابات الملاحة البحريَّة والحروب التجاريَّة، أدَّت إلى نتيجة حتميَّة: ارتفاع أسعار السلع الأساسيَّة على مستوى العالم.. ليس فقط بفعل تكلفة النقل والتأمين الإضافيَّة، بل أيضًا بسبب تحوُّلات تدفقات التجارة، وزيادة الرسوم الجمركيَّة.. ففي نهاية كل سلسلة إمداد، هناك مستهلك يدفع الثمن مضاعفًا؛ من ارتفاع تكلفة الغذاء، إلى زيادة أسعار المنتجات الإلكترونيَّة، إلى بطء وصول الأدوية والمواد الخام.إنَّ المفارقة المؤلمة، أنَّ البحر الأحمر، الذي كان -لقرونٍ- طريقًا للتقارب بين الشعوب والتجارة، أصبح اليوم عقدةَ اختناق في قلب النظام التجاريِّ العالميِّ.. وإذا كانت الحرب التجاريَّة بين الولايات المتحدة والصين، قد أشعلت فتيل التوتر، فإنَّ هشاشة البنية اللوجستيَّة العالميَّة سرَّعت الانفجار.

رغم الصورة القاتمة، لا تزال الفرصة قائمة.. إعادة هندسة سلاسل الإمداد بما يراعي تعدُّد المسارات، تنويع الموانئ، وتبنِّي تقنيات ذكيَّة مثل البلوكتشين، وأنظمة التتبع اللوجستيِّ المتقدِّم، قد يوفِّر جزءًا من الحل.. إضافة إلى ذلك، لابُدَّ من إنشاء تحالفات لوجستيَّة إقليميَّة حقيقيَّة، تقوم على المصالح المشتركة، لا على التنافس الأحاديِّ.

البحر الأحمر اليوم يختنق أمام أعيننا، لكنَّه ما زال يملك القدرة أنْ يعود شريانًا يغذِّي العالم إذا أدركنا حجم التحدِّي مبكِّرًا.. كما أنَّ الدَّم لا يتدفَّق بلا قلب نابض، فإنَّ التجارة لا تزدهر بلا ممرَّات آمنة.. وفي اللحظة التي نظنُّ فيها أنَّ الانهيار بعيد، يكون قد بدأ بالفعل من تحت أقدامنا.

فالبحر الأحمر شريانُ التجارة الذي يغذِّي العالم، يختنق أمام أعينِنَا.

د. عبدالقادر حنبظاظة – جريدة المدينة

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: البحر الأحمر أکثر من

إقرأ أيضاً:

الطيور المهاجرة في البحر الأحمر.. رحلة الحياة بين القارات| شاهد بالصور

تعتبر سواحل البحر الأحمر من أهم المحطات البيئية عالميًا لهجرة الطيور، حيث تعبرها ملايين الطيور خلال موسمي الربيع والخريف في طريقها بين أوروبا وأفريقيا، وتعد هذه الظاهرة الطبيعية مشهدًا مدهشًا يبرز غنى التنوع البيولوجي في مصر، وأهمية المنطقة كموطن وممر رئيسي لهذه الكائنات.

محطة راحة واستقرار على شواطئ البحر الأحمر

تمر أعداد هائلة من الطيور المهاجرة فوق شواطئ البحر الأحمر، وتتوقف بها مؤقتًا للاستراحة أو التعشيش، ويُعزى ذلك إلى وفرة الغذاء البحري، مثل الأسماك الصغيرة والهائمات البحرية، وتنوع البيئة ما بين بحرية، وساحلية، وجبلية، حي تتوفر هذه العوامل للطيور ما تحتاجه للبقاء والتكاثر.

الطيور الجارحة والضخمة في المناطق الجبلية

في المناطق الجبلية القريبة من الساحل، يرصد سكان حلايب وشلاتين والمهتمون بالبيئة طيورًا جارحة ضخمة، أبرزها النسور، وتقترب بعض هذه الطيور من المناطق السكنية، مما يجعل رصدها أمرًا شائعًا خلال مواسم الهجرة.

الجزر البحرية: ملاذ آمن للطيور المهددة

تشكل الجزر البحرية في البحر الأحمر، مثل جزر الغردقة، والجزر الشمالية، وجزر وادي الجمال – حماطة، ومنطقة جبل علبة، بيئة آمنة ومثالية للطيور المهاجرة، حيث تعتبر تلك الجزر مناطق محمية طبيعية تخلو من الأنشطة البشرية المكثفة، ما يسمح للطيور بالتكاثر وبناء أعشاشها، خاصة الأنواع المهددة بالانقراض.

أنواع مميزة من الطيور تم رصدها

تشمل الطيور التي تم رصدها أنواعًا نادرة مثل "النورس العجمة"، الذي سُجل منه حوالي 6,500 طائر خلال موسم الهجرة، إلى جانب 7,627 طائرًا من نوع "الخطار"، ونحو 11,000 طائر من نفس الفصيلة، كما تم رصد صقر الغروب، المعروف بمهاراته في اصطياد الطيور الأصغر منه.

مسار الهجرة: الأخدود الأفريقي العظيم

أوضح أحمد عبد الله، الخبير البيئي وأحد المهتمين بالرصد البيئي للطيور، في تصريحات صحفية، أن مصر تحتل المرتبة الثانية عالميًا من حيث كثافة عبور الطيور المهاجرة، تحديدًا عند شمال البحر الأحمر، الذي يُعرف بمسار “الأخدود الأفريقي العظيم”.

وتمر الطيور عبر هذا المسار نحو شبه جزيرة سيناء، باعتبارها أقرب نقطة تربط بين قارتي آسيا وأفريقيا.

وتعتبر منطقة جبل الزيت إحدى النقاط الحرجة في هذا المسار، حيث تُعرف باسم "عنق الزجاجة" لضيق الممر وتركّز أعداد هائلة من الطيور بها.

حماية الطيور: تعاون بيئي متكامل

وقال الخبير البيئي إنه في ظل الأهمية البيئية الكبيرة لهذا الممر، يتم التعاون بين وزارة البيئة ووزارة الكهرباء من خلال فرق متخصصة وخبراء في رصد حركة الطيور، ويهدف هذا التعاون إلى تأمين عبور آمن لها، خاصة أن المنطقة تحتضن محطة رياح جبل الزيت، وهي الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط.

الطيور المهاجرة.. سفراء التنوع البيولوجي

الهجرة الموسمية للطيور عبر البحر الأحمر لا تُعد مجرد حدث طبيعي، بل تمثل ظاهرة بيئية ذات أهمية علمية وسياحية، فهي تسلط الضوء على الغنى البيولوجي في مصر، وتؤكد ضرورة الحفاظ على هذه البيئات الطبيعية لضمان استمرار التوازن البيئي وحماية الأنواع المهددة بالانقراض.

طباعة شارك الطيور المهاجرة البحر الأحمر أوروبا أفريقيا التنوع البيولوجي مصر

مقالات مشابهة

  • 5.7 مليار جنيه استثمارات عامة موجهة لمحافظة البحر الأحمر لتنفيذ 189 مشروع تنموي
  • أنصار الله.. معادلة الهيمنة الاستراتيجية في البحر الأحمر
  • استشهاد وإصابة ثلاثة صيادين في البحر الأحمر
  • إيكونوميست: انسحاب حاملة الطائرات الأمريكية "ترومان" من البحر الأحمر.. ما المشاكل والاخفاقات التي واجهتها؟ (ترجمة خاصة)
  • الطيور المهاجرة في البحر الأحمر.. رحلة الحياة بين القارات| شاهد بالصور
  • رئيس الوزراء يتدخل لحل أزمة المياه في البحر الأحمر
  • محافظ البحر الأحمر: حل أزمة المياه في الغردقة قبل العيد
  • مدرب الأهلي يستمتع بالتجديف في جزر البحر الأحمر .. فيديو
  • التبادل التجاري بين مصر ولبنان يرتفع 29.3% إلى مليار دولار في 2024
  • مناقشة مشروعي قانون التجارة و السجل التجاري